أسبوع الكاتب المصري مجدي شعيشع
النص الأخير
الطّهُور
دراجة عمي أحمد فؤاد، جرسها صُفارة إنذار، لا مفر من الهروب، أطلقت جناحي للهواء، غزالًا تطارده الأسود، أجري بين البيوت، الحارات والشوارع مغلقة فى عيني رغم اتساعها، حتى الهواء لا يستطيع النفاذ من بينها.
ملحمة الإمساك بي بطلها أهل الحارة والأقارب.
وصلت دون أن أدري “لعزبة البيه” المخيفة في عِز النهار، غابات موحشة، تمتلئ بالخرافات عن شجرة الجميز، والجنية التي تسكنها، وتشتت عقلي المتشبّع بقصصها، لكنها الملاذ الوحيد، الهروب جعلني حجر مقذوف لايختار وِجهته، الرعب يقاسمني أنفاسي ويبتلعها كلما اقتربت منها، أتلمس جِذعها العريض بحذر من يختبر وجود كهرباء في سلك عارٍ بإصبع رطب، تسلقتها، غصت بين أفرعها، سمكة تتحصن بالشِباك إن طاردها قرموط فى عرض النهر.
لم يجدي معهم تهديدي بالسقوط فى النهر من فرع تمدد عليه، وكيف لهارب محاصر أن يهدد محاصريه؟ وأرخص حياة، حياة المطارد، وجبُنت فلم أفعل، لم يتبقَّ غير استسلام الطائر المكبل على فرع شجرة صوب بندقية صياد ماهر.
وقعت في الأسر، وقوع حبة توت بين ضرسين، مُهدداً بكل الأسلحة المتاحة من غاب، وخيزران، وحبل تيل مجدول بعناية، زرعوه فى أرضنا، لإذلال من يتمرد.
وقع الصبيّ الذي حير أهل الحارة، لا أدري من أمسك بي كمُخبِر محترف يمارس هوايته،
فالمخبرون في بلادي، لو قبضوا على الماء مافلتت قطرة من بين أصابعهم.
الحماية طلبي الوحيد، وهي حلم كل أسير، سحلوني لدوار البيت، المكان المناسب لاقامة الحد على الطيور دون محاكمة اتفق فيها الأهل والشهود على تنفيذ القصاص يوم الجمعة بعد الصلاة.
أشهق، أتوسل، استفغر كالمحتضر، في وقت رُفِعَت فيه التوبة، عمى أحمد فؤاد يُلهِبني بنظراتٍ كالجمر تحرق أضلعي، يذبحني بها ألف مرة قبل أن ينفذ مهمته، سيسفك دمي لا محالة.
منذ شهور، وأنا أسترق السمع بين أبي وخالي، متظاهراً بعدم فهم مايقولون، “الولد أتم الخمس سنوات، استوى العود، وتأخر الحصاد، نحصده مع القمح”.
يعيد كل منهم ماعلق بذاكرته عن هذا اليوم، فترتدي الضحكات عباءة الخجل،وهُم يتناوبون على تدخين (الجُوزة) حول موقد بدائي، عليه أبريق شاي مُغبر من دخان الحطب، فوق مصطبة مفروشة بالحصير أمام الدار ، على ضفة الترعة.
الاعداد لطقوس الطّهُور تلوكه الألسن كل ليلة، وأنا أتظاهر بِجَمْع بكرات الخيط الفارغة لصناعة (عجلات كازوز)، وكل ما أخطط له كيف أهرب في هذا اليوم، الهرب رد فعل.
معاملات الأهل معيّ ترتقي كل يوم بطريقة فاقت أحلامي، وأكبر من قدرتى على الاستيعاب، ولم أعهدها من قبل، وسمعت أذني لأول مرة
– الأكل جاهز يا حبيبي.
– هذة البرتقالة كلها لك يا بطل….
تسمين الضحية يجري فى هدوء وبمنتهى الدقة، أخى الأصغر مصطفى وطّد علاقته بي، لعله يحظى بقطعة دجاج، فما أحصل عليه يوم ذبح طير من طيور البيت وصل إلى رُبع الذبيحة سواء كان المذبوح (أوزاً أو بطاً) إضافة لجناح أو رقبة وأحياناً الكبدة كلها، هذا بخلاف النفحات المباشرة من أياديهم الكريمة، إلى فمي والتي استقطعها أبي وأمي من نصيبهم.
أكلت ما لم يأكله عريس في أسبوع الفرح، لم أستوعب لماذا يتم تسميني بهذا الاهتمام والتركيز، حتى أصبت بالتخمة من يومها حتى الآن.
دراجة عمي أحمد فؤاد، كئيبة الملامح، عليها جرس فضي مستدير، وراديو صغير مضبوط على إذاعة القرآن الكريم، تنساب رغم هلاكها كسيارات المواكب، يركبها بمهارة متسابقي الرالي، بين حقول القمح على (سِكة السِباخة)، وعلى الكرسي الخلفي صندوق من الخشب مغروس فيه علم مصر من القماش، وفى داخله أدوات القص، يلقى التحايا على الفلاحين بِكِلتا يديه، من عينة تحايا الزعماء.
أغلق دكان الحلاقة وجاء لأجلي، فيوم الطُهور عيد الحلاق، سيحصل فيه على جنيهاً يغنيه عن حلاقة خمسين رأس.
استقبلوه بتهاليل، أحضروني مقيداً، مصفداً، محاصراً فى قفص من البشر، والصيد يرتجف يتوسل لأي أحد يتوسط له كي يطلقوا صراحه، الأنفاس محبوسة، الصِبية الذين مروا بهذا اليوم من قبل، يضحكون بشماتة الجبناء، لوقوعي أسيراً، يردون لي ديّناً قديماً فى يوم التشفي، وبعضهم اكتسى بالحُزن، لست أدري أهو لأجلي، أم ربما لم يصل إليهم الدور بعد.
إلا أمي وخالي عبدالحميد، بكوا من أجلي، كأن لم يبكوا من قبل.
أحضروا كرسياً خشبياً كبيراً، بدون ظهر، لزوم المقصلة، وكرسيَّ حمام صغيراً، بينهما إناء نحاسي كبير، فالدم سيكون شلالاً، وكل ما يدور في خيالي، هو منظر ألفته كثيراً كلما ذبحنا ديك يطير في الهواء، غارقاً في دمائه، أخشى أن تهوى يد “عمى أحمد فؤاد” على الجذر، ويغض الطرف عن الفرع، فأصبح ديكاً ينتقض فى الهواء تغطى دمائه الدوار.
جردوني من بچامتى الكستور، استبدلوها بجلباب أخى الأكبر “السيد” فهي الأنسب لهذا اليوم.
على كرسي المقصلة، أمسكني خالي إبراهيم، بعنف مبالغ فيه، أجلسني القرفصاء كصيد ثمين، يقدمه قرباناً لوحش، يأكل ولا يشكر، لا تجدي دموعي، ولا صوتى المبحوح.
أملاح البكاءِ وحرارته يحرقان وجهي النحيل.
جلس عمي أحمد فؤاد على الكرسي الصغير بعد التهامه عود قصب، كعصارة كهربائية رغم أنه أهتم، رؤية (عينيه الجاحظتين)، فوق نظارته الصغيرة مبتسماً بلا سبب، لا يسمع توسلاتي بكل عزيز عليه، يجعل الكون بيتاً من الرعب، كنت حانقاً عليه حد الكراهية، يَسمعني أسبه ألف مرة، فلا أتوقف، ولا هو يرحم، غيظي منه يأكل بعضي، ويحرق قلبي، رجل صارم، حاد الملامح كالمشرط فى يده، لا يستخدم المخدر مطلقاً، وأظنه لا يعرفه، رغم كونه ممرض ماهر للأسنان، وبعد الجِراحات الصُغرى في قريتي “ميت حديد” وينافسه “عمي عبدالمحُسِن”.
يردد بصوت خافت، ما تقوله أمي حين تمارس هوايتها، على رقاب الطيور.
“بسم الله ، الله أكبر”.
ارتفعت يده، هوت بقسوة، على ناصية الفرع، انتهى من عملية التجميل، تملكتني رعشة، زلزلت أركاني وتفاصيلي، لم (أستطع) البكاء لفظاعة القطع، ارتجفت رغم حرارة الجو، الشهقات تقطع أنفاسي، نشيج ممزق، قطع نشازية ينتفض معها صدري يعلو ويهبط، اختنقت الآه في صدري، محموماً، لا أستطيع التنفس، انتزعوا قلبي فى وضح النهار.
وضع مرهم مرطب وقطعة شاش على الجرح، لا يعيرني أدنى اهتمام كأني قطعة خشب لا روح فيها، ولا يضير الطرف ربطه بعد قطعه.
بقيت غصة خنجر تسكن الرأس المذبوح، حملوني على سرير لم أعتده.
مباركات وزغاريد الأهل وتهليل الجيران، هذيان فى حفلة زار، جنون لا أعرف له سبباً، من تضرروا من شقاوتى طيبوا خاطري وبكوا لأجلي.
أمطروني بالقروش خمسات وعشرات، ضربوا حِصاراً حول سريري، الشهقات القلب تزلزل غرفتي، السرير مراقب من كوة بالباب وفتحات بالنافذة، حصروا النقود وأنا غارق في دمي وأوجاعي.
أخذتني غفوة، أفقت منها على كابوس مزعج، صرخت، ابتل الشاش الذي عَصَبَ بها الجرح، وسلموني كراس سجلوا فيه النقود مِن من وكم دفع.
لم أجد في جيبي أو تحت وسادتي قرشاً واحداً من المُسجل، صدروا لي وجع العمر، وصادروا ذمتي المالية، وستظل ديناً عليّ أن أوفيه.
———
– الطهور: الختان