غروب على الشاطئ
كانت الشمس تودع آخر نزيل على الشاطئ، جلست (رابحة ) تنتظر حبيبها (عامر) وعيناها محدقتان إلى زرقة البحر الساكن الممتد حتى نهاية الأفق البعيد، تسحبها الذاكرة إلى اليوم الذي قرر فيه السفر خارج البلد، بحثا عن فرصة عمل، فالعمر يتسلل هاربا غير منتظر..
وعدها بالعودة ظافراً ليحلقا معاً على بساط السعادة والرفاء…مضى زمن طويل، لا أخبار عن ذلك الغائب البعيد، الذي ترك خلفه دوامة من التساؤلات الحائرة ،أين أنت؟ إلى أين مضيت؟ أنسيت أنني أنتظر رسالة تطمئنني عليك ؟ أيرضيك أن أظل هكذا تائهة في صخب الانشغال؟
مرت الأيام متشابهة، ساعاتها باهتة، رتيبة، يخنقها ضباب الروتين الممل، تضاءلت آمالها وما كانت تروم تحقيقه. تسرب إليها اليأس، وما لبث أن استبد بها القنوط من عودته…لم تدر كيف قادتها رجلاها خارج البيت… ألفت نفسها تجوب الشوارع، تسائل عيون المارين في دروب المدينة ،تحملق في دهشة في وجوه الرائحين والغادين..
مازال في جعبتها الكثير من الأسئلة العالقة، بحاجة لإجابات.
حقيبة يد تحملها أينما ذهبت، شاطئ البحر عشقها، والسؤال الدائم عنه، يلازمها بلا انقطاع.
كان قرار الطبيب المفاجئ بإيقاف الدواء الذي تأخذه، حين رأى تحسن حالتها النفسية، بعد خروجها للبحر، واتزان حالتها .
لم يعد الوضع على ما كان عليه في السابق، غياب (عامر ) بات لغزاً محيراً… بدأ الناس يتهامسون ، يستفسرون، يحللون كل شيء كان قابلا للتصديق، إلا ذاك الخبر الذي هز عرش ثقتها، رغم أنها من صنف النساء اللواتي لا يؤمن إلا بأشياء مادية محسوسة : ” أيعقل أن يكون (عامر) قد مات ؟! ولكنه وعدني بأنه سيعود…”
هكذا باتت تحدث نفسها دائما..
في الطريق قابلها العم أحمد، صديق العائلة. لقد راعه ما رأى من شحوب وجهها … حاول إيقافها لكنه لم يستطع، فقد كانت تركض مسرعة، وكأن أحداً يلاحقها..
بصوت عال نادى عليها عم أحمد، و لكنها لم تسمع، وواصلت خطواتها مسرعة ..
خيمّ السكون على المكان،
– رابحة… رابحة.
بدأت الشكوك تساور أهلها، سألت أمها:
– “ياالله أين ذهبت؟” فيرد الأب :
لا تقلقوا، ستعود ..أينما ذهبت فسترجع..
كان قلب الأم بركاناً مشتعلاً، تحاول عبثا تهدئة روحها، وهي تذرع المكان جيئة
و ذهابا..
حلّ الظلام، وما انفكت الأفكار تتجاذبها، تساءل أهلها:
– ” ماذا لو أن أحدا غرّرّ بها؟ ماذا لو لم تعد؟ ”
تقرأ المعوذات… تدعو ، كي ينقضي الوقت… بينما كان الأب مشغولا، يتابع جهاز التلفاز، يسمع أخبار المساء، وكأس شاي بجانبه، سيجارة تلو أخرى، حتى بدت الغرفة كالمدخنة ،اشتعل بركان الحيرة في قلب الأم، ساورتها الشكوك تنهش عقلها،فابنتها مريضة و ما زالت لم تتعاف بعد، راودتها فكرة الاتصال بطبيبها المعالج لعلّ جوابا شافياً يداوي حيرتها، في البداية امتنع الطبيب عن الإجابة بحجة أن الحالة سرية و لا يجوز كشف كل الأسرار ، ولكن بعد إلحاح الأم ،أجابها بأن حبها للبحر ربما قادها لنفس المكان، كانت الإجابة صادمة للأم لا تستطيع الانتظار، فعليهم التحرك إلى هناك…
ما تزال رابحة، حيث جلست، تعانق صمت البحر المظلم، وفي مقلتيها تتحجر دموع الذكريات، تحتضن تلك الأمنيات، متلهفة للحظة أمان كانت قد افتقدتها بمرور الزمن..
هاهي تلملم شتات بوحها، تعاتب ربات الحنين عن غياب لم يكن في الحسبان، كانت مستلقية بهدوء تحتضن حقيبتها.
ورجل يقف ليس بعيداً عنها، يرقبها بصمت.
سمية جمعة سورية
Discussion about this post