الأديب الشهيد غسان كنفاني
في رواية “عائد إلى حيفا” : فراسة أدبية في استشعار ثقافة التطبيع فكراً و ممارسة !!..
” سيأتي اليوم الذي تكون فيه الخيانة وجهة نظر ” ..
رؤية تحليلية
د.علي أحمد جديد
تُعدّ رواية “عائد إلى حيفا” للأديب الكاتب “غسّان كنفاني” ، وهي من أبرز الرّوايات في الأدب الفلسطيني المقاوِم ، وتمت ترجمتها إلى عدّة لغات ، وتحوّلت أيضاً لأعمال سينمائيّة مختلفة وخالدة ، لأن الفكرة التي تحملها الرّواية . كتسليط الضّوء على مفهوم الوطنيّة والمواطنة الصحيحين ، وإظهار أثر الظّروف التي أودت بمأساة عائلة “سعيد” وهو الشّخصيّة الرّئيسيّة في الرواية ، وفيها طرح واقع الخطاب الفلسطينيّ الذي يُظهِر حبَّ الكاتب ولهفته المكبوتة للعودة إلى بلده (حيفا) من خلال سطور هذه الرّواية .
“هذه هي حيفا إذن ، بعد عشرين سنة” .
في ظهر اليوم الأخير من حزيران/يونيو 1967 ، كانت سيارة (فيات) رمادية اللون تحمل رقماً أردنياً تشق طريقها نحو الشمال ، عبر مرج بن عامر قبل عشرين سنة ، وتتسلق الطريق الساحلي إلى مدخل حيفا الجنوبي . وحين عبر الشارع ودخل إلى الطريق الرئيسي انهار الجدار كله ، وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع ، ووجد نفسه يقول لزوجته (صفية ) :
– هذه هي حيفا يا صفية ..
وبعد الانتهاء من قراءة الرواية يدرك القارئ ماذا يعني أن يكون “غسان كنفاني” و غيره من المثقفين الفلسطينيين والعرب النموذج الحاضر للمثقف الثوري الملتزم في الوعي والانتماء للتاريخ الحضاري الفلسطيني والعربي ، وهاماً في التعبير عن القيمة الكبرى والحيوية لدور الثقافة في مواجهة التحديات وفي تعزيز قيم المقاومة والانتماء وتعزيز الصمود والثقة بالقدرات الوطنية والقومية .
وبإدراك المضامين الفكرية والسياسية والاجتماعية العميقة التي عبر عنها “غسان كنفاني” في إبداعاته الأدبية والصحفية ، فذلك لأنه لم يكن يكتب أدباً منفصلاً عن واقعه الفلسطيني ، وكان مثقفاً ثورياً وحقيقياً برؤيته وبقناعاته وثوابته الوطنية والإنسانية العميقة في كل كتاباته وإبداعاته الأدبية ، والتزم ثوابتها وكافح من أجلها ، حتى دفع حياته ثمناً لها .
كان الشهيد (غسان كنفاني) مقدمة لمشروع ثقافي فلسطيني وطني بالمعنى الاجتماعي والسياسي والفكري بصورة منهجية يكشف في ركائز مقارباته الثقافية للواقع الفلسطيني في نصوصه الإبداعية الأدبية والسياسية .
وبطبيعة الحال فإن أبعاد وجوانب روايته “عائد إلى حيفا” لها علاقة بالذاكرة والتاريخ وبعلاقة الإنسان الفلسطيني بالمكان ، وهي أبعاد تستحق التأمل والتحليل .
ففي قراءة الرواية “عائد إلى حيفا” وَصْفُ الحالة والمعاناة الفلسطينية التي تجسدت في والدين (أم وأب) فقدا طفلهما (خلدون) في حيفا عام 1948 ، وما تسببت به النكبة من التهجير واللجوء ، لكنهما لم يفقدا الأمل والحلم بإيجاده ولقائه من جديد ، وهذا ما تم في حدث الرواية بعد عشرين عاما ، أي بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة و القدس عام 1967، حين توجه (سعيد) الشخصية الرئيسية في الرواية ومعه زوجته(صفية) إلى بيتهما في حيفا ليلتقيا ابنهما (خلدون/دوف) . غير أن ما جرى منذ بداية الرحلة وأثناءها يتجاوز مسألة الدراما والعواطف ، ليضع القارئ أمام نص مدهش ، يفكّك فيه الأديب “كنفاني” وبمنتهى الذكاء ركائز الوعي السياسي ، ومن بينها الفكرة الأكثر خطورة وجدية التي هي فكرة (ثقافة التطبيع) . على كل حال فإن هذه القراءة الخاصة لرواية “عائد إلى حيفا” ، قد تصيب وقد تخطئ ، ومع ذلك فإنها ليست، سوى محاولة مدهشة ومتعبة في نفس الوقت .. لكنها تستحق التعب كعمل أدبي إبداعي لكاتب فلسطيني مدهش أعطى عمره وحياته لشعبه ولقضيته العادلة ، ليكون الإنسان جزءاً من فكرة إغناء الوعي بالتحديات .
في رواية “عائد إلى حيفا” يتجاوز كنفاني الدهشة ويأخذ القارئ في حدث درامي قد يبدو متوتراً ، لكنه يقوم بذلك بأسلوب سردي أدبي عالٍ يحفز القارئ ليعي ويدرك أسس ومنطلقات مهزلة (وهم التطبيع) من خلال تفكيكها بمهارة وبراعة ، وفي ذات الوقت كان يعمل على تحطيمها ، وقد انجز ذلك دون أن يستخدم تسمية المصطلح المعروف (التطبيع) بصورة مباشرة ، لأنه لم يكون مفهوما مطروحاً ولا رائجاً في زمن كتابة الرواية 1969 ، إذ أن هذه الفكرة كانت تلوح في وعي “غسان كنفاني” المتوقد وكأنه يتوجس منها . ولكي يفكك أبعادها بصورة مقنعة و بعيدة عن اللغة الخطابية المباشرة ، فقد قام على بناء الرواية بعقلانية الباحث العلمي من خلال تحديد إشكالية نجاح (سعيد) في استعادة إبنه بالحوار والإقناع وهو الذي فقده ليتربى ويكبر في ظل شروط بيئة الأسرة اليهودية التي استولت عليه وعلى وعيه وذاكرته ووجدانه ، كما استولت على بيته ومدينته ووطنه بالقوة ، ولم ييأس من استعادة الحقوق (ابن أو وطن) رغم أنه مكبّل بقيود الهزيمة .
وقد اعطى “غسان كنفاني” روايته مداها الأعمق في الاقناع حين قام بتصميم الحدث الروائي ليكون “ممثل” الطرف الآخر ، تجسيدا لمشروع استعمار استيطاني وإرهابي عنفي مفعم بعنصرية شخصية غير دينية يهودية ، ولكن من ناحية وراثية كشخصية فلسطينية ، لتشكل نقطة الارتكاز الحاسمة في مقاربة المشكلة ليست في طبيعة الفرد المحددة بيولوجياً ولكن بالوعي والممارسة حتى يصبح جزءاً عضوياً وأساسياً من مشروع الاستعمار الاستيطاني والعنصري . بمعنى أن يكون الفرد صهيونياً فكراً وممارسة ولو لم يكن يهودياً ، كما يمكن أن يكون مع الفلسطيني واستعادة حقوقه أيضاً دون أن يكون عربياً أو فلسطينياً .
لذلك تعمَّد أن يجعل من الابن “خلدون” معادلا موضوعياً ورمزياً لفلسطين ، فكما تم الاستيلاء على فلسطين بالقوة ، كذلك أيضا تم الاستيلاء على “خلدون” من قبل عائلة يهودية استيطانية أخضعته لغسيل دماغ شامل ، ي باستحضار كل ما قام ويقوم به الاحتلال الصهيوني في فلسطين من شطب ذاكرة المكان وتغيير حقيقة التاريخ . وبالتالي لا يمكن للأب “سعيد” استعادة ابنه “خلدون” أو فلسطين من سيطرة احتلال عنصري بالحوار ، أي بالتطبيع ودون مقاومة أو حرب لأن :
“ماأُخِذَ لايُسترَد بغير القوة”
وهي الفكرة الأساسية التي يطرحها “غسان كنفاني” في روايته ورائعته “عائد إلى حيفا” . أي استحالة استعادة الابن أو الوطن المُغتصَب دون مقاومة .
وحين يقول “سعيد” لزوجته “صفية” وهما ينطلقان في رحلتهما إلى حيفا :
– لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفوراً ، ولم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ !! لسواد عينيك أو عينيّ .. لا . ذلك جزء من الحرب . إنهم يقولون لنا : تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقياً . عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدماً لنا ومعجبين بنا . ولكن رأيت بنفسك لم يتغير شيء … كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير ” .
وبذلك يحلل “غسان كنفاني” فكرة أن انفتاح العدو على محيطه الفلسطيني والعربي ليس شأناً عفوياً… لكنه انفتاح القوة التي تريد أن تحتل الوعي والحالة النفسية بعد أن استولت على الأرض والجغرافيا ، لهذا فإن المحتل يقوم بعملية الانفتاح ليرسخ فكرة انتصاره وحقه في احتلال المكان وإظهار قوته الشاملة ، وأنه لا جدوى من مقاومة لاتفوق قوته العاتية ، لانه يريد ترسيخ مفهوم التفوق ليس في الميدان العسكري فقط ، بل وفي السياسة واستلاب الوعي النفسي والحضاري .. لكنه يقدم ذلك باعتباره تعبيراً عن “تقاطع المصالح” ومدى “إنسانيته”… أي بالوهم والإيهام الكبيرين فيسقط في مصيدته الكثير من الساذجين الفلسطينيين والعرب تحت عنوان “المصالح الاقتصادية المشتركة” ، أو عبر المقارنة بين سلوك الأنظمة العربية السلطوي القهري تجاه شعوبها مقارنة بتصرف إسرائيل مع الفلسطينيين :
“انظروا إلى إسرائيل إنها أكثر إنسانية ورحمة من العرب”!. فهي تسمح لنا بزيارة بيوتنا ومدننا وقرانا التي تحتلها وتستوطنها . وفي الدخول إلى الحوار مع (ميريام) اليهودية التي تحتل بيت “سعيد وصفية” في حيفا يفكك الكاتب “غسان كنفاني” الفكرة بصورة أكثر عمقاً حين يقول لها :
– أقصد أن وجودك هنا ، في هذا البيت ، بيتنا نحن ، بيتنا أنا وصفية ، هو موضوع آخر ، جئنا فقط ننظر إلى الأشياء ، هذه الأشياء لنا ، ربما كان بوسعك أن تفهمي ذلك . طبعا نحن لم نجئ لنقول لك أخرجي من هنا ، فذلك يحتاج إلى حرب .
وفي هذه الجملة يحسم الروائي “غسان كنفاني” النقاش مرة واحدة لا تترك مجالاً لأي تفسير آخر .. أي أن استعادة البيت ، واستعادة حيفا واستعادة فلسطين واستعادة ابنه تحتاج شروطاً مغايرة تماماً لشروط اللحظة الآنية ..
هذا التهديد الثقافي والسياسي المحتمل بصورة مباشرة وملموسة، بصورة منهجية مسألة ملحة وراهنة لايمكن حله بالحوار لأنه “يحتاج إلى حرب” .
وأخيراً ..
======
لابد من الوعي بأن الوهم السياسي والمعرفي الثقافي الذي يسعى اليوم إلى ترسيخ فكرة حل الصراع بإدارة الحوار (التطبيع) وبالقدرة على الإقناع ، في واقعٍ يقول بأن استرداد الحقوق هو صراع شامل يستهدف تغيير موازين القوى بالمقاومة كي لايحدث تشويهٌ للوعي الجمعي في محددات الصراع (الوجودي) في أساسه .
وإن أي تجاهل لخطورة مايجري لترسيخ (ثقافة التطبيع) ودعمها تحت ضغط موازين القوة والهيمنة الباطلة ،واعتبارها قدَراً إلهياً وحقيقةً أزلية ، إنما يعني لجوءاً إلى تفكير طوباوي وغير واقعي في إنهاء الاحتلال والتخلي عن الموروث الحضاري الكبير ، وعدم الثقة بالأجيال الحالية والمستقبلية ، والاستهانة بقدرتها على مواصلة النضال حتى انتزاع الحقوق واستردادها ، وقطع الطريق أمام أي مقاومة .
Discussion about this post