السحر ..
تاريخاً و واقعاً ..
( 2 )
د.علي أحمد جديد
يقول (أوين ديفيز) عن جاذبية مفهوم السحر وممارسته لاهتمامات علماء النفس والاجتماع ، وعلماء اللاهوت والأنثروبولوجيا ، والفنانين ، والمؤرخين :
– لا تزال قضية (السحر) تأخذ الاهتمام الأكبر في الخيال الشعبي .
ولا يمكن اعتبار السحر جزءاً من الماضى ، كما لايمكن أن ننبذه بوصفه نتيجة مباشرة للجهل ، ولا أن نصنفه على أنه مرحلة تطورية من مراحل الفكر الإنسانى – على الأقل ليس من المنظور الثقافى – فقد قوَّض العلم أساسَ السحر بوصفه تفسيراً للعمليات الطبيعية ، لكنه لا يستطيع التغاضيَ عنه ، لأن السحر سيبقى دائماً بديلاً قائماً . إن السحر بمعناه الواسع يشكل جزءاً من الحالة الإنسانية ، والاعتقاد بأنه سيختفي في نهاية المطاف لا يعدو كونَه مجرد أمنية .
وإذا كان التساؤل :
– من أين أتى السحر؟!..
فإنه وقبل ظهور علم الأنثروبولوجيا بوقتٍ طويل ، كان المهتمون يفكرون مليّاً في الإجابة على هذا التساؤل ، وغالباً ما كانت الإجابة بأنه (أتى من الشرق) ، لكن ما مدى مسافة بُعد هذا الشرق الذي أتى منه السحر؟
يقول المفكر الروماني “بلينيوس الأكبر ٢٣–٧٩م” وهو صاحب أول محاولة مدروسة لتصور تاريخ السحر حيث ورد في كتابه (التاريخ الطبيعي) :
“كان هناك إجماع عالمي على أن السحر بدأ في بلاد فارس مع ظهور (زرادشت) ” .
وبناءً على حسابات القرن الرابع قبل الميلاد التي أجراها عالم الرياضيات الإغريقي “يودوكسوس” والفيلسوف “أرسطو” فقد قَدَّر “بلينيوس الأكبر” أن “زرادشت” قد عاش قبل ستة آلاف عام من زمن “أفلاطون” الذي وُلد في القرن الخامس قبل الميلاد . لكن السحر لم يجد طريقه إلى الغرب إلا خلال الحملة الحربية الفاشلة التي شنها الملك الفارسي (خشایارشا) على بلاد الإغريق عام 480 ق.م ، حيث كان برفقته الساحر (أوستانا) الذي كان أول من دوَّن السحر وكان ينشر (وباء) السحر في العالم أينما حل . وهكذا أصيب الإغريق باشتهاء السحر والجنون به . وإن (فيثاغورس ، وأفلاطون ، وإيمبيدوكليس ، وديموقريطوس” ارتحلوا جميعهم إلى الشرق ليعرفوا المزيد عن السحر الذي نشره (أوستانا) ورفيقه المجوسي الملك (خشايارشا) .
تميزت أعمال ديموقريطوس (460 – 370ق.م) بأنها الأكثر تأثيراً في نشر السحر المجوسي أو الفارسي ، ويُعزَى تركيز (بلينيوس) على (ديموقريطوس — أبو العلم) إلى أنه كان يقتنع بما نُسب لهذا الرجل من ممارسة أعمال السحر والخيمياء (السيمياء) . وكان من بين أبرز النصوص “كيروميكتا” الذي شرح الخصائص السحرية للنباتات والأحجار والحيوانات . وكان المؤرخ الفعلي لهذا النص – مصرياً نال تعليمه في اليونان ويدعى (بولس الميندسى) ، وقد عرَّف (بلينيوس) فيما كتبه عن تاريخ السحر فروعاً أكثر حداثة من السحر ، أحدها تفرع من “موسى وينيس ويمبريس واليهود” ، لكنه كان حياً بعد زمن (زرادشت) بآلاف السنين” . وظهر فرع آخر في “قبرص” ، وقد حذا بعض الكُتَّاب المسيحيين الأوائل حذو الإغريق والرومان في رد أصول السحر إلى عالم البشر ، وتحديداً إلى (زرادشت و أوستانا) ، لكنَّ ثَمَّةَ أسماءً أخرى كانت بارزة منها ملكان من المصريين الفراعنة مارسا أعمال السحر وهما (نخت أنبو وبختانيس) . ولما كان تاريخ السحر مغموراً بالكامل في “رؤية عالمية” مسيحية ، كان لا بد أن يحتويَ كتاب (توراة العهد القديم) على نَسبِ السحر إلى أصول ومواقع جغرافية ، فظهر السرد الرئيسي في أدب مؤثر وملفق مثل “الرسالة الإكليمندية” الزائفة التي تنسب للبابا “كليمنت” أسقف روما ، والتي انتشرت خلال القرن الرابع الميلادي ، وجاء في الرسالة :
“إن شياطينَ هي التي علَّمت البشر السحر” .
ويتوافق هذا مع التراث اليهودي الوارد في جزء من “سفر أخنوخ” يحمل اسم “الملائكة الساهرون” الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد ، يذكر هذا الكتاب أن شياطين السحر كانت قد هبطت من عند الرب مدفوعة بدوافع الفسق التي جعلتها تتمرد وتهبط إلى الأرض لتتزوج من بنات البشر ، فأنجبت عمالقة وقامت تلك الشياطين بتلقين رفيقاتها الإناث علوم السحر وعلوم الأعشاب .
كان تركيز الديانة المسيحية ينصَبُّ بشدة على انتقال السحر عبر سلسلة من الذكور السَحرَة إذ ورد في إقرارات “الرسالة الإكليمندية” الزائفة أن (حام بن نوح) كان أول من مارس هذا الفن الشيطاني الفاسق الجديد ، وقد ظل علمه بالسحر باقياً وخالداً بعد “الطوفان العظيم” ووصل إلى ابنه (مصرايم) ، ومن ابنه إلى ذريته من البابليين والكنعانيين والمصريين والفرس . وهكذا شُبِّه (مصرايم) بالساحر الذي جعلوا منه آلهة فيما بعد (زرادشت) رغم أن مصادر أخرى تؤكد بأن (حام بن نوح ) هو نفسه (زرادشت) .
لكن البابا (إبيفانيوس) — أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع — كان يعتقد بأن السحر ظهر قبل (حام بن نوح) أي قبل الطوفان العظيم ، واختار أن ينسبه إلى (جاريد) أحد أبناء الجيل الخامس من ذرية (آدم) .
كما يُعَدُّ (النمرود) أيضاً شخصية بارزة في هذه الحكايات التاريخية عن نشأة السحر وبدايته . وجاء في (توراة العهد القديم) أن (النمرود)هو حفيد (حام بن نوح) وإنه عاش بالقرب من المراكز الحضرية الهامة في “بابل وأوروك (الوركاء)” وأنه اكتسب شهرته الأسطورية كصياد بارع وثائر في وجه الرب . ويقول (إبيفانيوس) بأن (النمرود) هو من وضع أسس علم السحر وتروي “الإقرارات” من “الرسالة الاكليمندية” المزيفة كيف تلقى علوم السحر في لمح البصر من أعلى السماء . وكما كان بعض الكُتَّاب الأوائل أيضاً يعتبرون أن (النمرود) هو نفسه المُتألّه (زرادشت) . وبصرف النظر عن الرؤية “اليهودية – المسيحية” التي تذهب في (الكتاب المقدس) إلى أن السحر ابتدعه البابليون والكنعانيون أو الفرس أو المصريون الذين كان قد تعلّم منهم النبيّ (موسى) حيلة أو اثنتين ،
أضاف (العهد الجديد) شخصيات جديدة إلى قصة بداية انتقال السحر إذ يُظهِر (سيمون المجوسي) أولًا في العهد الجديد في “أعمال الرسل” ، ويصفه بأنه رجل سامري “كان قد مارس السحر في المدينة من قبل”. فيروي قصة تعميده ، وعتاب (بيتر) له لأنه عرض المال مقابل الحصول على سر الشفاء من خلال الروح القدس ليمتهن شفاء كل مريضٍ يضع يده عليه . لكن تحوُّلَ (سيمون) إلى مجوسي وساحر بارع وأب لكل البدع أوردتْه النصوص التي كانت قد كُتبَت في القرنين الثاني والثالث الميلاديين . وفي إحدى مخطوطات القرن الرابع الميلادي هناك مايؤكد أن (سيمون) تُوُفِّيَ بعد محاولته الطيران . وظلت تلك الأسطورة تخضع للإضافة وللمبالغة والتحريف على مرِّ القرون الثمانية عشر اللاحقة.
وخلال العصور الوسطى ، برز اسم (سليمان) المذكور في الكتاب المقدس والذي استُخدم اسمه في ممارسة السحر في الصدارة على افتراض أنه أصل السحر والحكمة ، بناءً على وجهات النظر المعاصرة المختلفة في تاريخ السحر ، وقد صيغت كتب السحر التي تدَّعي أنها تحوي تفاصيل بشأن طقوس (سليمان) والسحر الذي استخدمه في إخضاع الجنّ وتحقيق التنوير الروحي . وثَمَّةَ رمز أسطوري آخر من رموز السحر (هرمس طريسمي جيسطيس) وهو الاسم الذي ظل حيّاً في هذا المجال لقرون عديدة وطويلة الذي قيل عنه إنه ألَّف آلاف الكتب في علوم السحر والغيبيات أو “الفنون الغامضة” . وكان (هرمس) شخصية متعددة الهويات باعتباره إلهاً بشرياً ومزيجاً توافيقيّاً من الإله الكنعاني (مردوخ) ومن الإله المصري (تحوت) والإله اليوناني (هرمس) ، وأصبح الشخصية الأبرز في تراث السحر إبَّان عصر النهضة في القرن الخامس عشر ، ولا سيما عقب العثور على مخطوطات تتحدث عن الفلسفة الغيبية زُعم أنه مؤلفها الأوحد وتمت ترجمتها إلى اللغة اللاتينية .
Discussion about this post