في مثل هذا اليوم13 اكتوبر1881م..
إحياء اللغة العبرية عندما وافق «اليعازر بن يهودا» وأصدقاؤه على استعمالها حصريًا في محادثاتهم.
تمت عملية صناعة اللغة العبرية الحديثة في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث تحولت اللغة العبرية من لغة مكتوبة خاصة بالطقوس الدينية إلى لغة محكية واللغة الرسمية لدولة إسرائيل. لم تكن عملية إحياء اللغة العبرية عملية لغوية على نحو محض، بل كانت جزء من فكر مرتبط بالصهيونية وتأسيس دولة إسرائيل في عام 1948.
وتعتبر عودة استخدام اللغة العبرية القديمة بانتظام أمر فريد من نوعه، فلا يوجد مثال آخر للغة بائدة أصبحت لغة وطنية واللغة الأم لملايين البشر.
وطرأت تغيرات لغوية في اللغة العبرية خلال عملية إحيائها. فبالرغم من إصرار قادة العملية على أن عملهم يكمن فقط في الإكمال من حيث انتهت حيوية اللغة، إلا أنهم في حقيقة الأمر قاموا بإنشاء وضع جديد للغة، وتنتشر اليوم في أنحاء إسرائيل الخصائص المشتقة من اللغة العبرية على مر العصور وأيضاً من اللغات الأوربية وتترأسها اللغة اليدشية واللغة العبرية الحديثة.
لم تكن اللغة العبرية لغة أم منذ انتهاء استخدام لغة الحكماء العبرية المحكية في القرن الثاني الميلادي، لكن اليهود كانوا يستخدمونها في القرون الوسطى في عدد كبير من التخصصات مما حافظ على بقاء جزء كبير من السمات المميزة للغة العبرية. أولاً، تم الحفاظ على اللغة العبرية التوراتية من خلال مصادر معترف بها على رأسها التناخ (خاصة الأجزاء المستخدمة منه في الطقوس مثل التوراة والهفتاروت والمجيلوت والمزامير) والميشناه. إلى جانب ذلك، عُرفت العبرية من خلال الترانيم والصلوات والمدارش وما شابه
Mishnetorah-1vol-menukad.JPG
اُستخدمت اللغة العبرية القديمة في القرون الوسطى كلغة مكتوبة في المؤلفات اليهودية، ويتضمن ذلك الهالاخاه والأحكام الدينية وكتب التأمل. وكان هذا الاستخدام للعبرية في أغلب الحالات غير طبيعياً البتة خاصة في بداية عملية إحياء اللغة في القرن الثامن عشر في أوروبا. فكانت اللغة منمقة ومليئة بالاقتباسات والأساليب الغير نحوية ويخالطها لغات أخرى خاصة الآرامية.
وعلاوة على ذلك فإن الجزء الخاص بالأدب الربانى لم يكتب باللغة العبرية القديمة، وإنما كتب بإحدى اللغات التي استخدمها اليهود مثل الآرامية والعربية اليهودية واللغة الييديشية وما إلى ذلك.
لم يكن استخدام اللغة العبرية محصور في الكتابة، فكانت تستخدم أيضاً كلغة منطوقة في الكنيس وغرف الدراسة اليهودية. وبهذا حُفظت أصوات اللغة العبرية ولفظ حروفها العلة والصحيحة. وبالرغم من ذلك فإن تأثير اللغات الأجنبية في المنطقة قد أحدث الكثير من التغيرات التي أدت إلى ظهور ثلاثة أشكال مختلفة من اللفظ:
العبرية الإشكنازية: يستخدمها يهود أوروبا الغربية والشرقية، وقد حافظت في الغالب على بناء حروف العلة، لكن ربما أضاعت النبر والمضاعفة، وهذا مما لا يمكن تأكيده حيث لا توجد تسجيلات لأصوات اللغة ولكناتها.
العبرية السفاردية: يستخدمها يهود إسبانيا وإيطاليا بالإضافة إلى عددكبير من يهود البلاد الإسلامية، وقد حافظت على بناء يختلف عن بناءالتحريك الطبري المعروف (حيث تحتوى فقط على خمس حركات كنتيجة للمزج بين حركتى الباتاح والقامتص، وحركتب الصيرية والسيجول) لكنها حافظت على الحروف الصحيحة والنبر وكذلك الشدة والسكون.
العبرية اليمنية: يعتقد البعض أنها حافظت على لفظ اللغة العبرية التوراتية بالكامل تقريباً، ولكن لم تكن اليمن معروفة ضمن الأماكن التي حدثت بها عملية الإحياء.
توجد ضمن كلاً من هذه المجموعات مجموعات جانبية أخرى مختلفة في اللفظ. فهناك على سبيل المثال اختلافات بين العبرية التي يتحدثها يهود بولندا وتلك التي يتحدثها يهود لتوانيا أو الأخرى التي يتحدث بها يهود ألمانيا.
تُشير الأدلة التي اكتشفها الباحثون إلى ظهور نسخة محكية من اللغة العبرية في أسواق القدس خلال الخمسين سنة السابقة لبداية عملية إحياء اللغة العبرية. فقد احتاج يهود السفارد الذين تحدثوا اللادينوا أو العربية ويهود الإشكناز الذين تحدثوا اليدشية إلى لغة مشتركة لأغراض تجارية، فكانت اللغة العبرية الاختيار الأكثر تجلياً. بالرغم من أن اللغة العبرية كانت تستخدم في هذه الحالة، إلا أنه يجدر الإشارة أنها لم تكن لغة أم بل كانت لغة مشتركة للتواصل بين اليهود.
قامت عملية إحياء اللغة العبرية في وضع لغوي يسوده ازدواجية اللغة حيث توجد لغتين في ثقافة واحدة؛ لغة مرموقة وأخرى عامية. ولقد تضاءلت هذه الظاهرة في أوروبا مع بداية اللغة الإنجليزية في القرن السادس عشر، لكن لا زال هناك فروق بين اللغة المحكية في الشارع واللغة المكتوبة. تحدث الروس على سبيل المثال اللغة الروسية الشعبية فيما بينهم، ولكن كانوا يكتبون بأسلوب أكثر أدبية باللغة الروسية أو الفرنسية، بينما تحدث الألمان بلهجة محلية وكتبوا باللهجة الألمانية الرسمية. وكان اليهود لديهم وضع مشابه: فاللغة اليدشية هي اللغة المحكية، أما اللغة العبرية هي اللغة المكتوبة لأغراض خاصة بالطقوس الدينية، بينما استخدموا الروسية والفرنسية والألمانية وغيرها للأغراض الدنيوية.
إحياء اللغة العبرية المكتوبة
جرت عملية إحياء اللغة العبرية أثناء تطبيقها واقعياً في خطين متوازيين يتمثلان في إحياء اللغة العبرية المكتوبة من جهة وإحياء اللغة العبرية المحكية من جهة أخرى. فلم تكن العمليتان متصلتان في العقود الأولى القلائل، بل كانت تحدث في أماكن مختلفة أيضاً، حيث كانت اللغة العبرية المكتوبة تُجدد في مدن أوربية، بينما طُورت اللغة العبرية المحكية بشكل أساسي في فلسطين. لم تبدأ العمليتان بالاندماج حتى بداية القرن العشرين، فكانت هجرة حاييم نحمان بياليك إلى فلسطين في عام 1924 نقطة فاصلة في هذه العملية. لكن الاختلاف الكبير بين اللغة العبرية المحكية والمكتوبة بقي بعد نقل الأخيرة إلى فلسطين، ولا زال هذا الاختلاف قائم إلى اليوم. لم تبدأ خصائص اللغة العبرية المحكية في التسرب إلى الإنتاج الأدبي إلا في الأربعينات من القرن العشرين (في كتب موشى شامير ويزهار سملنسكى)، ولم تظهر اللغة العبرية المحكية على نحو واسع إلا في التسعينات وكتب ايتغار كيريت مثال على ذلك.
اللغة العبرية أثناء حركة هاسكالا:
طرأت تغيرات في اللغة العبرية قبل عملية إحياء الكتابة العبرية الأدبية أثناء حركة هاسكالا اليهودية المشابه لحركة التنوير العلمانية. رأى أعضاء هذه الحركة المدعوون ماسكيليم والذين ناءوا بأنفسهم عن اليهودية الحاخامية بأن لغة الأدب الرفيع يجب أن تكون العبرية أو اللغة العبرية التوراتية. فكانوا يعتبرون الميشنايك واللغة الآرامية وأشكال أخرى من العبرية ناقصة وغير مناسبة للكتابة. وطغى على الكتابات الأدبية أثناء حركة هاسكالا مبدأين هما: الصفائية واللغة المنمقة. وينص مبدأ الصفائية على أن جميع الكلمات المستخدمة يجب أن تكون من أصل توراتي حتى لو لم يكن المعنى كذلك. أما مبدأ اللغة المنمقة فهو قائم على جلب آبيات كاملة وتعابير كما هي من التناخ، وكلما كان البيت منمق كلما اُعتبر أكثر جودة. وتعتبر الكلمات المفردة التي ترد في النص مرة واحدة ميزة لغوية أخرى تزيد من مقام النص.
يُعتبر إليعيزر بن يهودا (1858-1922) محيي اللغة العبرية بالرغم من أن مساهمته الرئيسية في هذا المجال كانت فكرية ورمزية؛ حيث كان أول من نشر فكرة إحياء اللغة العبرية، وأول من نشر مقالات في الصحف بخصوص هذا الموضوع، وشارك في مشروع يُعرف بقاموس بن يهودا. عمل بن يهودا بلا كلل لتوعية الناس في هذه القضية وحارب خصومه. لكن الإجراءات العملية التي أدت أخيراً إلى إحياء اللغة العبرية لم يقم بها بن يهودا في القدس، بل قامت في مستوطنات الهجرة اليهودية الأولى والثانية إلى أرض فلسطين. أُسست المدارس العبرية الأولى في هذه المستوطنات، وأصبحت اللغة العبرية محكية ومستخدمة في الأمور الحياتية اليومية، وأصبحت أخيراً لغة وطنية ونظامية. وتنبع شهرة بن يهودا من مبادرته في نشر الفكرة وقيادته الرمزية لعملية إحياء اللغة العبرية.
يُقسم إحياء اللغة العبرية إلى ثلاثة مراحل تتزامن مع الهجرة اليهودية الأولى إلى فلسطين (1) والهجرة اليهودية الثانية إلى فلسطين (2) وفترة الانتداب البريطاني(3). تمركز النشاط في المرحلة الأولى على المدارس العبرية في المستوطنات وفي نادي بن يهودا، وتوسع استخدام العبرية في المرحلة الثانية إلى الاجتماعات والنشاطات العامة، وأصبح اليشوف والسكان اليهود يستخدمون العبرية لأغراض عامة خلال الانتداب البريطاني. وكان للعبرية في هذه المرحلة جانبين محكي ومكتوب، وانعكست أهميتها في مكانتها الرسمية أثناء الانتداب البريطاني. تميزت جميع المراحل بتأسيس العديد من المنظمات التي كان لها دور فعال وفكري في نشاطات اللغة العبرية. ونتج عن ذلك تأسيس مدارس ثانوية عبرية مثل المدرسة الثانوية العبرية في القدس ومدرسة(هرتسليا) في تل أبيب والمدرسة العلمية التطبيقية في حيفا، والجامعة العبرية والفيلق اليهودي والاتحاد العام لنقابات العمال هستدروت وأول مدينة يهودية تل أبيب.
وكانت العبرية على مر الزمان لدى مؤيديها ومعارضيها على حد السواء نقيضاً لللغة اليدشية. لقد قامت اللغة العبرية، لغة العلمانية والصهيونية والرواد الشعبيين وتحول الأمة اليهودية إلى أمة عبرية تحتل أرضاً، وقفت في مواجهة اللغة اليدشية، لغة المنفى والحاخامية والبرجوازية. ويُطلق على اللغة اليدشية لغة عامية إساءة لها، وواجه المتحدثين بها معارضة قاسية.
ومع ذلك يعتقد جلعاد تسوكرمان أن اللغة اليدشية هي مساهم أول في العبرية في إسرائيل لأنها كانت اللغة الأم للغالبية الساحقة من الذين عملوا في إحياء اللغة العبرية والرواد الأوائل في أرض إسرائيل. ويرى تسوكرمان أنه بالرغم من أن الذين عملوا على إحياء العبرية رغبوا في التحدث بالعبرية مع قواعد ونطق السامية إلا إنهم لم يتمكنوا من تجنب عقلية الأشكناز الناتجة من منشأهم الأوربي. وقال بأن محاولتهم لنكر جذورهم الأوربية ونفيهم للشتات وتجنبهم للتهجين (كما هو واضح في اليدشية) قد باءت بالفشل. “ولو كان الذين عملوا على إحياء العبرية يتحدثون العربية من يهود المغرب لكانت اللغة العبرية في إسرائيل لغة مختلفة تماماً وأكثر ساميةً وراثياً وتصنيفاً. ولا يمكن مقارنة أثر السكان المؤسسين مع أثر المهاجرين اللاحقين.” ويقول تسوكرمان أن التهجين علامة ثراء وحيوية لا تلوث وشوائب.
واجهت عملية إحياء اللغة العبرية المحكية منذ بدايتها اعتراضات من قبل اتجاهات مختلفة، فنجد أن الحريديم قد اعترضوا على استخدام (الغة المقدسة)لأغراض دنيوية، وجاء ذلك في إطار اعتراضهم على الصهيونية بشكل عام. كما عارض هذه العملية أيضاً هؤلاء الذين رفضوا أن يختلط اليهود بغيرهم من الشعوب الأوروبية أو الحديث بلغاتهم. وكذلك الحال بالنسبة لأصحاب حركة اليديشيزم الذين قبلوا فكرة أن يكون لليهود لغة قومية ولكنهم حددوا أن تكون هذه اللغة هي لغة الييدش. وهناك من استهان بفكرة إحياء لغة الحديث العبرية مثل هرتسل في كتابه الدولة اليهودية: “إنه من غير الممكن أن تدار دولة اليهود باللغة العبرية، لأنه من منايتقن اللغة العبرية إلى الدرجة التي تجعله قادر على شراء تذكرة قطار؟
وكانت هناك دائماً مناقشات كثيرة بمجمع اللغة حول طرق ابتكار الكلمات والنطق الصحيح للغة، واعترضت مجموعة من الأدباء العبريين في أوروبا على تحديث الكلام باللغة العبرية واستخدام طريقة النطق السفاردى.
وكانت شخصية بن يهودا نفسه محور نقاشات قوية فحاول معارضيه تشويه سمعته ومضايقته، وقد أطلقوا على الجمعية التي أسسها باسم (لغة واضحة) اسم (لغة بغيضة)، بينما حاول مؤيديه الإعلاء من شأنه وتمجيد أعماله.
وكانت مرحلة الإحياء جزء من التغيير الواسع الذي لحق بالمجتمع اليهودى كله في العصر الحديث، ومن أهم عوامل نجاح عملية إحياء الحديث العبري الاتصال الأيديولوجى. وبالإضافة إلى هذا العامل ذكر (بنيامين هرشيف) ثلاثة عوامل أساسية قامت عليها عملية احياء اللغة: الحياة اليهودية في المهجر متمثلة في المصادر المكتوبة والصلاة، وقراءة التوراة فيي المعابد، وكتابة الأدب الرباني، والكلمات العبرية الممزوجة بالييدش وبقية اللغات اليهودية. أما العامل الثاني هو إحياء العبرية المكتوبة من خلال أدب فترة الهسكالاه وكذلك الأدب المكتوب منذ مندلي وما بعده. وأخيراً إقامة جماعات عبرية في فلسطين وهذه الجماعات كانت منغلقة وكانت بعيدة عن التأثير القوى للتاريخ اليهودى في أوروبا، كما أن هذه المجموعات قد قد ظهرت في مكان لم تكن فيه العبرية لغة بديلة (مثل أن تكون العربية هي اللغة السائدة في مكان بينما التركية هي لغة الحكومات على سبيل المثال). وبدمج كل هذه العناصر معاً تكونت أيديولوجيا لتطوير ثقافة عبرية أصلية لليهود في فلسطين.!!
Discussion about this post