في مثل هذا اليوم 7فبراير1947م..
الفلسطينيون واليهود المستوطنين في فلسطين يعلنون بشكل منفصل رفضهم إلى الإقتراح البريطاني بتقسيم فلسطين إلى دولتين الأولى فلسطينية عربية والأخرى يهودية مع بقاء القدس تحت إشراف دولي.
بدأت الدولة العثمانية تعاني من أزمة اقتصادية في منتصف القرن التاسع عشر، ما فتح الطريق أمام بريطانيا لدخول المنطقة العربية تحت اسم البعثات الأجنبية، أو ما عرف بـ”الحملة الصليبية السلمية”.
مصالح الاستعمار البريطاني احتاجت من يعززها، فلم يجد سوى الحركة الصهيونية لتحقيق مراده وإنشاء وطن قومي لليهود.
تولى وزير الخارجية البريطاني هنري جون تيمبل عام 1830 متابعة إنشاء الوطن القومي لليهود، حتى افتتحت بريطانيا أول قنصلية لها في القدس عام 1838 مستفيدة من قانون الصلح العثماني.
ساعد البريطانيون عددا من اليهود على شراء الأراضي في فلسطين وبناء مستعمرات يهودية عليها، من أجل قطع خط التواصل بين آسيا وأفريقيا ومنع أي تحركات عسكرية مستقبلا، ولضمان سير مصالح بريطانيا الاقتصادية بسلاسة إلى الهند.
القيود العثمانية ضد تملُّك اليهود تحديدا كانت شديدة، فكانت إحدى الحيل التي مارسها يهود أوروبا هي شراء الأراضي عبر وسطاء أجانب، أو بناء عدد من المستشفيات ودور الأيتام، لتتحول فيما بعد إلى مستوطنات لليهود.
حاول تيمبل أن يطلب من الدولة العثمانية إصدار قرار يشجع اليهود الموزعين في أوروبا على الهجرة إلى فلسطين، لكن السلطان عبد الحميد الثاني منع زيارة اليهود لمدة تزيد عن شهر، ومنع أيضا تجمعهم جوار القدس تفاديا لتكوين حكومة من اليهود المطرودين من أوروبا.
خط سكة حديد يافا-القدس.. أول موطئ قدم للانتداب
كانت الدولة العثمانية لا تسمح للشركات الأجنبية بالبناء في فلسطين، إلا لمن يحمل “نظام الامتيازات العثمانية”، فحاول البريطانيون بمساعدة الصهاينة الحصول على هذا الامتياز، لتملك الأراضي لصالح اليهود.
في عام 1856 تواصل السير الإنجليزي موسى مونتفيري (يهودي الأصل) مع هنري جون تمبل، الذي كان رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، وناقشا فكرة بناء خط سكة حديد يافا-القدس، لخدمة المصالح الاستعمارية للبريطانيين وتسهيل الهجرة اليهودية للمنطقة.
كان الهدف المعلن آنذاك من إنشاء السكة تسهيل عملية انتقال الحجاج المسيحيين الأوروبيين من يافا إلى القدس، بالإضافة إلى تطوير الحركة التجارية الأوروبية مع الدولة العثمانية، ولتسهيل تنقل السكان في المنطقة عموما.
تزامن ذلك مع زيارة الوزير العثماني محمد أمين باشا للندن، فتواصل معه مونتفيري من أجل توقيع اتفاقية حول مشروع السكة الحديدية، واتفقا على توقيعها في 20 مايو/أيار 1856، لكن الدولة العثمانية تراجعت عن ذلك.
بعد سنوات بدا فيها أن المشروع لن يطبق، تسلم المهمة رجل الأعمال اليهودي يوسف نافون عام 1885، وانتقل لإسطنبول وبقي يروج للمشروع قرابة ثلاث سنوات من أجل الحصول على موافقة الدولة العثمانية.
نجح نافون في الحصول على الامتياز العثماني لتنفيذ المشروع في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1888، فسافر إلى أوروبا في السنة التالية وحصل على تمويل من رجل الأعمال الفرنسي برنارد كاميلا كولا، الذي اعتبر التمويل تعاونا بين اليهود والكاثوليك، لكن اليهود لم يروا في المشروع ما يخدم مصالحهم.
بدأ تنفيذ المشروع في 31 مارس/آذار 1890، وأشرف عليه مهندسون من سويسرا وإيطاليا والنمسا، وبني بأيدي عمال من مصر والسودان والجزائر وفلسطين، وتوفي العديد منهم أثناء بناء هذا المشروع.
تم أول اختبار للسكة في أكتوبر/تشرين الأول 1890، وانطلقت أول رحلة في 27 أغسطس/آب 1892، واستغرقت وقتها 3 ساعات تقريبا، وتم تكريم نافون بوسام شرف فرنسي وبميدالية عثمانية ومنح لقب “باي” لإنجاحه هذا المشروع.
ظهرت وقتها الغاية من إنشاء هذا المشروع بالنسبة لليهود، فقد كان المشروع الصهيوني أكبر مستفيد منه بعدما أقام سلسلة مستوطنات على طول الخط، فسيطر على قطاع نقل البضائع واستفاد منه اقتصاديا.
رغم هذا النجاح عانى المشروع من أمرين، أولهما ضعف الحركة التبشيرية الأوروبية للمنطقة، والثاني القيود العثمانية على الهجرة اليهودية إلى فلسطين عام 1894، فحاول تيودور هرتزل (مؤسس الصهيونية الحديثة) شراء السكة عام 1901 للتنصل من القيود العثمانية لكنه لم ينجح.
حاول هرتزل إغراء السلطان العثماني عبد الحميد بطرق أخرى، فأرسل له رسالة يعرض عليه فيها قرضا بمبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني، مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، ومنحهم قطعة أرض يقيمون عليها حكما ذاتيا، وأنشأ شركة يهودية عثمانية وأدخل الوساطات الأوروبية والتركية لإقناعه لكنه فشل، كما حاول إنشاء جامعة عبرية في القدس، لكن الاقتراح قوبل بالرفض من الدولة العثمانية أيضا.
في 29 أغسطس/آب 1897عقد أول مؤتمر صهيوني في مدينة “بال” بسويسرا، وكانت أبرز قضاياه تعزيز الهوية اليهودية عند يهود أوروبا الغربية، وتعليم اللغة العبرية لليهود، وتحويل أنظارهم ومشاعرهم عن أميركا الجنوبية وتوجيهها نحو فلسطين.
نهاية الوصاية العثمانية
اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، فسيطرت القوات العثمانية على سكة الحديد يافا-القدس من أجل استعمالها لنقل الأغراض العسكرية إلى القدس.
قرر العثمانيون في مطلع عام 1915 (بطلب من الألمان) الدخول إلى مصر عبر فلسطين لإشغال البريطانيين عن مضيق الدرنديل، لكن ما لم يتوقعوه هو تمركز الإنجليز خلف قناة السويس.
مدفعيات الإنجليز التي كانت تنتظر القوات العثمانية خلف قناة السويس، جلعت الأتراك يخسرون ألف قتيل وثلاثة آلاف أسير، وشجعت هذه الهزيمة الإنجليز على بدء الهجوم وإصدار الأوامر باحتلال فلسطين.
وفي خضم الحرب العالمية الأولى، اجتمعت فرنسا وبريطانيا للتفكير في الاستيلاء على المنطقة العربية حال انتهاء الحرب، واتفقتا بعد تقسيم المنطقة بينهما على أن تبقى فلسطين تحت إدارة دولية، ووقعت وقتها اتفاقية سايكس بيكو في مايو/أيار 1916.
في ذلك الوقت كان المندوب السامي البريطاني في مصر السير هنري مكماهن قد وعد الشريف حسين بـ”الاستقلال العربي” عن الدولة العثمانية، ولم يكن يعلم الشريف ما يخطط له البريطانيون، وبدأ بالحرب العسكرية ضد العثمانيين في يونيو/حزيران 1916.
حروب ضد العثمانيين من كل الجهات، وانتصارات متتالية للإنجليز، جعلت تقدم البريطانين أسرع داخل فلسطين، بدءا بالمعركة الأولى في 27 مارس/آذار 1917 ثم في 19 أبريل/نيسان بغزة، مما أنهك القوات العثمانية وأضعفها.
بدأ الإنجليز في زحفهم صوب القدس، فاحتلوا بئر السبع في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1917، والتي كانت أول مدينة يحتلونها، ثم أكملوا طريقهم إلى غزة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، حتى وصلوا يافا والرملة، ليقرر إدموند ألنبي قائد الجيش البريطاني الزحف صوب القدس.
لجأ العثمانيون كمحاولة أخيرة إلى تفجير وتخريب سكة الحديد لمنع تقدم القوات البريطانية في نوفمبر/تشرين الثاني 1917.
لكن الإنجليز أعادوا بناء السكة أثناء الحرب بأبسط الإمكانيات حتى وصل أول قطار إنجليزي إلى القدس في 27 ديسمبر/كانون الأول 1917.
عندها أدرك العثمانيون أن القدس ستسقط بيد الإنجليز لا محالة، فقرروا الاستسلام حفاظا على الأماكن المقدسة، على أن يحترم البريطانيون ذلك، فدخل البريطانيون القدس في 11 ديسمبر/كانون الأول 1917، ليكون ذلك التاريخ نهاية الحكم العثماني لفلسطين الذي استمر أربعة قرون تماما، وبداية لعهد الاستعمار البريطاني.
أعلن ألنبي بيانه الأول الشهير، الذي فرض فيه الأحكام العرفية داخل القدس، وطالب السكان بمباشرة أعمالهم دون أي إضراب واحترام الخصوصية الدينية لمدينة القدس وأماكنها المقدسة، كما أعلن فرض حكومة عسكرية.
فرح رئيس الوزراء البريطاني فرحا كبيرا بسقوط القدس في مناسبة عيد الميلاد، وكتب في مذكراته أنه استطاع “تحرير” أقدس مدينة في العالم، و”أنه بتحريرها تمكن العالم المسيحي من استرداد أماكنه المقدسة”.
قبل أن تضع الحرب أوزارها ويبدأ تقسيم أملاك الدولة العثمانية بين الحلفاء، أُرسل وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور مندوبا عن رئيس الوزراء البريطاني لوير جورج في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 للتفاوض مع الحركة الصهيونية بشأن مطالبها في فلسطين.
وعد بلفور
اجتمع بلفور مع ممثلي الحركة الصهيونية وطالبوا الحكومة البريطانية من خلاله بإصدار وعد حكومي رسمي بإعطائهم فلسطين بعد النصر في الحرب العالمية، فأرسل بلفور رسالته المشهورة في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 إلى رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا اللورد ليونيل روتشيلد، والتي قال فيها:
” إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية، على ألا يجري أي شيء قد يؤدي إلى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين، أو من الحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى أو يؤثر على وضعهم السياسي”.
وهكذا تمت الخطة لوضع صيغة ما عرف بـ”وعد بلفور”، ووقعت عليه الحكومة البريطانية، وكان هدفها الأساسي استقطاب يهود ألمانيا لينضموا إلى يهود بريطانيا لمساعدة الإنجليز.
وعندما انتهت الحرب تكثفت الدعوات لنقل اليهود من أوروبا وأميركا، ثم بدأت الهجرات اليهودية بأعداد هائلة تُنقل عبر خط سكة حديد يافا-القدس، الذي استولى عليه البريطانيون تماما.
في عام 1918 قررت الحكومة البريطانية إرسال وفد إلى فلسطين ضم حاييم وايزمان قائد القوات البريطانية في فلسطين من أجل دراسة مدى إمكانية تطبيق وعد بلفور.
وعرضت الحكومة البريطانية في السنة ذاتها نص تصريح بلفور على الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، وأقرته كل من فرنسا وإيطاليا رسميا.
من الجدير بالذكر أن وايزمان كان رئيسا للمنظمة الصهيونية العالمية منذ عام 1920 حتى عام 1946، وتم انتخابه أول رئيس لدولة إسرائيل عام 1949 كما يعد أشهر الشخصيات الصهيونية بعد هرتزل.
مؤتمر سان ريمو
في 19-26 أبريل/نيسان 1920 عقد الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى مؤتمرا في مدينة سان ريمو الإيطالية لتقسيم الأراضي التي استولوا عليها من الدولة العثمانية، واتفقوا على وضع فلسطين تحديدا تحت انتداب دولة ينتخبونها، فاجتمعوا على بريطانيا.
حضر المؤتمر وفد يهودي ضمّ الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان رئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني وهربرت صموئيل عضو مجلس اللوردات وناحوم سوكولوڤ الذين أسهموا في تحويل وعد بلفور من خطاب النوايا الحسنة إلى وثيقة قانونية ضمن لوائح الانتداب البريطاني على فلسطين.
وفي 24 أبريل/نيسان 1920 أعلن رسميا عن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتشكلت حكومة مدنية، وأُرسل صموئيل في يونيو/حزيران من العام ذاته مندوبا ساميا على فلسطين، وعمل على إنشاء مجلس تشريعي يخضع لأحكام الانتداب، لكن الفلسطينيين قاطعوا الانتخابات.
وفي أغسطس/آب 1920 وافقت الإدارة المدنية التي عينت داخل فلسطين على أول مرسوم هجرة يهودية، لتبدأ سلسلة التدفقات لليهود بلا توقف.
وفي يوليو/تموز 1921 أعلنت عُصبة الأمم (الأمم المتحدة حاليا) مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين، وذكرت أن المشروع جاء بناء على الوعد الذي أطلقه بلفور عام 1917، بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، ليكون التاريخ الرسمي لبداية عهد الانتداب.
أصدرت الحكومة البريطانية في أكتوبر/تشرين الأول 1920 مراسيم تحد من انتقال الأراضي، وتعد حيازة الأراضي المحلولة (تلك التي توفي صاحبها، أو لم يزرع فيها لأكثر من 3 سنوات) والأراضي الموات (تلك التي لم تزرع ولم تعمل وليست ملكا لأحد) موجبا للعقاب الشديد والمساءلة القانونية، وهو ما منح سيطرة أكبر لليهود على الأراضي الفلسطينية.
كما أصدرت بريطانيا في الشهر ذاته مرسوم منع الجريمة وأنشأت شرطة مدنية فلسطينية خولت لها إعلان أي منطقة بأنها “خطرة أو مضطربة” مما يسمح بانتشار الشرطة بشكل مكثف فيها وفرض غرامات جماعية على قرى وقبائل بالكامل.
اضطرابات
اندلعت اضطرابات واشتباكات عدة في مختلف مناطق فلسطين، وزاد من حدتها تزايد الهجرات اليهودية ووصول عدد المستوطنات لأكثر من 100، إضافة إلى دخول المؤسسات الصهيونية في مؤسسات الانتداب البريطاني، مما اعتبره الفلسطينيون وضعا غير عادل لأصحاب الأرض.
كان من أبرز الاضطرابات الرافضة للهجرة اليهودية ما حدث بمدينة يافا في أبريل/نيسان 1920 ليلة الاحتفال السنوي لموسم النبي موسى، وقتل 5 يهود وجرح أكثر من 200، في المقابل استشهد 4 من الفلسطينيين وجرح 21 منهم.
فتحت بريطانيا لجنة “بالين” للتحقيق في سبب هذه الحادثة، لكن الضغوط اليهودية منعت من نشر نتائج التقرير، فقد خلص إلى أن سكان فلسطين يشعرون بالخداع وخيبة الأمل من وعد بلفور، إضافة إلى خوفهم من زيادة الهيمنة اليهودية، وهو تخوف بررته بريطانيا بزيادة السيطرة الصهيونية على الحكم في المنطقة، لذا حمَّلت الحركة الصهيونية مسؤولية ما يحدث.
الاشتباكات بين اليهود والفلسطينيين لم تتوقف رغم تشديدات الإنجليز، فخرج الفلسطينيون في مدينة يافا في مايو/أيار 1921 مطالبين بإسقاط وعد بلفور، وأدت المواجهات بين الطرفين إلى مقتل 47 يهوديا واستشهاد 68 فلسطينيا.
واصل الفلسطينيون نضالهم، فأنشأوا جمعيات إسلامية ومسيحية، وعقدوا ثلاث مؤتمرات وطنية خلال 1919 و1922، وانتخبوا لجانا تنفيذية، وأرسلوا وفودا فلسطينية إلى لندن في عامي 1921 و1922 للمطالبة بحقوقهم وقضيتهم، لكن البريطانيين لم يلقوا بالا لذلك.
في المقابل أصدر الإنجليز الكتاب الأبيض في حزيران 1922، ووضحوا أن نية بريطانيا كانت دعم قيام وطن قومي لليهود في فلسطين، وليس تحويل فلسطين بكاملها وطنا لهم، وأوضحوا من خلاله أن زيادة أعداد الهجرة اليهودية يحتمل بناء على الوضع الاقتصادي في البلد.
صك الانتداب
وفي تاريخ 6 يوليو/تموز1921 أعلنت عصبة الأمم مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين، وصودق عليه في 24 يوليو/تموز 1922، ووضع حيز التنفيذ في 29 سبتمبر/أيلول من العام نفسه. وحرص محررو صك الانتداب على الإشارة إلى أنه جاء بناء على وعد بلفور.
اشتمل الصك على ديباجة و28 مادة، وأكدت بريطانيا من خلاله المشروع الصهيوني كما في وعد بلفور، وأضافت جزئية تقر فيها بـ”الصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين”، مع ذكر حقوق “الطوائف غير اليهودية” باقتضاب.
كانت المصالح اليهودية حاضرة في كل زوايا المواد داخل الصك وتبيِّن مسؤولية بريطانيا على المشروع الصهيوني في فلسطين، فقد اعترفت بالوكالة اليهودية بعد أن أنشأتها عام 1929، بالمقابل لم يتم الاعتراف بأي هيئة تمثل الغالبية العربية.
ركز الصك على تجهيز البلاد سياسيا واقتصاديا وإداريا بشكل يضمن إنشاء وطن قومي لليهود، ويضمن التزام بريطانيا بتسهيل الهجرة اليهودية والتشجيع على استيطان الأراضي، بالإضافة لتسهيل اكتسابهم الجنسية البريطانية، كما منحت اللغة العبرية مكانا معادلا للعربية كلغة رسمية.
ثورات.. دفاعا عن المقدسات
خرج صهاينة تصحيحيون يمينيون يهود في مظاهرة نحو حائط البراق في القدس الشريف، ووضعوا مقاعد وأدوات طقوسية قربه، معترضين على قانون “الستاتوكو” الذي كان قائما من العهد العثماني، واحتجوا عليه قائلين إنه يحد من دخولهم إليها، لكن الشرطة البريطانية حاولت منعهم.
أدت هذه الاحتجاجات اليهودية إلى ردود فعل عنيفة من الفلسطينيين، فأرسلوا مذكرة إلى المندوب السامي مطالبين “بألا يتخطى اليهود حدودهم”، وخرجوا بعدها في مظاهرات في جميع أنحاء البلاد، كانت أشدها في القدس والخليل وصفد، مما دفع البريطانيين إلى إعادة النظر في النتائج بعيدة المدى لسياساتهم المؤيدة للصهاينة.
وعقد الفلسطينيون بعدها المؤتمر الإسلامي في القدس بدعوة من المجلس الإسلامي الأعلى، شارك فيه 800 شخصية إسلامية، وحثوا المسلمين في كل مكان على إرسال العرائض لبريطانيا وعصبة الأمم للمطالبة بالحفاظ على الأماكن المقدسة.
وفي مارس/آذار 1930 أصدر السياسي البريطاني جون هوب سمبسون تقريرا قال فيه إنه لم تعد هنالك أي أراض إضافية من أجل إقامة مستوطنات زراعية لليهود الجدد.
وتزامن ذلك مع إصدار الحكومة البريطانية كتابا أبيض آخر أخذت فيه بعين الاعتبار التقارير السابقة التي أكدت أن الفلسطينيين يرون في الهجرة اليهودية خطرا سياسيا واقتصاديا، ودعت إلى إيلاء شكاوى الفلسطينيين المزيد من الاهتمام، لكن هذا الكتاب تعرض لانتقاد صهيوني شديد مما أدى للتراجع عنه في فبراير/شباط 1931.
وفي عام 1935 اكتشف الفلسطينيون شحنة ضخمة من الأسلحة المهربة لصالح المنظمة العسكرية الصهيونية “الهاغانا” (المسؤولة عن عدة مجازر ضد الفلسطينين) مما زاد مخاوف الفلسطينيين من تشريدهم بالوسائل العسكرية غير السياسية والديمغرافية والاقتصادية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1933 بدأت مظاهرات في جميع أنحاء فلسطين، تعبيرا عن الغضب من السياسات البريطانية التي مارست كل أشكال العنف والقمع، خاصة بعدما أعدمت رموزا فلسطينية في أغسطس/آب 1929 شاركت في ثورة البراق.
بدأت منظمات فلسطينية سرية شبه عسكرية بالتشكل، منها جماعة اليد السوداء بقيادة عز الدين القسام، الذي استشهد في كمين نصبته له القوات البريطانية في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1935.
أدى اغتيال القسام إلى إشعال فتيل الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 تزامنا مع زيادة الاستيلاء اليهودي على الأراضي لاستيعاب الهجرة اليهودية المتزايدة، وزيادة القوانين البريطانية التي هجرت المئات وتسببت بعطالة العديد من العمال الفلسطينيين، بالإضافة لخطط التقسيم للمنطقة.
فبدأ الهجوم يشتد بين الفلسطينيين واليهود، وعدد القتلى والجرحى يزيد، فأعلنت بريطانيا حالة الطوارئ وفرضت حظر تجول في البلاد، فرد عليها الفلسطينييون بحملة إضراب عام بداية من يافا حتى باقي المناطق الفلسطينية، وبدأوا حملة مسلحة ضد الانتداب البريطاني.
ردت قوات الانتداب على الإضراب بسلسلة اعتقالات عنيفة، وتدمير مساحات كبيرة من المباني شردت ما لا يقل عن 6 آلاف، ولأنها شعرت أن الثورة لن تتوقف بالطرق العسكرية، أعلنت إنشاء “لجنة بيل” الملكية.
عقدت بعدها سلسلة من المؤتمرات واللجان التي تدرس الوضع الفلسطيني، وتقترح خرائط لتقسيم المنطقة الفلسطينية، منها مؤتمر الطاولة المستديرة في مطلع عام 1939، وتوصية بريطانيا بالتقسيم عام 1943، وكتاب ماكدونالد الأبيض الذي حد من نسبة أعداد الهجرة اليهودية إلى 75 ألفا فقط للسنوات الخمس التالية للعام 1939.
ثم في عام 1944 أصدر حزب العمال البريطاني قرارا يوصي بتهجير الفلسطينيين مقابل استقبال أعداد أكبر من اليهود.
انتهاء الانتداب وإعلان قيام إسرائيل
بدأت في 17 يونيو/حزيران 1946 سلسلة هجمات صهيونية ضد البريطانيين، في تل أبيب والقدس، تلتها سلسلة اعتقالات لليهود من قبل الحكومة البريطانية رد عليها اليهود بهجمات أخرى عن طريق تفجير عدة مناطق للإدارة المدنية البريطانية.
فأصدر البريطانيون كتابا أبيض مرة أخرى، يحمّلون فيه الوكالة اليهودية ارتكاب “أعمال إرهابية”، وأعلنت أميركا دعمها للمشروع الاستيطاني وتأييدثها إعلان تقسيم فلسطين لأربعة مناطق في 20 أبريل/نيسان 1946، بناء على “خطة موريسن غرادي”، والتي حددت مساحة مناطق اليهود بـ17%.
طالبت بعدها الوكالة اليهودية بإقامة دولة في فلسطين، بناء على المنطقة التي أوصت بها “لجنة بيل” عام 1937، وهي مساحة أكبر تضم جميع منطقة الجليل والسهل الساحلي الغربي باستثناء منطقة يافا، فوجهت أميركا إلى القادة البريطانيين مطالب الوكالة بالتقسيم، منهية أي حل بريطاني-أميركي مشترك، في وقت استمرت فيه العمليات اليهودية ضد البريطانيين.
أعلن البريطانيون إحالة قضية فلسطين إلى أميركا رسميا في 2 أبريل/نيسان 1947، على أن تكمل الجمعية العامة “بتقديم التوصيات، بموجب المادة 10 من الميثاق، بشأن الحكم المستقبلي في فلسطين”.
فأنشأت الجمعية العامة لجنة خاصة أسمتها “اليونسكوب”، خرجت بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، على أن توضع القدس تحت الوصاية الدولية، مع إنهاء الانتداب البريطاني.
في 9 أبريل/نيسان 1948 أبادت العصابات اليهودية قرية دير ياسين الفلسطينية عن بكرة أبيها، وقتلت جميع سكانها البالغ عددهم آنذاك 279 شخصا، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ.
أعلن وزير الدفاع البريطاني آرثر جونز قرار بريطانيا بإنهاء الانتداب على فلسطين وتسليمها إلى الولايات المتحدة الأميركية، وأوصت في 15 مايو/أيار 1948 بنهاية للانتداب وبداية إعلان الدولتين اليهودية والفلسطينية.
أعلنت بعدها المنظمات الصهيونية قيام دولة إسرائيل، بعد أن تم تهجير قرابة 950 ألف فلسطيني عبر المذابح والترهيب من قراهم ومدنهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، من أصل مليون و400 ألف.
ماذا تركت بريطانيا وراءها؟
ارتكبت القوات البريطانية خلال فترة انتدابها عددا من المذابح، وقمعت الثورات الفلسطينية وأبرزها ثورة عام 1920، وثورة البراق عام 1929، وثورة القسّام عام 1935، والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.
قدِّر عدد اليهود في فلسطين قبل سقوط الدولة العثمانية بنحو 50 ألفا داخل فلسطين، ومع الانتداب البريطاني وصل إلى 650 ألفا عام 1948، حتى أصبحوا يشكلون 29.5% من السكان، كما ازدادت أعداد المستعمرات إلى 60.
وفي عام 1918 بلغ مجموع الأراضي الفلسطينية التي كان يملكها اليهود 650 ألف دونم، أي ما يشكل 2% من إجمالي مساحة فلسطين، وارتفعت النسبة إلى 8% عام 1948.!!