السارد العليم بين ذاكرة الحدث وذاكرة النص
قراءة في قصة فطائس للكاتبة ود جمال الهنداوي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكلفك السارد العليم ذخيرة باهضة عندما يكون مراوغا حين تغدو القصة ورقة أسئلة يهبك فيها واضع الأسئلة كما معلوماتيا ويطلب منك إعادة موضعة هذه الوصلات الأخبارية في المحمولات الاجتماعية والنفسية والعقدية والأخلاقية والفلسفية ويكون مراوغا أكثر حين يمرر تلك الوصلات عبر مناخات وصفية لاذعة مستهدفا من الوصف تقليص الانتباه من ضجيج الوقائع الى هيجان الوقائع في الفعل السردي
من الخطأ أن نوافق شعورنا على الرضا بمجانية ما يمنحه السارد العليم لأن هذه خدعة بل علينا أن نسارع بالنظر الى التسنين الأيديولوجي السردي وطرائق اسناد الحدث للشخصية لديه ، إن طرائق الاسناد هي ايديولوجيات ماكرة تعبث في الموسوعات الثقافية للمتلقي فهذا السارد العليم مرة والمشارك مرة أخرى لا يهتم بما يريد ان يخبرك به بل بطريقة إخباره وبعبارة أخرى ليس مهما عنده الذاكرة الجاهزة التي قدم منها الخبر بل الذاكرة المستهدفة المبنية بطاقة الفعل السردي فهو يستهدف (“العوالم الممكنة “) التي يجب التعامل معها باعتبارها بناءات ثقافية ،ان الامر يتعلق في نهاية الامر بتلك اللذة التي تتجسد في الرغبة في الانصهار في عالم جديد لا يوصف من خلال الوقائع بل ينبني ضمن المعاني الخفية)1
يتحرك الحدث بتنوعاته داخل الذاكرة المستهدفة باعتباره صيغا تحققية لشكل المعنى القابل للاشتغال وليس المعنى الواقعي المتصل والعام والمجاني والمعنى القابل للاشتغال من قبيل كونه (حجة على شيء ما / فضح للوقائع / تفعيل المحمولات لتحويلها الى سلوك حاكم / تشخيص مسافات أيديولوجية / الى اخر الاشكال القابلة لذلك) ان طبيعة هذا المعنى هي نشاط مخصص يقوم السرد بتشخيصه واكسابه هويته الدلالية فالحدث داخل النص هو نسق أيديولوجي حامل للقيم بخلاف مجانيته في الواقع وما استغلال الدلالة الا اجراء يقود الأحداث الى وظائفها في الممارسة الإنسانية أي يقودها الى نسخ كاشفة عن موضعة الواقعة في الفكر كمدلول قابل للأدراك الثقافي الفاعل في تشكيل وعي الانسان بواقعه ومصيره عبر شكلنه نشاطه ( فكل نشاط لا يدرك ولا يتحدد الا من خلال مثوله عبر شكل ما داخل الزمان وداخل الفضاء ، فالحياة ذاتها لا تتحدد الا باعتبارها خالقة للأشكال )2 ومن هنا فــ ( ان التجربة الإنسانية في الوجود كما يعيشها المرء في تاريخيه هي تجربة زمنية . وان الزمن الإنساني هو زمن سردي، ان كل عالم سردي هو عالم الطابع الزمني للتجربة الإنسانية.)3
فمنذ مطلع القصة تقوم الساردة بخلخلة البعد المرجعي للوصف لشخصية الزوج فهو على البعد المرئي رجل عسكري قام بإنزال قبعته العسكري في وضع منهار بقرب زوجته في غرفة الإنعاش لكن وفق البعد اللفظي فالأمر مختلف جدا لأن الوحدة الدلالية للبعد المرئي هي العين التي تلم المشهد دفعة واحدة في حين ان الوحدة الدلالية لذات المشهد على المستوى اللفظي هي موضعة محمول المفردة في المدلول الكلي للقصة فهذا المطلع
– هل حقا إنها رحلت؟
أنزل قبعته العسكرية وانهار جالسا على الأرض الباردة غارقا في دموعه التي يسفحها بإسراف على محراب الحدث الجلل الذي وطأه للتو، وبعد موجة نحيب صاح الرجل الذي استوطن غرفة الإنعاش لعدة أيام بجانب زوجته المريضة نائحاً:
– كيف جعلتيها ترحل؟
هو موجه إشاري في شبكة المحمول الكلي وقد تكفلت العلامات (قبعته العسكرية / انهار جالسا/ دموعه المسفوحة باسراف/ وطأته الحدث للتو/ مكثه عدة أيام) بتحويل المشهد من تمثيل بصري الى تدليل اجتماعي ونفسي له دور مؤجل في قام الاحداث
الفعل الوصفي هنا هو تحرير طاقة الحدث من أيديولوجية العين الى الموجهات الحركية الدالة
إن سياق المقدمة الاستباقي هو سياق حجاجي ضد الزوج ولكنه يبدو لأول وهلة انه متعاطف مع الزوج لكن الساردة مراوغة فهذا السياق ممهد لسياق اخر من جنسه ينتظره في متن النص القصصي (هل من العدل أن أبوح له بأني تفاجأت بأنه هو.. الرجل الممدد على ارضية الممر القذرة ناشجاً رحيلها. والذي ينوح بصوت عال كطفل أضاعته أمه في سوق مزدحم.. هو زوجها الذي تحدثت لي يوما عن غيابه الطويل عن المنزل بسبب طبيعة عمله
نرى دخول الزوج للتو ولكنه محذوف من التفاصيل العسكرية ونرى توجيه السؤال مباشرة / كيف جعلتيها ترحل؟/ ونرى حذف أسباب هذا التوجه / ولم أفهم سبب النظرات التي اختلطت الكراهية بها مع الدموع والتي كان يصوبها نحوي، ولماذا أنا/ هذا الحذف ذكي فلم تود الساردة التوسع من جهة ومن جهة أخرى تفسح المجال للتحققات الأخرى
كذلك نرى ان عشيق الزوجة كان يأتي بها الى المستشفى وانهم كانوا يدلفون الى الشقة عدة مرات ونرى حذف تفاصيل متى عشقها وكيف وتفاصيل المجيء عدة مرات الى المستشفى
ان لعبة المجيء ببناء الخبر لا الخبر محذوفا منه التفصيل وبغطاء وصفي ينبهنا ان الوصف ليس مجازات جزئية فائضة بل هو اجراء يقوم بتحويل المظاهر والاشياء والشعور والوقائع النفسية والاحداث الى قيم وهويات لها القابلية على التحريض وليست هي الهويات والقيم القارة في الاحداث بما هي احداث ومن جهة أخرى تقوم الساردة بهذا الاجراء لتسريع الوصول الى منطقة رد الفعل على مشاهد المتهمين / الزوج الغائب التارك لوظيفته الاجتماعية والعاطفية ذلك الغياب المرتهن بالعذر العسكري وغير العسكري / الزوجة الخائنة / العاشق التائه الذي لا يتمتع بكفاءة عاطفية وهذا التسريع (التلخيص) تم وفق ما حددته سيزا قاسم من وظائف التلخيص
1- المرور السريع على فترات زمنية طويلة
2- تقديم عام للمشاهد والربط بينها
3- تقديم عام لشخصية جديدة
4- عرض الشخصيات الثانوية التي لا يتسع النص لمعالجتها معالجة تفصيلية
5- الإشارة السريعة الى الثغرات الزمنية وما وقع فيها من احداث
إن لجوء الساردة الى هذه الوظائف كغطاء ثقافي ومناخ سلوكي واجتماعي هو لبناء المهم من ذاكرة يحملها النص لمحاكمة ذاكرة مودعة في الجملة الثقافية أسبابا ونتائج
ان سحب الزمن هو إحالة الى المدلول النفسي القابع في المكان المسحوب له الزمن (الخيانة / لم أحس بالأسى تجاه هذا الجسد المترهل الرمادي المسجى أمامي على طاولة الموتى، لا أعلم لماذا تبدو الآن تلك السيدة متعددة الشركاء أكثر زرقة وتهرئاً مما يفترض أن تكون)
مشهد المحاكمة الذي تولاه الجزء الأخير من القصة هو استعادة استعارية للضمير الإنساني تحاكم استعادة استعارية لمشهد الخيانة ويصر النص على منح المتلقي ذاكرة مؤدلجة ممانعة لاي احتمال بالقبول لسلوكيات هؤلاء الثلاثة كما في التراكيب التالية
1- ترى هل يجب أن نسامح عند الموت؟ وهل إبراء ذمة من رحلوا فرض علينا أم خيار.. مع اليقين باستمرار من سنغفر لهم في ازدراد لحمنا لو بقوا على قيد الحياة..
2- لم نستمر بالبحث عن الجزء اليانع في التفاحة العفنة في حين أن هناك العديد من أشجار التفاح لا تبعد عنا سوى دقات قلب.
3- لا داعي لكل هذا.. فلست متعاطفة تماما مع هذا الرجل الذي دخل الى المشهد متأخرا، ولا أخفى كذلك إني اعتدت على الجثث، فلا يمحي عندي موتهم أيا من السوء الذي يفترض أنهم توحلوا فيه في حياتهم
4- لهذا السبب لم أحس بالأسى تجاه هذا الجسد المترهل الرمادي المسجى أمامي على طاولة الموتى، لا أعلم لماذا تبدو الآن تلك السيدة متعددة الشركاء أكثر زرقة وتهرئاً مما يفترض أن تكون،
5- عندما كنت أرى ذلك الثنائي المتنافر بين أمرأة في أواخر العمر وفتى في مقتبله.. والتي وجدت الآن إجابة لا يمكن عدها عادلة تحت أخف الظروف.
6- لا أعلم.. وقد لا أعلم أبدا.. فستكون تلك المرأة وعشيقها وزوجها المنهار على الأرض مجرد ذكرى باهتة بعد سويعات قليلة.. وسيكون هناك بالتأكيد ما سيشغلني أكثر من التفكير بمصائر حيوات تلاقت في نقطة قد لا تكون المثالية في سفر الزمن الخالد..
7- لكن ما أنا متيقنة منه تماما.. ان هذا الرجل الحزين لا يريد سماع رأيي بزوجته الفاضلة الراحلة بالتأكيد، وفي هذه اللحظة بالذات، ولا يريد ان يعلم أنه محظوظ جدا أن الأمر انتهى على هذه الشاكلة، فلو كنت في مكانه لرميت زوجتي في مكب النفايات بدلا من إنفاق دخلي لعدة سنوات من أجل مراسيم العزاء والتأبين..
يقدم سعيد بنكراد ثلاثة أنماط للنموذج وإمكانات التحقق
ينظر للنموذج عادة على انه الصورة المثلى لشيء او سلوك ما فهو يحيل على الشكل الأمثل الذي يجب ان تنتهي عنده كل الاشكال وينظر اليه مرة أخرى على انه يشكل مجموع الخطاطات السلوكية المكتسبة وكذا خطاطات الادراك والفعل والممارسة ورد الفعل وهي خطاطات تأتي من الانتماء لثقافة ما وثالثة باعتباره بناء افتراضيا وهو يمثل مجموعة من الخانات الفارغة وهي كذلك لأنها تستمد قيمتها من موضوعات تحققها لا من عناصرها الذاتية
يسلك النص الحالة الأولى والثانية من النموذج وينطلق من القيم الذاتية للموضوعات لكنه يترك مساحة دسها كطعم في الموجهات السردية بان الخيانة مبررة ولا يهمنا رأي الساردة في عدم تبرريها فظروف الغياب والإهمال وربما التعاطي مع نساء اخر لم يذكرها النص هو من تسبب بالخيانة ولجوء العاشق الذي يصغر الزوج كان بسبب عقدة نقص فيه (ربما كانت لذلك الشاب عقد دفينة بالتعلق بالأم كتلك التي قرأتها مرة في مجلة ما أثناء استراحة عابرة لي في غرفة الانتظار.. لا أعلم.. وقد لا أعلم أبدا)
كان صوت السارد العليم حاسما في صيغ انفعالية حاسمة فهو امات الزوجة ولم يخبر الزوج بخيانتها وسكت عن مصير العاشق هذه المراوغة في تقديم طريقة الخبر تجعلنا امام نمط ندعوه السارد العليم المراوغ
حيدر الأديب
القصة
ــــــــــــ
فطائس
الكاتبة / ود جمال الهنداوي
العراق / بغداد
– هل حقا إنها رحلت؟
أنزل قبعته العسكرية وانهار جالسا على الأرض الباردة غارقا في دموعه التي يسفحها بإسراف على محراب الحدث الجلل الذي وطأه للتو، وبعد موجة نحيب صاح الرجل الذي استوطن غرفة الإنعاش لعدة أيام بجانب زوجته المريضة نائحاً:
– كيف جعلتيها ترحل؟
لم أعرف بماذا أجيبه بالضبط، لأني ليس من جعلها ترحل بدقة، ولم أفهم سبب النظرات التي اختلطت الكراهية بها مع الدموع والتي كان يصوبها نحوي، ولماذا أنا، ليس الأمر وكأنني مالك الشقة الأرضية في نهاية الشارع ، صفع يدي حين اقتربت منه ببطء محاولة تهدئته ، أدركت حينها أن كل ما أقوله الآن سيستفز فاجعته. هل أواسيه؟ أم أخبره أن هناك رجلا غيره يصغره في السن ويناقضه بالوسامة كان يأتي بها للمستشفى؟ وهل يكون مفيدا لو قلت له بأني صادفتهم يدلفون إلى الشقة في نهاية الشارع عدة مرات عندما كانت طرقنا تتقاطع، هل من العدل أن أبوح له بأني تفاجأت بأنه هو.. الرجل الممدد على أرضية الممر القذرة ناشجاً رحيلها..والذي ينوح بصوت عال كطفل أضاعته أمه في سوق مزدحم.. هو زوجها الذي تحدثت لي يوما عن غيابه الطويل عن المنزل بسبب طبيعة عمله، وليس ذلك الشاب الذي كانت تبادله النظرات الولهى والابتسامات المسرفة في جمالها وعفويتها..
لم أعرف ما ينتظر سماعه مني في تلك اللحظة، وما الذي علي أن أقول .. لطالما ظننت أن الكراهية أسرع ترياق للسم الزعاف ، هل أخباره بالحقيقة سيكون مخففا لحزنه أم أنه سيكون خلطة قاتلة من الحزن والذل والشعور الممرض بالخيانة، هل من المعقول أن يخفف عنه شعوره بالاستغفال كل تلك المدة بعض ما يمزق صدره في هذه اللحظات الرهيبة.. لحظة الموت الرهيب عندما يحط بكل جلاله كاتما على أنفاسنا.
ترى هل يجب أن نسامح عند الموت ؟ وهل إبراء ذمة من رحلوا فرض علينا أم خيار..مع اليقين باستمرار من سنغفر لهم في ازدراد لحمنا لو بقوا على قيد الحياة.. هل تعوضنا الحياة بدل تلك القضمات التي نكابدها من أحبتنا لحما طازجا جديدا عند الموت؟ هل تتقيأ الجثث ما لا كته من أحلامنا ؟ ولم نستمر بالبحث عن الجزء اليانع في التفاحة العفنة في حين أن هناك العديد من أشجار التفاح لا تبعد عنا سوى دقات قلب.
لا داعي لكل هذا.. فلست متعاطفة تماما مع هذا الرجل الذي دخل الى المشهد متأخرا، ولا أخفى كذلك إني اعتدت على الجثث ، فلا يمحي عندي موتهم أيا من السوء الذي يفترض أنهم توحلوا فيه في حياتهم ، ولهذا السبب لم أحس بالأسى تجاه هذا الجسد المترهل الرمادي المسجى أمامي على طاولة الموتى، لا أعلم لماذا تبدو الآن تلك السيدة متعددة الشركاء اكثر زرقة وتهرئاً مما يفترض أن تكون، هل بسبب مشاعر غير مفهومة تتأرجح بين الغضب والخيبة والشفقة على هذا الرجل الذي يسفح الكثير من الدموع على حب لم يكن له من الأساس، أم للأسئلة الكثيرة التي كانت تمر على خاطري عندما كنت أرى ذلك الثنائي المتنافر بين أمرأة في أواخر العمر وفتى في مقتبله.. والتي وجدت الآن إجابة لا يمكن عدها عادلة تحت أخف الظروف.
أتساءل.. ماذا يحدث لحبيبها اليافع الآن ، أو أين هو الآن على الأصح.. ترى هل كان يواعدها من أجل المال؟ ليس كأنها تملكه ، لم نجردها من أي مال أو مجوهرات أو أي مما يدل على الرخاء عندما لفظت أنفاسها الأخيرة، وبالتأكيد ليس للجمال دور بالموضوع ، مع الفارق الواضح بالسن الذي لم تفلح المساحيق باخفائه، أو ربما كانت لذلك الشاب عقد دفينة بالتعلق بالأم كتلك التي قرأتها مرة في مجلة ما أثناء استراحة عابرة لي في غرفة الانتظار.. لا أعلم.. وقد لا أعلم أبدا.. فستكون تلك المرأة وعشيقها وزوجها المنهار على الأرض مجرد ذكرى باهتة بعد سويعات قليلة.. وسيكون هناك بالتأكيد ما سيشغلني أكثر من التفكير بمصائر حيوات تلاقت في نقطة قد لا تكون المثالية في سفر الزمن الخالد.. لكن ما أنا متيقنة منه تماما.. ان هذا الرجل الحزين لا يريد سماع رأيي بزوجته الفاضلة الراحلة بالتأكيد، وفي هذه اللحظة بالذات، ولا يريد ان يعلم أنه محظوظ جدا أن الأمر انتهى على هذه الشاكلة، فلو كنت في مكانه لرميت زوجتي في مكب النفايات بدلا من إنفاق دخلي لعدة سنوات من أجل مراسيم العزاء والتأبين..
Discussion about this post