الجنيد الكبير
قصة قصيرة
——————-
القصة تم كتابتها كمشروع فى دورة
“كتابة السيناريو للمحترفين”
تحت إشراف أستاذي السيناريست المبدع
الأستاذ/ محمد رفيع
Mohamed Rafie
أهديها لأخي وصديق العمر وكابتني
كابتن/ عادل جنيد
بطل العالم فى الكاراتية
واخر عنقود الشهامة والنخوة لجدي الجنيد الكبير
—————-——
الجنيد الكبير
——————
قرش نحاسي، يتزين أحد وجهيه بصورة الملك فاروق، يقلبه جدي الجنيد بين إصبعيه، يثنيه ثني الورقة حتى يلتقي أعلى
الطربوش بأسفل الرقبة، يدفعه للبقال مقابل عُلبة دخّان، فيرفض أن يأخذه إلا سليماً معتدلاً، ولا يقبله على حالته هذه، اختلط العناد بالجدل بينه وبين البقال، والبضاعة المزجاة تتلفها النية المبيتة بالسوء.
ثم يعود فيغرس أظافره الفولاذية بين ضفتي القرش فيعود وجه الملك الممتلئ نضارة وهيبة فى فناء القرش، شاب طائش يكرر فعلته حتى يشتري بالقرش مالم يشتريه غيره بالجنيه، تاركاً غصة فى حلق البقال ضيق الأفق معصوب الحكمة لا يعلم أن القرش التالف فى جيبه خير من جنيه فى محفظة الزبون.
فى عام 1947 داهم مصر وباء الكوليرا العاشر والأخير، تبرعت أسرتين بإخلاء دارين لعملية المكافحة، إحداهما دار الحاج صابر أبو مصطفى يغتسل فيها الرجال، بمعقمات خانقة إجباري، كل فرد على حده، مع تطبيق صارم لاحترازات التباعد، ثم تُغسل ملابسهم ويتم تعقيمها وتطهيرها، وكذلك تفعل النساء فى دار بعيدة.
على نواصي الوباء تنعق الغربان بين الديار، لم تهدأ حتى حصدت أرواح الأحبة، الكوليرا كأفعى الكوبرا، ترصد ضحاياها ببطء، تقترب فى حذر، تتحين الفرصة المناسبة، تنفث سمها القاتل، حتى تنهش قلب ضحاياها بدم بارد، كان من بينهم الحاج شطا، والحاج حسن أبو مجاهد، وثالثهم ستي “بديعة” زوجة جدي الجنيد الكبير, والتي فجعت بموتها البلد حتى توضأ الحُزنُ من دموع القهر.
يجوب البلاد والقرش لا يفارق جيبه، يستخدمه كالجوكر فى الكوتشينة، فهو كاسب لامحالة، يبحث عن رزق فى زمن الضنك لأولاده، الزمن الذي يُعَدُ فيه الملح تبذُرًا إن وجد الخُبز.
بلا حيلة ترك زوجته تصارعها الكوليرا حتى صرعتها، الكوليرا ترتع بخبث فى بيئة رطبة بين دوار الماشية وأكوام التِبن والفرن البلدي.
منذ آخر مرة ذهبت لإشعال فانوس مسجد الشيخ داود المقابل للبيت، بأمر جدي الجنيد، لم تتنفس هواءً نقياً، و لم يشاركها معاناتها ولا الآم العدوى أحد.
انقطعت بها السُبُل فماتت، ونُقِلت على الفور لمستشفى دكرنس.
عاد جدي الجنيد للقرية وفى يده أدوية كثيرة، لم يستطع قراءة الوجوه التي اعتصرها الحزن، ربما لأنه حاد المزاج، جاف الطباع، لا يضعف ولا يلين، دخل البيت مدججًا بالأنين وسط دخان كثيف، لم يجرؤ أحد على مصارحته بخبر موتها، سلموه خُلخالها،أيقن مصير زوجته التي تركها بالأمس مريضة وسط أولادها الخمسة، يبحث لها عن دواء بلا جدوى. .
المبالغة فى مواسته جثمت على صدره تقضم غصاته، تتقطع أنفاسه من الحزن، شهقت روحه فى لُجة القهر.
، الأفواه من حوله مثخنة بالنواح تكممها العبرات، يتخبط فى الدار بين منعطفات روحها، صقيع الحزن يقبض على معصم قلبه،
لأول مرة منذ عشرين عاماً يعود للبيت ولا تستقبله ابتسامتها، يردد كالمحموم بصوت مكتوم
(إنت فين يا بديعة؟).
توضأ ثم صلى العشاء، بكى فى سجوده ولم يره أحد يبكى من قبل، ارتجف حتى ظن البعض أنها آخر سجدة له، استفاق بعدها، أخبروه بكل شيء، خرج من الدار وحده عائداً من حيث أتى، لكن هذه المرة متجها ناحية الجنوب حيث مدينة دكرنس،مدينة نفايات وباء الكوليرا وقتها.
خرج وحده، رفض أن يصحبه أحد، تخنقه عبرات بللت ظهر الأرض، يتأبط ذكرياته معها، من يوم زواجهما، يلوم نفسه ويعنّفها على عدم ارضائها يوماً فى حياتهما، فلم يعرف الرضا سبيلاً لقلبه حتى اليوم، فهجرته السعادة.
9 كيلو متراً قطعها ماشياً، متجهاً ناحية مستشفى دكرنس، حيث ترقد زوجته بين الجثامين تمهيداً للحرق وسط حراسات مشددة وإجراءات صارمة، الحزن والمرارة جعلتا منه بالوناً منتفخاً وسط حقل من الشوك، وحول المستشفى نُصِبت المآتم عن بُعد.
تضج جنبات المستشفى برائحة الموت التي تزكم القلوب، الهواء مكتظ بالفخاخ، من يقترب يهلك، تسلل بسرعة، استحضر قوته حتى فسخ أسياخ الحديد من أحد جوانب سور المستشفى الخلفي، ونفذ من بينها نفاذ السكين فى الجُبن.
لم يستعصِ عليه باب إلا فتحه، إما بركله أو دفعة بالكتف، يبحث فى نور خافت بين الجثث عن زوجته “بديعة” ورائحة الموت تجثم على قواه، عرفها من نور وجهها، ضمها ضم الأم الثكلى حين تَلقى ولدها الوحيد بعد غياب، تشهق روحه فى لُجة القهر، ويبكي بكاء طفل فقد أمه، تغرق عبراته الحارة وجهها الملائكي حتى تعقرت عيناه، لفها بملاءة سرير وحملها وخرج بها من الباب الخلفي للمستشفى حتى لايواجهه أحدَا.
المكان ضبابي، مخنوق بالأدخنة، مُصفد بالحُراس، وكان لحكمدار الخدمة رأي آخر، نصب له كمين خارج سور المستشفى، أمره بتركها والابتعاد فوراً، دون أن يلقى عليها نظرة وداع، ونهره بعصا طويلة وقاسية فى أنحاء جسده، مستغلاً إنشغاله بالجثة، وحرصه على عدم سقوطها، تحمل قسوة الضرب، قضم أصابع الغيظ دون مقاومه، تنبح كلاب الحراسة دون توقف، فهو غريب لا يعرفه أحد ولا حتى يعرفون نوع الجثة التي يحملها، فشلت محاولاته السِلمية بالهرب، حاصره حراس ملثمون، ضيقوا عليه الخناق، ليتمكنوا من القبض عليه، اكتمل نصاب القهر فأنزل الجثة على الأرض، دفعهم دفع ثوار لسور متهالك فسقطوا جميعاً، خطف بشجاعة شومة من يد أحد الحراس، وانهال عليهم بشراسة لم يتركهم إلا كومة لحم ينفر الدم من انحائها، وأصبح وجهاً لوجه مع كبيرهم، الذي أفقده الوعي بقبضته الفولاذية، ترنح الحكمدار سقط على الأرض بجوار كومة الحراسة، شق من بينهم باباً للهرب. ومضى.
حملها تلك الغافية على كتف الحزن، غطس وسط حقول الذرة التي تستر بها حتى غاب عن مدينة دكرنس، ولم يتبعه أحد.
فى طريق موحش يتحرك موكب الجنازة الهيب، يحدثها حديث المُهذي من الحمى، رغم وجوب الصمت، كما لو كانت على قيد الحياة، تشاركه الحديث، حتى بدا النور قريباً على مشارف القرية، مع آذان الفجر، بدأت عودة الحياة للطريق.
ينفجر بركان الحزن صراخاً ونحيباً بين قوافل المشيعين من أهالى ميت حديد عند رؤيتهم له، وفى مقدمتهم إخوته، على قدر حزنهم شملهم الفخر بشهامته وشجاعته التي لن تنسى، وكأن تقويم الرجولة بدأ من هذا اليوم.
الذين رقوا لحاله جففوا دموعه وعرقه، ربتوا على كتفه، ثباته أنساهم الخوف من الكوليرا، رفض أن يساعده أحد فى حملها، كشف وجهها، لأمها وأهل البلد، خمد جمر النار المستعر فى قلوبهم، نثر الرماد فى عيون الأمس فتنفس الصبح، وكثرت الهمهمات التي تحي نخوته وشجاعته من رجال لا يعرفهم، يقولون بصوت خافت امتد رنينه تحت خيمة الصمت.
– الله عليك يا جنيد.
– سمعنا عن رجولتك منذ سنين مضت، واليوم نراها حقيقة.
ربت على كتفه، أخوه جدي العسقلاني، وضمه لصدره ضم الأب للابن العائد لرشده، وكذلك فعل أخوه الأصغر جدي خليل.
حضن الأخ للأخ يعيد إليه رشده، يزيل غيوم الحزن كمسحة على شعر يتيم، ويعيد للفصول المحتقنة ربيعها، ويفتح للعمر بوابات السعادة، وكلاهما أزالت أحضانهم درن الشقاء وطيش الشباب الذي علق به عمراً وفصلته عن الحياة.
غسلها وحده وكفنها وحده، وفى المسجد صلوا عليها الجنازه خلفه، ودفنها وحده.
بعد ذلك… بقليل، دفن القرش النحاسي، وعليه صورة الملك معتدلاً
—————
مجدي شعيشع
الكويت فى 2022/09/15