قراءة نقدية :الميتاشعرية في قصيدة”امرأة باكية”
لا يفوتنا تراسل الحواس حين يجعل تذوّق الرضاعة بحاسة اللمس (تراسل بين حاسة اللمس وحاسة الذوق).
الشاعر: حمد حاجي
الناقدة :جليلة المازني
المقدّمة:
يطرح الشاعر في قصيدته “امراة باكية” مسألة الميتاشعرية وقد ضمّن القصيدة عتبات ميتاشعرية وهو بذلك يؤسس لمفهوم للشعر ..فماهي هذه العتبات الميتاشعرية وماهي دلالاتها وماهي تجليات الميتاشعرية في القصيدة؟
1- العتبات الميتاشعرية: تضمّنت القصيدة عدّة عتبات ميتاشعرية وهي:
التصدير/ شرح مصطلح الميتاشعر/ الاهداء/ العنوان/ اللوحة/.
ان هذه العتبات الميتاشعرية تتحوّل في القصيدة الى نصوص موازية ولم يكن تضمينها
للقصيدة من قبل الشاعراعتباطًا بل اختارها لما لها من دلالاتها المعنوية.
لقد صدّر الشاعر القصيدة بجملة:”تجريب في الميتاشعر”وهو في ذلك يصرّح منذ البداية
بوعي الذات الشاعرة بان الخطاب سيكون شعريا داخل المنجز الشعري.ومن ثمّ كانت عتبة
شرح مصطلح الميتاشعر من قبل الشاعر حيث يقول:
-“الميتاشعرية مصطلح يشير الى التنظير او الوصف او الكلام على الشعر ضمن اطار
العمل الشعري.”الشعر على الشعر” او “القصيدة فى القصيدة””
-ان يضع الشاعر نفسه تحت المجهر فيتفحّص مصادر الهامه ومخاوفه وآماله وتصوراته
حيال الكتابة الشعرية.
في هذه الميتاشعرية يعيد الشاعر النظر في موقعه ازاء الشعراء الآخرين وازاءتراثه الشعري فنراه يسائل نفسه ويمتحنها نراه يتفحّص الشكل الشعري ويعيد تركيبه..
انها صفة الشاعر الناقد وهي من سمات الميتاشعرية.
ومن هذا المفهوم للميتاشعرية أهدى الشاعر القصيدة للشاعرة الفلسطينية لتكون واعية
بالخطاب الشعري داخل المنجز الشعري ليكون ابداعها الشعري في خدمة القضية الفلسطينية .وكاني بالشاعر يريد ان يعلّمها كيفية كتابة الشعر الملتزم بقضية مصيرية
ثمّ يقدّم اهداءه الى حبيبة بيكاسو”دورامار” لانها أوْحَت له بعنوان القصيدة “المرأة الباكية”
هذه المراة الباكية التي جسّدها بيكاسو في لوحة “دوراماز” التي اختار لها الفنان من الالوان الداكنة ما يوحي بألمها ومن ثمّ اعتبرها المراة الباكية ولعل ذاك البياض الذي يغمر وجهها يضفي على اللوحة مسحة من التفاؤل المنتظر بعد المعاناة .
ولعل الشاعر حمد حاجي رمز الى معاناة هذه المراة الباكية الى معاناة القصيدة وهي
تتحدّث عن نفسها حين نرى الشاعر يتفحّص مصادر الهامه ومخاوفه وآماله وتصوراته
حيال الكتابة الشعرية .
لذلك اختار الشاعر عنوان القصيدة “امراة باكية” والعنوان هو محتوى مصغّر للقصيدة.
ان المراة الباكية هي كناية عن القصيدة المتالّمة وهي تعيش مخاض الولادة.
2- تجليات الميتاشعرية في القصيدة:
استهلّ الشاعر قصيدته بأسئلة فوز الشاعرة الفلسطينية(التي أهدى اليها القصيدة) هذه الاسئلة التي سيجيب عنها الشاعر ليؤسّسَ لمفهوم جديد للقصيدة الشعرية يحدّد الشاعر
فيه ملامح القصيدة شكلا ومضمونا.
يقول الشاعر :”وتسألني فوز عن صورة بالقصيدة او مابه قيمةالشعر تصفو وتعلو”
وكيف نصوغ مشاهد فلم يضجّ..وموهبة بالخطاب وهل للبلاغة فضل؟
الشاعرة تسأل الشاعر عن شكل القصيدة وما يجعلها ذات قيمة بمشهديتها وخطابهاوبلاغتها
هنا يجيبها الشاعر باعتبارها”بنت قلبه” وهنا أرجح ان االشاعرة فوز هي كناية عن القصيدة وما يوحّد بين الشاعرة والقصيدة هي محنة الكتابة الشعرية التي تعانيها الذات الشاعرة.
يشبّه الشاعر الشعربالمسافرالذي “لا بدّ ان يجمعه بالاحبة شملُ
فزاد وألبسةٌ ومناديلُ حزن وعطر وبين الحقائب ذكرى
وصعبٌ وسهلُ.
ان وجه الشبه بين الشعر والمسافر ما يكابده كل منهما من عناء ومشقة.
انها مكابدة المسافرلألم الفراق والوداع وتعب السفر.
انها مكابدة القصيدة لغصّة الهدم(المخاض) والتاسيس والولادة .
لقد تلاعب الشاعر على أسلوب الطباق(حزن /عطر- صعب /سهل) ليخرج بمقابلة معنوية
تتقابل فيها مشاعر المرارة والحلاوة ويتعانق فيها المخاض مع الولادة.انه مخاض اختيار وانتقاء اشكال الخطاب والبلاغة والمشاهد التي تخرج القصيدة في مظهر يلائم جوهرها.
تواصل الشاعرة(كناية عن القصيدة) وتسال الشاعر فيقول:
“وتسألني كيف أكتب نصّا من الشعر حلو الشمائل ماله مثلُ”
ان الذات الشاعرة تريد ان تعرف كيفية كتابة نص حلو الشمائل ماله مثل”
والشمائل تحيلنا على “الشمائل المحمدية “وهي المكارم النبوية التي ليس لها مثل انها مرجعية دينية تدعم بحث الذات الشاعرة على كتابة ميثالية(ليس لها مثل)
هذه الكناية تجعلنا نقف على مدى توْق الشاعر لكتابة “ليس لها مثلُ”
ولعل هذا أيضا ما يدعم اختيار الشاعر الشاعرة الفلسطينية ككناية عن القصيدة التي ستكون “ليس لها مثلُ” لخدمة القضية الفلسطينية.
وما يدعم هذه الكناية ايضا ان الشاعر يرسم أرجوحة “في سحيق الكلام تظلّ تغور وتعلو”وهي تركب الفكر وتطير مع الكلمات ومتى استوى الفكر مع الكلمات يقبض عليها من ظفائرها ليتبنّاها فيزاوج بين الحروف والمعاني الباسقة ليثمر هذا الزواج “رطب ونخل” والنخلة شجرة مباركة جعلها الله غذاء لمريم العذراء(..وهُزّي اليك بجذع النخلة تسّاقط عليك رطبا جنيّا الآية 26/ سورة مريم).
ان الشاعر عند قبْضه على القصيدة “المكتملة” سيحافظ عليها محافظة الأمّ على رضيعها وقد شبه القصيدة بالرضيع لأنّ كليهما مولود وفي حاجة الى الحماية يقول الشاعر:
واكثر من ذلك فقد شبّه دواته ومحبرته بلجّة البحر والقصيدة درّ يخرج من تلك اللجة وهو يغوص داخلها بشعوره وعقله.
وهل أكثرمن تشبيه القصيدة بأمّ عيسى مريم العذراء البتول التي أنجبت عيسى دون ان يمْسُسْها بشر ولم تكن بغيّة :قال تعالى في سورة مريم الآية20:”أنّى يكون لي غلام ولم يمْسُسْني بشر ولم أكُ بغيّا”
ان الشاعريعود الى المرجعية الدينية ليدعم مدى قدسية القصيدة تماما كمريم القدّيسة التي كانت ولادتها لعيسى من قبيل المعجزة وهو ما يشبه معجزة ولادة القصيدة التي يؤسّسُ لها الشاعر من منظور ميتاشعري.
ويخْتم الشاعر قصيدته بمشهد يجسّد علاقة الأمّ برضيعها الذي بعد تعب الولادة وخروجه الى عالم خارجي مختلف عن عالم داخل رحم أمّه فهي تهدّئ من روعه وبكائه بارضاعه واحتضانه ليشتمّ رائحتها ويأنس بها والشاعر استعار هذا المشهد الحميمي بين الأمّ ورضيعها ليتموقع فيه ويجعل القصيدة التي يحتضنها عند الولادة ويجعل يده ثدْيًا لها ليرضعهاو ليغذّيها بشعوره وعقله.وهنا
لقد طغت المشهدية على القصيدة لتجسيد معاناة المخاض والولادة .
الخاتمة:
ان الشاعر حمد حاجي أسّسَ ملامح جديدة للقصيدة من خلال “تجريب الميتاشعرية بتوظيف
العتبات الميتاشعرية التي هي نصوص موازية لنصّ القصيدة ولها دلالاتها المعنوية بالاضافة الى ما طرحته الذات الشاعرة التي تعيش مخاض الولادة لتكون القصيدة المولودة في قبضة الشاعر ليحضنها ويرعاها.
انها قصيدة متميّزة ونادرة لم أقرأ مثلها قبل الآن….أشدّ على ابداع الشاعر حمد حاجي.
بقلم جليلة المازني
بتاريخ 23/12/2023
تجريب في الميتاشعر
ا======
.
إهداء إلى فوز الشاعرة الفلسطينية
إلى حبيبة بيكاسو “دورا مار ”
ا========== امرأة باكية ==========ا
.
وتسألني فوزُ عن صورة بالقصيدة أو ما بِهِ قيمَةُ الشعرِ تصفو وتَغْلُو
وكيف نصوغ مشاهد فلمٍ يضجُّ.. وموهبةٍ بالخطاب وهل للبلاغة فَـــضْلُ..؟
أقول لهاالشعرُ.. يا بنتَ قلبي.. كمثل المُسَافِرِ لا بُدّ يَجْمَعُه بالأحبَّةِ شَمْلُ
فزادٌ وألبسة ومناديل حُزْنِ وعطرٌ وبين الحقائب ذكرى وصعبٌ وسَهلُ
.
.
وتسألني كيف أكتب نصا من الشعر حُلْوَ الشَّمَائِلِ ما له مثلُ؟
أقول لها أنا أرسم أرجوحة في سحيق الكلام تظلّ تغورُ وتعلو
وأنت اركبي الفكر.. طيري مع الكلمات وخلي الضفائرَ تَدْلُو
فإني مَسَكتُكِ جدا.. فلا ترهبي من سقوط.. فعندي رَواحُك وصْلُ
.
.
سأمشي بنهرالحروف إلى باسقات المعاني ويسقُطُ رطبٌ علينا ونخلُ
أظلّ أُقَمِّطُـــكِ كالرضيع وأن ليس يرعى الطفولة إلاّ حنونٌ وكهلُ
كأنّ دواتي ومحبرتي لجّةٌ والقصيدة درٌّ وغاص إليها شعورٌ وعقلُ
فهذي القصيدة تأتي بتولا كما أم عيسى.. فنَسْلٌ وَمَا مَسَّهَا قطُّ بَعْلُ
.
.
وساعة تأتي بك الريحُ ويلهو بأعطافك الحبرُ.. لي فيــك شأن وشغلُ
سأترع في شفتيك رحيق الزهور ليأتيَ سرب المجاز ويَسْرَحَ نَحْلُ
إذا ما تعبتِ وأعياك جري ولهط فبين الجداول لحن يطيب وظلُّ
سيؤويك حضني كأن يَدِي ثديُ مُرْضِعَةٍ وصراخُكِ بالحجرِ طفلُ
.
.
ا========
.1- الميتاشعر:
– “الميتاشعرية مصطلح يشير إلى التنظير أو الوصف أو الكلام على الشعر ضمن اطار العمل الشعري نفسه. «الشعر على الشعر» أو «القصيدة في القصيدة»”
– “أن يضع الشاعر نفسه تحت المجهر فيتفحص مصادر إلهامه ومخاوفه وآماله وتصوراته حيال الكتابة الشعرية. في هذه الميتاشعرية يعيد الشاعر النظر في موقعه إزاء الشعراء الآخرين وإزاء تراثه الشعري، فنراه يسائل نفسه ويمتحنها، نراه يتفحص الشكل الشعري ويعيد تركيبه”
.
ا============
اللوحة : “المرأة الباكية”
ا============
لوحة “المرأة الباكية” للفنان الإسباني بابلو بيكاسو في فرنسا عام 1937، تصور هذه اللوحة الزيتية المعاناة الناتجة عن الحرب الأهلية الإسبانية.
ا======
وصف بيكاسو لوحته”المرأة الباكية” قائلاً:
“قمت برسمها لعدة سنوات في أشكال التعذيب وليس من خلال السادية، ولا من خلال السعادة أيضاً، لم تكن تمثل الواقع السطحي بل كانت تمثل الواقع العميق. كانت “دورا مارّ هي المرأة الباكية دائماً بالنسبة لي، لأن النساء عبارة عن آلات من المعاناة”.
ا=====
Discussion about this post