قراءة في كتاب
“اغتصاب العقل” ..
د.علي أحمد جديد
كتاب “اغتصاب العقل” للكاتب (جوسيت ابراهام ميرلو) هو عمل أدبي من فئة (الأدب العلمي والتنويري) ، فيه استعراض عميق ومناقشة مكثفة لآليات التلاعب النفسي وتأثيراتها في عقل الإنسان . حيث يقوم فيه المؤلف الهولندي الأصل (جوسيت أبراهام ميرلو) برحلته الاستكشافية لفهم إمكانية القوى الخارجية على تشكيل وتغيير أفكار الإنسان وسلوكياته من خلال تقنيات السيطرة على عقل الإنسان والعبث فيه للسيطرة عليه وتوجيهه .
يبدأ (ميرلو)كتابه بتقديم شرحه لمفهوم منهجية “إبادة العقل” ، مشيراً إلى أن هذه العملية لاتقتصر على الأنظمة الاستبدادية وحسب ، ويمكن أن تتغلغل في جميع جوانب الحياة اليومية . بأسلوب عميق ومدعم بتجارب الكاتب الشخصية وخبراته التي استطاع اكتسابها خلال الحرب العالمية الثانية إضافة إلى ملاحظاته حول الأساليب التي تم استخدامها أثناء حرب الجزيرة الكورية . ويؤكد بأن تقنيات السيطرة على العقل ليست دائماً واضحة وصريحة ، ويمكن أن تكون في الغالب خفية ومتنوعة ، من خلال الرسائل المتكررة إلى تفكيك أنظمة الاعتقادات بشكل منهجي ومدروس بدقة متناهية . يركز (ميرلو) في كتابه على كيفية استخدام القلق والخوف والأزمات لجعل الأفراد أكثر قابلية للتأثر وللتلاعب الذهني . كما يستعرض دور الدعاية ووسائل الإعلام في تشكيل الأفكار والمعتقدات ، حين يوضح (ميرلو) بأن التعرض المستمر لأفكار معينة ، وخصوصاً في حالات الحماسة والاحتياج العاطفي ، حيث يؤدي ذلك إلى قبولها و استيعابها دون أي رفض أو تفكير نقدي ، وهو ماتعتمد على استخدامه الأنظمة الشمولية .
ويناقش الكاتب كيفية مقاومة مايمكن تسميته (الإكراه العقلي) ، مؤكداً على أهمية الوعي والتفكير النقدي كأسلحة دفاعية عن سلامة العقل وعن الصحة النفسية . لأن فهم آليات التلاعب يمنح الأفراد القدرة على التساؤل والتنبه وعلى وتحدي الرسائل والأساليب القسرية .
إن كتاب”اغتصاب العقل” ليس تحليلاً تاريخياً فقط بل تكمن أهميته في تقديم الرؤى الحيوية المتعلقة بالعصر الحالي الذي نعيش فيه أيضاً ، حيث تزداد تأثيرات وسائل الإعلام الرقمية وتقنيات التسويق النفسي فيقدم ارشادات للقارئ المتلقي والتحذيرات المثبتة بالأدلة العلمية والعقلانية ليكون الفرد على دراية ووعي بسلامة أفكاره ومعتقداته في مواجهة أي محاولات للتلاعب المحتمل . كما يُعَدُّ الكتاب مرجعاً ضرورياً لكل من يسعى إلى فهم ديناميكيات السيطرة على الفكر والتلاعب ، إذ يحاول الكتاب توضيح كيفية التحول الغريب للعقل البشري الحر إلى آلة إستجابة أوتوماتيكية – وهو تحول يمكن تحقيقه من خلال بعض الثورات الثقافية في مجتمعنا الحالي ، وكذلك من خلال التجارب المعتمدة التي يتم تطبيقها مجتمعياً من أجل تحقيق هدف ما سواء ، سياسياً كان الهدف أم ايديولوجياً ، أو سلطوياً . وفي الأنظمة الشمولية يتم استخدام إبادة العقل وبشكل منهجي وعلمي مدروس كأداة صارخة للسيطرة حيث يقوم النظام بشن هجوم منظم على الفكر الفردي والاستقلالية ، بهدف إعادة تشكيل معتقدات وهويات المواطنين لتتوافق مع أيديولوجية النظام الهادفة إلى ديمومة سلطته وتسلطه كما عاشها المؤلف تحت وطأة الاحتلال النازي . هذه العملية تتضمن استخدام دعاية مكثفة ورقابة شديدة ، وغالباً ما كانت تتبعها عقوبات قاسية للآراء المعارضة ، مما يؤدي إلى مجتمع متجانس ينعدم فيه التفكير المستقل انعداماً تاماً .
لكن (ميرلو) يؤكد بأن مفهوم “إبادة العقل” يشمل تجاربنا اليومية دون توقف ، وأنه حتى في المجتمعات التي تظهر وتتباهى بتطبيق الديمقراطية ، فإن المواطن في تلك المجتمعات ليس في منأى عن أشكال أكثر دهاءً من الإكراه العقلي ، لأن التعرض المستمر للسرديات الإعلامية أحادية الجانب ، وضغوط الإعلانات ، وتراكم الفواتير واجبة التسديد ، والأعراف الاجتماعية ، يمكن أن يؤدي تدريجاً إلى فقدان القدرة على التفكير النقدي والاستقلالي . وفقًا لميرلو، يمكن أن يكون هذا النحت في الفكر المستقل مضرًا بقدر التكتيكات الصريحة المستخدمة في الدول الشمولية .
ويعتبر استكشاف (ميرلو) لإبادة العقل في كتابه “اغتصاب العقل” تذكيراً حيوياً بقيمة الحرية العقلية والمخاطر التي قد تشكلها عليها أي شكل من أشكال السيطرة على اسلوب التفكير وحريته سواء في الأنظمة القمعية أو في الدقائق الخفية لتفاعلاتنا الواهمة بالديموقراطية يومياً . ويؤكد على أهمية الوعي والتفكير النقدي والحفاظ على الفكر الفردي كسورٍ حامٍ وحصن منيع ضد التهديد الخفي للهيمنة العقلية .
يمتد تحليل (ميرلو) في كتاب “اغتصاب العقل” ليشمل كيف يمكننا أن نعكس هذه التقنيات بأشكال أقل حدة داخل المجتمع . ويحذر من أن أساليب تشبه غسيل الدماغ يمكن أن تظهر في الحياة اليومية من خلال الرسائل الإعلامية المستمرة والضغوط الاجتماعية وحتى في البيئات التعليمية ، حيث يُشجع على التعلم الصَمّ بدلاً من التفكير النقدي الذي يعتمد المناقشة للفهم والاستيعاب وبالتالي التعلم .
أما الخوف ، سواء كان من تهديد خارجي بالغزو والحرب ، أو بالتضييق والاعتقال ، أو بالنبذ الاجتماعي ، أو الفشل الشخصي ، فإنه يخلق حالة من الاقتراحية المرتفعة لدى الأفراد وهو ما يجعلهم أكثر استعداداً لقبول المعتقدات الجديدة و اكثر انصياعاً للتوافق مع السلوكيات السلطوية عليهم .
يبدأ (ميرلو) مناقشة كيفية تأثير الدعاية كأداة للحكومات والكيانات القوية الأخرى في نشر المعلومات بطريقة تتماشى مع أهدافها ، حيث يوضح أن الدعاية ليست مجرد عن نشر معلومات كاذبة وحسب ، بل تتضمن بشكل أكثر دقة عرض الحقائق والروايات بطريقة تدعم جدول أعمال معين يعمل للوصول إلى هدف التأثير العميق في العقل والاستحواذ الكلي وغير المباشر عليه . ويمكن لهذا السرد الانتقائي أن يكون له تأثيره في التلاعب بفهم الدوافع النفسية والعاطفية للشخص كي لا يتمكن من إنشاء حاجز ذهني ضد التكتيكات التلاعبية . ويمتد هذا الوعي أيضاً إلى فهم طبيعة وأساليب التلاعب المستخدمة ضده ، سواء في الدعاية أو الإعلان أومن خلال العلاقات الشخصية .
ويتم تسليط الضوء على التفكير النقدي كأداة رئيسة في مقاومة الإكراه العقلي اذا تم العمل على تطوير والحفاظ على العقلية التساؤلية دائماً أو التشكيك في المعلومات المقدمة له ومصادرها والنوايا الكامنة وراءها . ينصح بالشك في التفسيرات البسيطة للمسائل القرارات بناءً على التفكير العقلاني بدلاً من الاستجابات العاطفية السهلة والتلقائية .
وقد قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قديماً :
“سوء الظن من محاسن الفِطَن” .
ختاماً :
=====
يقدّم كتاب اغتصاب العقل” إطاراً لفهم تعقيدات التلاعب النفسي في المجتمعات الحديثة . وتوفر استكشافات الكتاب طرق التحكم بالفكر ، والدعاية ، وإبادة العقل عدسةً لرؤية تأثير الإعلام الرقمي واستراتيجيات التسويق على علم النفس الفردي والجماعي . كما يُبرِزُ أهمية الحفاظ على اليقظة وتنمية (التفكير النقدي) للحفاظ على استقلالية الفرد في عالم مترابط ومشبع بالزخم الإعلامي الهادف والموظف لتحقيق هدف السيطرة التلقائية على العقل الإنساني . لأن الحفاظ على استقلالية الفرد في مواجهة القوى التلاعبية الخارجية هو العامل الأهم في سيكولوجية السيطرة على التفكير وإبادة العقل او اغتصابه .
Discussion about this post