المطران هيلاريون كابوتشي
أيقونة المقاومة وعاشق فلسطين
د.علي أحمد جديد
“أنا الآن في المنفى .. ولو أنني في (روما) عاصمة الكاثوليكية . لأني حين تركت وطني زرعت روحي في القدس على أمل العودة ، تماماً كما تُزرع حبة الحنطة ، لأنها إذا لم تُدفن حبة الحنطة في الأرض تموت ، وأنا دفنتها بهدف حياتها وقيامتها . إنني أعيش (ألم) الغربة ، والاستعداد (لأمل) العودة إلى وطني الأكبر سورية ، ومنه إلى الوطن الأصغر ، القدس وفلسطين” .
بهذه الكلمات التي كتبها بخط يده نستعيد نضال مطران المقاومة وأيقونتها المضيئة ، ورحلته المشرّفة في تاريخ العمل الوطني الفلسطيني .
وكثيرة هي التفاصيل التي لم تُروَ ، على صفحات تاريخ عمله المقاوِم ، والتي أدّى فيها (هيلاريون كابوتشي) دوراً سرّياً قام به بكل شغفه رجل دين مسيحي من سورية . هذا الدور المناقض اليوم لما قامت به وتقوم به مشايخ الفتنة المعروفين وهم يكتفون بدور المتفرّج من تحت عمائمهم ومن خلف لحاهم الكاذبة بينما يتعرض الشعب الفلسطيني في غزَّة لأبشع أنواع الإبادة التاريخية كما سبق ان تعرضت له قبائل “الهنود الحمر” في الشمال الأمريكي وعلى مرأىً من العالم كله .
ولد المطران (هيلاريون كابوتشي) في حلب عام 1922 ، وأصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس في العام 1965. وعُرف بمواقفه الوطنية وبانتمائه للقضية الفلسطنية إذ لم يسمح عنفوانه الوطني لمنصبه الديني أن يمنعه من دعم حق الثورة الفلسطنية في المقاومة سعياً للتحرير . بل استثمر علاقاته مع الفاتيكان لتوضيح الممارسات والاعتداءات العنصرية بحق الشعب الفلسطيني للعالم اجمع .
وقد وُجِّهَت للمطران كابوتشي تهم عديدة في محاولات لإجهاض نضاله ومقاومته و منها الاتصال والتعاون مع جهات معادية (لاسرائيل) التي لم تتردد باعتقاله عام 1974 والحكم عليه بالسجن 12 عاماً ، حيث قضى عدة سنوات السجن قبل أن تنجح وساطات الفاتيكان وبعض الدول الأوروبية للافراج عنه ، وابعاده ليعيش منفياً في روما دون أن يثنيه ذلك على المضي في مسيرته المقاوِمة ، رغم عمره المتقدم الذي لم يمنعه في عام 2009 من المضي في رحلة بحرية متن (سفينة الأخوة) ، لكسر الحصار عن قطاع غَزَّة ، والتي مُنعَت من الوصول إلى القطاع المحاصر بعد إبحارها من لبنان . لكنه لم يتوقف عن دعم غَزَّة وأهلها وقام بتكرار الرحلة الصعبة بعد عام على متن السفينة (مرمرة) في أيار/مايو عام 2010 .
وفي العودة إلى تاريخه النضالي نقرأ أنه في يوم الثامن من آب/اغسطس عام 1974 قامت أسرائيل باعتقال المطران المقاوِم (هيلاريون كابوتشي) التي قالت أن الشبهات حامت حول المطران في مطرانية القدس حين أبلغ عن سرقة 75 ألف دولاراً أمريكياً من منزله . وبعد التحقيقات ، تبيّن أن المبلغ الفعلي هو 750 ألف دولاراً امريكياً ، وهو مافسرته سلطات الاحتلال باحتمال أن تكون الأموال مخصصة لدعم الأنشطة الفدائية ، وبالتالي ارتباط المطران (هيلاريون كابوتشي) بالتنظيمات الفلسطينية ، وأبرزها حركة “فتح” التي كانت يومها كأبرز حركةٍ مقاوِمة . لكن أجهزة الأمن أبقت الموضوع طي الكتمان ، نظراً إلى الموقع اللاهوتي الحساس للمطران ، وتفدياً للتداعيات المحتملة لتوقيفه على مستوى علاقة الكيان بدول العالم ، وبصورة خاصة بالفاتيكان وفرنسا الديغولية آنذاك . واستمر تعقب المطران إلى أن ثبت لأمن الكيان بأن الكنيسة الكاثوليكية قد حوّلها المطران إلى مركز سرّي لسلاح منظمات المقاومة الفلسطينية .
وعلى هذا الأساس ، فرضت سلطات الكيان حظراً على نشر خبر اعتقاله لمدة عشرة أيام ، وأُعلن على أثرها عن توقيف المطران (كابوتشي) .
لم يكن العداء الصهيوني للمطران (كابوتشي) صدفة أو وليد تلك الساعة ، لأن المطران المقاوم كان معروفاً لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية كوطني “متطرف” كما انه كان رجل الدين الثالث الذي يعتقل بتهمة ارتكاب المخالفات أمنية(المقاومة) منذ قيام إسرائيل ، بحسب ما كتبت صحيفة “معاريف” ، والتي وصفته بأنه أخطر رجال الدين المقاومين الثلاثة وذلك بسبب موقعه الديني كمسيحي رفيع ، والأسلوب الذي كان يتبعه ، بينما كان الآخران رجل الدين القبطي (يواكيم الأنطوني) ، الذي اتهم في العام 1962 بالتجسس لحساب الأردن ، والقس الانجليكاني (ايليا خوري) من “رام الله” الذي اعتقل في نيسان العام 1969 بتهمة التعاون مع إحدى المنظمات الفدائية . حتى
أن الصحفي الأسرائيلي (داني روبنشتاين) كتب في صحيفة “دافار” يوم 20 آب/اغسطس 1974 :
إن “أمنون لين” ، عضو الكنيست و”شموئيل توليدانو” مستشار الحكومة الإسرائيلية للشؤون العربية طلبا من البطريرك (مكسيموس الخامس) المطران حكيم سابقاً عزل المطران (هيلاريون كابوتشي) من كنيسة الروم الكاثوليك في القدس بسبب نشاطاته وآرائه التي تأخذ “طابعاً متطرفا”ً وانحرفت عن شؤون الكنيسة . وقد تم اللقاء بين (لين وتوليدانو وبين مكسيموس) في روما ، وبحثت فيه شؤون الكنيسة الكاثوليكية في إسرائيل .
وفي الثالث من أيلول العام 1974 ، وجّه النائب العام الإسرائيلي اتهاماته ضد المطران (كابوتشي) لإدانته بثلاث تهم على الأقل والتي كانت :
” الاتصال بعميل اجنبي ، وحيازة الأسلحة ونقلها بطريقة غير قانونية ، والتعاون مع منظمة غير شرعية” .
واستند النائب العام في التهمة الأولى إلى قانون اسرائيلي صادر في العام 1957 ، أما التهمة الثانية فتحددت بموجب قانون صادر عن سلطات الانتداب البريطاني عام 1936 اثناء الثورة الفلسطينية ضد الوجود البريطاني وتسهيل التغلغل الصهيوني في فلسطين ، وكانت التهمة الثالثة ، أيضاً ، تقوم على أساس قانون الطوارئ البريطاني الصادر عام 1945.
وجاء في صحيفة “معاريف” :
“كان يُسمح للمطران (هيلاريون كابوتشي – بحكم مركزه – أن يعبر الحدود “اللبنانية – الإسرائيلية” بكل حرية ، ومن دون أن يخضع ، هو شخصياً أو السيارة التي يستقلها ، لإجراءات التفتيش التي يتطلبها الأمن .
وفي نهاية نيسان/أبريل عام 1974 ، توجه المطران (كابوتشي) وهو يقود سيارته بنفسه ، إلى منزل عائلته مع اثنين من قادة حركة (فتح) ، هما (خليل الوزير أبو جهاد) ، رئيس التنظيم العسكري لمنظمة (فتح) والساعد الأيمن لياسر عرفات، و(أبو فراس)، المسؤول العسكري في منظمة “أيلول الأسود”. واجتمع المطران (كابوتشي) مع أحد مسؤولي العمليات التي تقوم بها حركة (فتح) في “الضفة الغربية و القدس” . وخلال الاجتماع طلب (أبو فراس) من المطران (كابوتشي) مساعدة حركة (فتح) في نقل الأسلحة والمعدات التفجيرية من “بيت حنينيا” . وأثناء التحقيق معه في عملية تهريب الأسلحة قال بأنه تم نقلها إلى سيارته دون علمه . غير أن المحققين أظهروا له مغلفاً كتب عليه بخطّه رقم المسؤول الفلسطيني (أبو فراس) في لبنان ورسالة منه تثبت ضلوعه في مخطط نقل السلاح من لبنان . واعترف (كابوتشي) حينها بأنه تلقى في نيسان/أبريل 1974 من المدعو (أبو فراس) حقيبتين نقلهما بسيارته إلى الضفة الغربية حيث أخفاهما داخل مدرسة الكنيسة اليونانية الكاثوليكية في “بيت حنينا”. وأنه قد طُلب منه في شهر تموز/يوليو من العام نفسه نقل وسائل قتالية أخرى تم إخفاؤها في أماكن مختلفة داخل سيارته ، ولكن تم ضبط السيارة عند اعتقاله .
وفي يوم الأحد الأول من كانون الثاني/يناير2017 توفي المطران المقاوِم (هيلاريون كابوتشي) في “روما” منفاه الأخير ، حيث تم نقل جثمانه ليدفنوه في “جونية” – لبنان حسب وصيته ، وليبقى ضوء أيقونته منيراً حتى تحقيق حلمه باناصار (غَزَّة) وتحريرها .