قراءة في حياة
القائد البابلي(نبوخذنصّر)..
ملك بابل ..
د.علي أحمد جديد
ولد الملك البابلي (نبوخذنصّر) سنة 630 ق.م. وتوفي سنة561 ق.م . وهو ثاني ملوك السلالة الكلدانية التي حكمت (بابل) ، وكان أشهر ملوكها وأعظمهم حيث كانت فترة حكمه منذ سنة 605 ق.م. وحتى سنة 561 ق.م. .
اشتهر (نبوخذنصّر) بقوته العسكرية ، وبروعة عاصمته الآشورية مدينة (بابل) ، وبدوره الهام في التاريخ الذي كان أساس نشأة الديانة اليهودية في فترة سبي بني إسرائيل وسوقهم إلى (بابل) .
الملك (نبوخذ نصر الثاني) هو أكبر أولاد مؤسس الامبراطورية الكلدانية (نبوبلانصّر) وخليفته ، حسب ماجاء في الكتابات المسمارية ، وفي “توراة العهد القديم” من الكتاب المقدس ، وفي مصادر التاريخ اليهودي . واسمه باللغة الأكدية (نابو كودورّي أوصُّر) ، الذي يعني ” نابو يحرس وريثي ” .
بدأ (نبوخذنصّر) حياته العسكرية شاباً سنة 610 ق.م. وقائداً عسكرياً وصاحب حنكة سياسية متميزة . وكان أول من ذكره هو والده (نبوبلانصّر) ، الذي أشار إلى مشاركته في أعمال ترميم معبد (مردوخ) ، الإله الرئيسي والوطني لامبراطورية (بابل) .
وفي سنة 607 / 606 ق.م ، شارك (نبوخذنصّر) والده في قيادة الجيش في “الجبالوليا” شمال (آشور) ، وتولى بعد ذلك قيادة العمليات العسكرية فيها بعد عودة (نبوبلانصّر) إلى عاصمته مدينة (بابل) . فكان القائد الأكبر في الجيش بدلاً من والده ، ويتمكن بقيادته الفذة من تحطيم جيش الفرعون المصري (نخاو) في “كركميش” وإحكام سيطرته على أغلب أراضي ومدن سورية الطبيعية . وفور وفاة والده عام 605 ق.م ، عاد (نبوخذنصّر) إلى (بابل) التي جعل منها عاصمة الامبراطورية الآشورية الكبرى ، ليتم تنصيبه على العرش خلال ثلاثة أسابيع . وبعد هذا التثبيت السريع لولايته ، اندفع للعودة إلى أرض كنعان السورية لتوطيد أساسات سيطرته القوية على الإمبراطورية كلها .
ونتيجة حملاته على أرض كنعان في سورية الكبرى ، قدمت الدويلات المحلية خضوعها للقائد الفذّ والامبراطور (نبوخذنصّر) و من بينها كانت دويلة “مملكة داود” الناشئة الجديدة بعد عودة بني إسرائيل من الاستعباد في مصر ، وذلك بعد أن تمكّن من اجتياح “عسقلان” واحتلالها . و خلال السنوات الثلاث التالية شنّ (نبوخذ نصّر) المزيد من الحملات لتوسيع السيطرة البابلية على الجنوب السوري من أرض كنعان “فلسطين” . و في آخر تلك الحملات سنة 601 / 600 ق.م كانت موقعة (نبوخذنصّر) الكبيرة “كركميش” ضد الجيش المصري ، و كانت خسائر الجانبين كبيرة ، والتي كان من نتائج هذه المعركة ارتداد دويلات معينة عن التبعية له ، من بينها “مملكة داود” . كما أدت إلى انقطاع في سلسلة الحملات السنوية خلال سنة 599 / 600 ق.م. حيث بقي (نبوخذنصّر) في “بابل” لتعويض خسائره في العربات .
وعاد ملك “آشور” وامبراطورها البابلي (نبوخذنصّر) إلى استئناف العمليات العسكرية واستعادة السيطرة في نهاية سنة 598 / 599ق.م. ، وقد تجلّت مقدرته على التخطيط الاستراتيجي بهجومه على القبائل العربية في جنوب أرض كنعان السورية التي في شمال غرب شبه الجزيرة العربية ، تمهيدا للانتقام باحتلال “مملكة داود” واحتل مدينة القدس عام 597 ق.م. ، وقام بسبي الملك (يهوياكين) إلى مدينة (بابل). و بعد حملة أخرى قصيرة على سورية في 595 / 596 ق.م. ، كان على (نبوخذنصّر) العمل في شرق بلاد بابل لصد غزو (عيلام) – الواقعة حاليا جنوب غرب إيران – حيث يمكن الاستدلال على شدة الضغوط التي تعرضت لها (بابل) إثر حدوث التمرد في أواخر 593 / 595 ق.م. الذي تورطت فيه عناصر من الجيش الآشوري وأغلبهم من المرتزقة الإغريق ، و تمكن (نبوخذنصر) من القضاء على التمرد بقوة والقيام بحملتين أخريين على أرض كنعان السورية خلال سنة 593 ق.م .
وهناك الكثير من النشاطات العسكرية التي قام بها (نبوخذنصر) لم تذكرها الحوليات التاريخية والتي أشارت إليها مصادر أخرى ، و خصوصا ماجاء في “توراة العهد القديم من الكتاب المقدس” الذي يذكر الهجوم على (القدس) و حصار مدينة (صور) الذي استمر مدة 13سنة ، كما أورد أقدم المؤرخين اليهود (فلافيوس يوسفيوس) إضافة إلى غزو مصر . حيث انتهى حصار القدس باحتلالها في سنة 586 / 587 ق.م. وتمّ سَبْي أهم مواطنيها المؤثرين في ذلك العام ، ليعود إليها مرة أخرى ويقوم بسبي آخر لمل بني إسرائيل في سنة 582 ق.م. .وقد اتبع (نبوخذنصر) أساليب أسلافه الآشوريين في الحصار والاحتلال والسبي . كما اتبع ، سياسة التوسع ، تِبعاً لتقاليد الإمبراطورية الآشورية ، مدعيا أنه مخوَّل من الملكوت العالمي للآلهة البابلية (مردوخ) ، و مصلّياً
“أن لا يكون له معارض من أفق الأرض حتى السماء” .
وجاء في بعض الرُقـُم المسمارية أن (نبوخذنصّر) قام في سنة 567 / 568 ق.م. بغزو مصر ، تِبعاً لِما يتمثل في سياسته التوسعية .
إضافة إلى كونه مخطِّطا تكتيكياً بارعا ويصل إلى تحقيق أهدافه الاستراتيجية بسهولة وبفترات زمنية قصيرة جداً .
اشتهر (نبوخذنصر) في نجاحه بممارسة السياسة الدولية ، ويتبين ذلك من إرساله السفير (نبونائيد) للتوسط بين “الميديين” وبين “الليديين” في آسيا الصغرى .
وتوفي بعدها في سنة 561 ق.م. ليخلفه ابنه (أويل – مردوخ) .
وبعيداً عن كونه قائداً عسكرياً ، أعاد (نبوخذنصر) إعمار عاصمة امبراطوريته مدينة (بابل) . فأتمَّ توسيع التحصينات التي كان والده قد بدأ بإنشائها ، وبنى خندقاً كبيراً حولها وأقام سوراً دفاعياً خارجياً لزيادة حمايتها ، وأمر برصف وتعبيد شارع الموكب المخصص للاحتفالات بالأحجار ، وأعاد بناء وتزيين المعابد الرئيسية ، وحفر القنوات . كما كان حرصه الشديد على تعليم الناس كيفية تقديس الآلهة الكبرى “مردوخ” ، مبديا ًاحتقاره لأسلافه الذين بنوا لأنفسهم قصوراً بعيدة عن مدينة (بابل) وخارجها ، ولم يزر تلك الأماكن إلا في أعياد رأس السنة .
تزوج (نبوخذنصّر) من أميرة ميدية ، دفعه حنينها إلى موطنها الأصلي أن يبني لها جنائن تشبه التلال . ولكن لم يتم تحديد مواضع تلك الجنائن المعلقة لا في النصوص المسمارية ولا في البقايا الآثرية التي تم اكتشافها .
وعلى الرغم من الدور الفاجع الذي تركه (نبوخذنصّر) في تاريخ مملكة (داود) ، إلا أن روايات التاريخ اليهودي تنظر إليه نظرة إطرائية في الغالب حين تشير إلى أنه أمر بحماية (إرميا) ، الذي اعتبرته اليهود أداة الرب لمعاقبة العصاة ، وعبَّر النبي (حزقيال) عن تأييده له بالهجوم على مدينة “صور” . وفي الفصل الأول من “سفر عزرا” المُضاف في (توراة العهد القديم) تمّ اعتبار (نبوخذنصر) أداة الرب “يَهْوَهْ” في الانتقام من الخاطئين ، وفي “سفر مراثي إرميا” كانت الإشارة إلى (نبوخذنصّر) بأنه الحامي الذي تجب الصلاة لأجله. وكذلك في “سفر دانيال” في قصة بال والتنين (الأبوكريفا) يظهر (نبوخذنصّر) رجلاً يعمل على انتصار الحق والدفاع عن الرب “ولكن المستشارين السيئين يضللونه” !!..
وفي “سفر دانيال” رواية تتحدث عن إصابة (نبوخذنصّر) بالجنون لمدة سبع سنوات ، وهي من تفسير مبني على فهم خاطئ للنصوص المتعلّقة بما حدث في أيام (نبونائيد) ، الذي أبدى انحرافاً واضحاً بهجرته من مدينة (بابل) لأكثر من عشر سنوات من الزمن قضاها في بلاد العرب (شبه الجزيرة العربية) .
أما اليوم فإن النظرة التلمودية إلى (نبوخذنصر) ألهمت منابع الفنّ لدى الكثيرين من الفنانين ، فتراه فاتحاً ملحداً من خلال المقارنات بينه وبين (نابليون بونابرت) ، وعلى إثر ذلك كانت حياة (نبوخذنصّر) هي الأساس الذي قامت عليه أوبرا ” نابوكو ” التي وضعها (جوزيبي فيردي) ، وأن جنونه المفترض في “توراة العهد القديم” هو الفكرة الأساسية في لوحة (نبوخذنصر) التي رسمها الفنان اليهودي (وليام بلايك) .
وقد ورد في أسفار العهد القديم ( 1 : 11 – 17 ) :
“وصَلُّوا من أجل حياة نبوخذنصر ملك بابل وحياة بلشنصَّر ابنه لكي تكون أيامهما كأيام السماء على الأرض . فيؤتينا الربُّ قوة وينير عيوننا و نحيا تحت ظل نبوخذنصر ملك بابل و ظل بلشنصّر ابنه و نتعبد لهما أياماً كثيرة و نحن نائلون لديهما حظوة . و صَلّوا من أجلنا إلى الربّ إلهنا فإنـَّا قد خطئنا إلى الربّ إلهنا و لم يرتدَّ سخط الربّ و غضبه عنا إلى هذا اليوم وقولوا : للرب إلهنا العدل و لنا خزي الوجوه كما في هذا اليوم كرجال يهوذا وسكان أورشليم و لملوكنا ورؤسائنا وكهنتنا وأنبيائنا وآبائنا . لأنا خَطِئنا أمام الربّ و عصيناه “.
والمعروف أن ابنه ووريثه هو (شلمنصّر) الذي يشيرون إليه في أسفار “العهد القديم” باسم (بلشنصّر) .
وهنا لابد من من الإشارة بأن الله عزَّ و جَل وعد بني اسرائيل في سورة الإسراء من القرآن الكريم بوعديّ الأولى ، والآخرة . ومن الناحية التاريخية فإن اسم (نبوخذنصّر) تردّد على الأسماع كثيراً تم فيها إنسابه (وليس نسبه) إلى الفرس ، إلا أن بحث المؤرخين الصادق أثبت أنه من أصل عربي ومن سلالة (سام ابن نوح) وقد اتخذ من مدينة (بابل) عاصمة له بعد أبيه . وهو ما أثبتته المصادر العديدة ، القديمة منها والحديثة ، بعد مناقشات ، وأدلة تدحض إدّعاءات البعض بأن نسب (نبوخذ نصر) يرجع إلى (حام ابن نوح) الذي هو أبو الفرس الأكبر .
وأهم النتائج التي نتجت عن ذلك هي:
1). أن نبوخذ نصر هو ساميّ الجذور من أصل كلداني وليس فارسياً .
2). أن نبوخذ نصر كان قداعتنق ديانة التوحيد متأثراً بأنبياء بني إسرائيل قبل غدرهم به وانقلابه عليهم .
3). أن نبوخذ نصر لم يكن يعامل بني إسرائيل في فترة سبيهم بشكل سيء بل وفر لهم العيش الكريم رغم غدرهم المتواصل وهو مادفعه ليضعهم تحت المراقبة المستمرة .
وإن أهم مافي هذ الموضوع هو ماورد في دراسات المقارنة حول ذِكر الملك (نبوخذنصر) في الديانات السماوية الثلاث ، لأن ذلك يكشف عن أصل (نبوخذ نصر) وعن كيفية حكمه ، وعن أسباب سبي بني إسرائيل . وكذلك عن تأثير (نبوخذ نصر) باليهود أنفسهم ، وفيما إذا كان لليهود أي تأثير عليه ، أو إذا كان هو صاحب وَعدَيّ سورة الإسراء في القرآن الكريم (وعد الأولى والآخرة) حسب مايذكره بعض المفسرين بطريقة علمية وحيادية باستخدام المنهج المقارن بين الديانات السماوية الثلاث ، وكذلك المنهج التاريخي الذي اعتمد الأخذ مما أشارت إليه الكتب السماوية الثلاث تلميحاً أو تصريحاً والتي هي (التوراة والإنجيل والقرآن) ، وكذلك كتب الحديث واسناداتها ، وكتب المفسرين .. وانتهاء بكتب التاريخ ومنها بعض الكتب والدراسات الحديثة التي تناولت هذا الموضوع .
خاصة وأنه بعد إخفاء (التوراة والإنجيل) الحقيقيَيْن عمد كتبة التوراة اليهود ، وليس الموسويين من بني إسرائيل إلى إظهار شيءٍ من حقدهم عليه بإدّعائهم إصابته بالجنون لسبع سنوات بعد اعتناقه اليهودية – كما يدّعون – في “سِفر دانيال” المضاف إلى الأسفار الأصلية الخمسة في ( التوراة) التي جاء بها النبي (موسى) عليه السلام في لَوحَيّ جوهر العهد .