قراءة نقدية:القصيدة ومتعة الدرس
(قصيدة : معلمة نموذجا)
الشاعر:حمد حاجي (تونس)
الناقدة:جليلة المازني (تونس)
التفريغ النصّي:”لاأستطيع ”
المقدمة:
من الاقوال التي ألحقت بالنساء في موضوع الحب “أنهن يتمنّعن وهن راغبات”وقد يبالغن في التمنع الى درجة تجاهل الحبيب وازاء هدا التجاهل يزداد الحبيب تشبّثا بالحبيبة وتقرّبا منها وهي في المقابل تزداد عنادا وصدّا له.
هل المراة الحبيبة التي اختارها الشاعر باعتبارها معلّمة ستكون بهذا الملْمح المتمنّع والعنيد والمتجاهل؟أم لها ملمحُها الخاصّ بها؟؟
استهلّ الشاعر قصيدته باسم نكرة(معلّمة) في حالة اعراب مبتدأ.
ان المتعارف عليه انّ المبتدأ يكون معرفة اذ كيف يكون الاخبارعن أمر مجهول او نكرة؟
منذ البداية يضعُنا الشاعرأمام صعوبة لغوية لها دلالتها المعنوية في وصف المعلمة .
وبالتالي يضعنا الشاعر امام اشكالية وهي البحث عن مسوّغات الابتداء بالاسم النكرة.
انّ من بين مسوّغات الابتداء بالاسم النكرة اذا كان هذا الاسم يفيد المدْح او الذمّ.(1).
وبما ان المقام يقتضي مدح المعلمة فان الشاعراستخدم هذه الظاهرة اللغوية النادرة والاستثنائية والصعبة لتُوظف في مدْح هذه الحبيبة التي هي محبوبة من طرف أطفالها
الى درجة خدمتها فهم يسارعون لحمل حقيبتها من يديها لتوفير الراحة لها.
كاني بالشاعر هنا يسعى ان يُهيئنا لصعوبة المعلمة واستثنائيتها ومن ناحية أخرى يحاول ان
يُعلمنا ان هذه المرأة باعتبارها معلمة ستقدّم لهذا المتيّم بها دُروسا.
هنا تمنّى المتيم بالمعلمة او المغرم بها لو كان “طفلها الاوحد” حتى يحْتكر خدمتها لنفسه.
وهنا يقول “بيكهاردت” “ان الطفل الواحد هو القائد غالبا في المجموعات في فصول الدراسة”(2).
فهو لا يريد ان يضع الآخرون قيودا عليه وهو قادر على قيادة المجموعة”.
وهذا الطفل” الاوحد” سيكون مُدلّلا من طرف المعلمة وقد يصفه بقية الاطفال بالانانيّ لانه يحتكر خدمة المعلمة التي يتهافتون عليها هم الآخرون.
ان الشاعر استعمل حرف التمني”ليت” وهو يفيد طلب المستحيل كأنه يعلم ان حُلم هذا المغرم لن يتحقّق.
لقد وصفها الشاعر بالعناد المستمرّ والتجاهل المتواصل باستخدام صيغة المضارع الموفوع الذي يفيد الدوام والاستمرارية(تعاندني …وتتجاهلني… وتمرّ)
والعناد هو دليل على الاستقلالية وقوّة الشخصية التي تنشأ عند الشخص منذ سن الطفولة
والعناد وسيلة لاستعراض القوة الشخصية وما تتطلّبه من قيم تتعلق بدحْر الآخر واعلان الانتصار عليه بتصلّبها وفرض رأيها عليه وعلى الآخرين بطريقة دكتاتورية.
هل الشاعر يشي لنا بالعلاقة الدكتاتورية للمعلمة مع أطفالها بفصل الدراسة؟
لا أرجّح ذلك لعله يريد ان يسطّر على حزْمها وعزْمها وحسْمها للأمور وما يدعم ذلك حبّ
الاطفال لها.
أما تجاهلها له فقد فسّره علماء النفس بثلاثة معاني او تأويلات (3):
1- الازدراء:تعبّرفيه المراة عن رفضها بالتجاهل.
2- التجاهل التكتيكي وهو الازدراء الذي يهدف الى تجميد علاقتها بالمغرم بها او دفعه ببعض الكلمات اللطيفة الى الارتباط بها أكثر.انها تُرْبكُه وتجْعله غير قادر على الحكم على مشاعرها .
3- تجاهل العقوبة وهو نوع من الازدراء تمارسه المرأة على الرجل لايقاعه في السوء
تُجاهها فتجعله يشعر بالذنب نحوها.
يمكن القول وحوصلة ما قال علماء النفس بان تجاهل المرأة للرجل المعجب بها هو لتجْذبه أكثر فالرجل ينجذب للمرأة التي لا تطارده والتي لا تأخذ المبادرة فهو ينْجذب للمراة التي لاتعيره اهتماما وتجعله يشعرانه يسعى لقربها ويقوم بمجهود لجذبها اليه وهو أمر يُحبذه الطرفان.
فهل يمكن لهذه المعلمة ان تعلّمنا درسا في العفّة والتعفّف؟
===يتبع =========================================== ان هذا المتيّم بحبّ المعلمة قد مات” شهيدا” في سبيل حبها على حدّ قول نزار قباني حين قال الشاعر”كأن لمْ تر جثتي”والجثة هي جسم الانسان الميّت.انها لم ترحمه وقد مات في سبيل حبّها.
وهي تظلّ في تجاهلها له رغم انه لم “يجْحد ما ليس ينْجحد” من حبّه لها.انه في هذا المعنى يتناصّ مع ايليا ابو ماضي في قوله:
ما جَحد الحُبّ غير جاهله// أيجْحدُ الشمس من له بصرُ؟
وهل أكثر من تجاهلها له من انها تمحُو هواه بخطاها “كأنها سبورة كلّها غلطُ” وقامت بمحوها كاملة.ووجه الشبه يتجلى في عدم ترك الأثر كأنّ الشاعر بهذه الصورة المجازية ارادت المعلمة ان تمحُو أثر هواه من الوجود..
.انها تدوس على هواه بخطاها اي بقدميها..
انها نهاية في التجاهل والصدّ له.
انها صورة لها دلالتها المعنوية كانه جعل المعلمة تُواجهه وتصدّه بوسائلها التعليمية(سبورة/تمحو/ غلط).
انها مُعجمية لغوية تعليمية لعل الشاعر وظفها لابراز مدى تشبّث المعلمة بوسائلها التعليمية
وتمسّكها بمهنتها .
هل يمكن ان يكون هذا درْسا آخر يتعلمُه أهل المهنة في مهنيّة المعلمة وعشقها لمهنتها؟
يختم الشاعر بقفلة لم نكن لنتوقّعها حين قال:
لها حاجبان تقول بهما(لا)
كأنهما: اليوم لا أسستطيع…غدا
لست أعتقدُ.
انه شيء من المرونة بالنسبة لما هي عليه من صعوبة وتجاهل له فهي تواصلتْ معه تواصلا غير لفظيّ والحواجب أول وسيلة تواصل اجتماعي.
لقد توصّل الباحثون البريطانيون الى” ان الحواجبُ لها أهمّية كبيرة في التطوّر البشري
لان أسلافنا من خلالها تعلّموا كيفية التواصل الاجتماعي”(4) .
فهل نعتبر هذه المعلمة قد علّمتنا درسا في التواصل الاجتماعي يتعلّق بالتواصل غير اللفظي؟
ان المعلمة لم تفتح لهذا الرجل المغرم باب قسمها بل فتحت له نافذة من نوافذ قسمها وقد تحفّظت في ذلك فيمكن القول بانها نافذة نصف مفتوحة ونصف مغلقة حين تواصلت معه تواصلا غير لفظي انه تواصل بالايماء كأنّ مهنتها الشاقة مهنة التعليم قد اسْتنزفت قواها
فلم تعدْ قادرة حتى على التواصل اللفظي بالكلام وكأني بالشاعر بقدر ما يشعر بتعبها بقدر ما يشعر بألم هذا المغرم حين جعلها تتواصل معه ولو بالايماء لتعبّر له عن عدم استجابتها له اليوم وعدم اعتقادها بالاستجابة اليه يوم غد (في المستقبل).
ان هذا المعنى يتناصّ مع ما قاله الشاعر الاموي عمر ابن ابي ربيعة في هند:
ليت هندا أنجزتنا ما تعدْ// وشفتْ أنفسنا ممّا نجدْ
كلما قلتُ متى ميعادنا//ضحكت هند وقالتْ بعد غد.
هل الشاعر أراد ان يسّطر على نموذج من المراة المتمنعة وهي راغبة؟
هل هي معلمة قاسية على المتيّم بها؟
هل هي معلمة قاسية حتى على نفسها وتخنق مشاعرها؟
انها أسئلة تبقى مطروحة وقد تبقى مطروحة على المتلقّي للنظر في الجواب عنها.
الخاتمة:
ان الشاعر حمد حاجي قدّم لنا نموذجا لمعلمة قد تكون قاسية على المغرم بها عند تجاهلها لعشقه لها وهي في نفس الوقت لم تكن متمنّعة وهي راغبة بل كانت قاسية حتى على نفسها حين حرّمت على نفسها الحبّ للمتيّم بها وخنقت مشاعرها ولم تعشق غير مهنتها وأطفالها …ان موقفها ازاء المغرم بها فيه شيء من الصلابة والقسوة…لعلّ الشاعر حمد حاجي أراد أن يرسم لنا صورة للمعلمة المتعفّفة والمعلمة المُخلصة لعملها والمتيّمة بأطفالها والعاشقة لمهنتها والوفية لمبادئها حتى على حساب مشاعرها… وكيف لا تكون كذلك وهي موسومة بتربية أجيال على القيم ونحْت ملامح مواطنين صالحين للارتقاء بالمجتمع؟
ان التعليم وحده يرتقي بالشعوب.
جليلة المازني
بتاريخ10/01/2024
المراجع :
(1) أماني النجار:مسوّغات الابتداء بالنكرة-آخر تحديث :09/اوغسطس 2023
https://mawdoo3.cim>..
https://www.aljazeera.(2)
https://news.wafrle.com> post(3)
https://www.shorouknews.com>..(4)
====القصيدة========================================
مُعلمّةٌ ويسارعُ أطفالُها يحملون حقيبتها من يديها.. فيا ليتني طفلُها الأوْحَدُ
تُعَاندُني… تتجاهلني.. وتمرّ كأن لم ترَ جثتي كيف أجحدُ ما ليس يَنجحِدُ؟
تسير وتمحو خطاها هواي، كأنيَ سبّورةٌ كلُّها غلطٌ وتمرّ عليه يَدُ
لها حاجبان تقول بهما(لا) كأنهما: اليومَ لا استطيع.. غدًا لستُ أعتقدُ
Discussion about this post