عذبة كالموسيقى
رؤية نقدية.. علي النصير
يقدم لنا الدكتور (سمير الشيخ) كتابه الجديد بقصصه القصيرة جدا بعنوان (عذبة كالموسيقى) وبالفعل كان عذبا رائعا بسرده واهدافه و واقعيته بمخيلاته المدوزنة، ففتش في خبايا السرد القصصي عن طاقة جديدة يمنحنا من خلالها رؤيا غضة تضيء في اسلوبية التعبير، والقصة القصيرة جدا فن رشيق ولا يقحمه الا الكاتب المبدع ويمكن تسميته بـ(القصة الومضة) لاختزاله الشديد غير ان الكاتب في مقدمته يقول ” يحلو لي ان اطلق على القصة القصيرة جدا لدي ما اسميه الآن (هايكو السرد) : ثمة صورتان تضيء الواحدة الأخرى لا عبر التكامل الصوري حسب بل ايضا عبر مبدأ التضاد. وما يقوم به المتلقي هو الربط الخاطف بين التنافرات الصورية، فالربط لا يصل حد الادماج الكلي او التوحد كما في الاستعارة لكنه الربط الخاطف الذي يضيء المعنى الخبيء”.
قصص هذه المجموعة تتجذر في الحياة الواقعية الانسانية وناقلة للأحداث التي قد تكون غائبة نوعا ما عن الوجود، قصص موارة بالثروات والافكار والاهداف وحضورها في سرد رشيق مختصر منح هذه النصوص افقا منيرا فكان بالفعل وحدة جمالية وصفاء روحي فضلا عن كونه خطابا مؤثرا. يؤثث لنا (الشيخ) في قصصه اجواء سردية مختلفة تماما عن السائد المعتاد في عوالم القصص القصيرة ولكنها عذبه ورشيقة الاسلوب فالأسواق الشعبية ببساطتها وبأشخاصها البسطاء كما في قصة ( حسين كيصون آكل الاطفال) حيث السرد الهادف بتحويل الواقع الى فن. فضلا عن المقاهي والحانات في قصة ( الشاعر القتيل) التي اعطت لفتة أدبية رائعة عن حلم التغير من تفاحة منخورة بسوس الحرب والفاشية الى تفاحة خضراء تضج بالأنوثة والجمال.
يجيد (الشيخ) احتراف خلق قصص مؤثثة لكي يعطي للقارئ تمايزا ورؤية وخيالا كبيرا وجمالية كونه كاتبا عاشقا للجمال والحرية والانسانية، حيث يبسط لغة السرد بقصصه ليتلقاها القارئ بلغة واضحة ومناسبة الحضور وبمعان هادفة الى الالتفاتات السوداوية التي تعكس الواقع الذي التمسه الكاتب في حياته، الجميل ايضا اننا نرى تجذر هذه القصص في الواقع الانساني ليفتح ايضا لنا ضوءا ادبيا جديدا حيث العالم الخاص والعام.
وفق (الشيخ) في كتابه وهو يقدم لنا نتاجا ادبيا بأسلوب تعبيري فني بثقافة ومزايا يجدده الفكر الثقافي مما جعل سرده مشروعا انموذجا اكثر تأثيرا وجمالا وقبولا في نفوس قراءة، حضور الروح الجمالي وامله في وجود بلاد اخرى منفيه كان واضحا في قصة (المنفى في القمامة)، عبر حضوره في سرد الاساطير والخرافات كما في قصة (عبد الشط) ذلك الوحش الذي يلتهم الاطفال عند الليل حسب ما كان الاهل يرعبون اطفالهم بهذه الخرافة، يبدع (الشيخ) في رائعته القصصية التي حملت عنوان (الفكر القتيل) حيث قام سائق عربة (اللوندري) بدهس (رولان بارت) وادى الى مقتله في احدى شوارع باريس حيث فوجئ الرجل المقيد بجمهرة الصحافة التي تحيط به والكم الهائل من الصور وقبل ان يبدأ التحقيق في مركز الشرطة سأل السائق احد المحققين ” معذرة سيدي، ما الذي يحدث لي؟ هل تسببت في قتل شخص مهم؟ لاذ المحقق بالصمت قليلا ثم نظر الى السائق فتمتم بكل أسى ” يا رجل لقد قتلت عقل فرنسا بأكمله”.
بهذا الجمال النسقي السردي الثقافي الانتاجي استطاع القاص تصوير احداث الواقع اليومي للبلاد حيث يؤرخ مرحلة جديده من تاريخ القصة القصيرة جدا كما اطلق عليها بـ هايكو السرد بتقارب فني اسطوري جمالي ذاتي وروحي، مما زاد من اهمية هذه القصص الجميلة والرمزية والمعنوية ان القاص نفخ من روحه الابداعية الباحثة عن جمال الحياة في ذاته الفنية اضافة لوجوده الكوني في ابداعه القصصي، فعمد فنيا الى ان تكون براعته بتوظيف سرده بأفضل مكاناته وأصدرها بأجمل اصدار يلامس بها روح القارئ حتى يستلذ بها وهو يقلب اوراق مدونته العذبة بقصصها الخيالية والواقعية حيث في ختامها اتصلت بحسن جمال المطلع.
كان الكاتب واضحا في رسم وتحقيق غايته المبتغاة بهذه المجموعة القصصية بأبعادها ورؤيتها وصورها واهدافها، ايضا التفت (الشيخ) في احدى قصصه الى رمزية وطنه وما يحدث به واقعة السياسي المؤلم فيوظف سرده بكل تقنيه ليأخذ المتلقي معه الى ارض الواقع المريض كما في قصه ( عذبة كالموسيقى) التي استهل بها نهر دجلة بقوله “تلك (دجلة) التي يجري عند نهايات ثوبها الهاشمي التوليبي وهي تخطو كالبجعة البيضاء صوب البوابة زهرية التكوين. حيث الحدث العظيم فالأحداق الباكية تحدق بيوم الدينونة، فيما كانت تتراءى من بين الركام الدمار الصاعق يد عاجية قتيلة وبقايا ثوب هاشمي برتقالي خرافي كالحلم”.
يعمد الكاتب في بنائه التكويني السردي القصصي على تضمين واقتباس مضمون دلالة الواقع العراقي الشعبي بامتياز، فأتخذ منها صورا بارزة في تجسيد وتأثيث قصصه العذبة باهتمامه بالتراث والرمزيات والحكايات الشعبية كما في قصصه ( التنور) ( لوح سومري) ( كنيسة ام الاحزان). حيث صنفت هذه القصص الجميلة القصيرة في اسلوبية الشيخ الأدبية فشكلت العمود الفقري لشخصيته الفنية كونه شاعرا ومترجما وقاصا مثقفا فكريا واعدا بالتجدد.
Discussion about this post