أندريه مالرو Andrè Malaux A
في “سقوط السنديان”..
د.علي أحمد جديد
“أنا شخصية العجوز والبحر لهيمنغواي ، لم أظفر إلّا بهيكل عظميّ !!” .
هذا ما قاله رَئيسٌ لم يكن كغيره من الرجال العابرين في الحياة عبور أشباحٍ لا يخلّفون وراءهم أي أثر ، وهو قولٌ صادرٌ عن شخصية يمكن وضعها في مصافِ الذين صنعوا التاريخ . ماقاله الجنرال (شارل ديغول) الذي حفر لفرنسا ، خلال الحرب العالمية الثانية ، مساراً أخرجها من عار الهزيمة والاحتلال النازي ، وأشركها في انتصار المقاومة والتحرير . وماقاله عَسكريٌّ عَرفَ كيف يصوغُ معادلةَ الانتقال من بِزّة الثكنات ، إلى أناقة رئيس مدنيّ منتخَب طوال عقدٍ من السنوات (1959- 1969) ، وهو مَن رسمَ لفرنسا خطهّا المستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية داخل أوروبا . لكنه ، ورغم ذلك المجد كلّه ، يُفضي بهذه الجملة المريرة أيام انسحابه نزولاً عند قرار الشعب الفرنسي بإنهاء دور “البطل” الذي استجاب خاضعاً لنتيجة الاستفتاء الشعبي على رئاسته .
لم يكن الجنرال (شارل ديغول) يأمَل بمكافأة على إخلاصه في تحرير فرنسا وإعادة إعمارها ، وانسحب بكل إرادته واختياره إثر انتفاضة الطلّاب والعمّال المرسومة في أيار/مايو 1968 لأنه لم يقف مع الآخرين في صفِّ المعتدي (ال.صه.يو.ني) في نكسة حزيران/يونيو 1967 ، وارتضى لنفسه الانسحاب بهدوء الراسخين فوق قمةٍ نحتها بيديه هو .
في كتاب “سقوط السنديان” حوار متصل بين (الجنرال شارل ديغول) في شهور حياته الأخيرة ، وبين الروائي الفيلسوف (أندريه مالرو) ، الذي قال جملته الشهيرة عن الرئيس (جمال عبد الناصر) :
“لقد ولد يوم 15 كانون الثاني/يناير 1918 ولكنه سيعيش إلى الأبد” .
والذي قال نبوءته في ستينات القرن الماضي عن العالم كله :
” إن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الأديان أو لا يكون ” ، ولم يكن يومها يضع في اعتباره أن القرن الحالي سيشهد تحولات دراماتيكية يشكل (الدين) أساس مكوِّناتها وسنداتها الكبرى . والمؤكد أن (أندريه مالرو) ، الذي تولى العديد من المسؤوليات في مستوى جهاز الدولة الفرنسية ، خاصة ، في قطاع الثقافة ، كان يقصد ماستشهده أوروبا أيضاً ، وليس فقط الوطن العربي وأفريقيا وحسب .
وجاء كتابه “سقوط السنديان” وكأنه مونولوجٌ يخترق الديالوج الذي لا مثيل له في أي كتاب سواه . فليس فيه أسئلة تُطرح ولا تمتلئ بإجاباتها (من كِلا الرجلين) ، ولا إجابات تخلو من إسقاطات تتلبس المساءلة على أحداث التاريخ !!.. وهو حوارٌ فريدٌ بين رَجُل ثقافةٍ وفكر من أبرز مفكري القرن العشرين ، الذي رحل بكل رجالاته ، وبين رَجُلٍ تاريخيّ عجوز تداعت ظلال عمره في تلميحاتٍ وتعليقاتٍ واستعاداتٍ لا يتمكن منها سوى الذين يجيدون الغوص في أعماق الثقافة والتاريخ ، إذ يعكس الكتاب ثقافةً هادئةً تحاور ثقافةً أكثر هدوءاً لتعطي المتعة السلسة في المعرفة والرهافة واليقين .
لم ينل كتاب “سقوط السنديان” وقت صدوره ماكان يستحقه من الدراسة والتكريم ، وحتى شيء من الاحترام لولوج شَجَن الماضي المُستَعاد على وَقْع تحاور رجلين ليس بمقدور أي مستقبل بعدَهما استعادة تماثل الشخصيتين المتحاورتين . وهو مابرع بترجمته للعربية (د. سامي الجندي) منذ أكثر من أربعة عقود من السنوات التي مرَّت دون أن يذكر أحدٌ كتاباً يحمل هذا الاسم !! وربما لقصورٍ – مُتعمَّدٍ – من ناشره أيضاً
“المؤسسة العربية للدراسات والنشر”
تفادياً لحسابات وتفسيرات سياسية في الإقليم بذلك الوقت !!
وهنا ، مجرد مرور سريعٍ وعابرٍ على مايحتويه الكتاب بكل مافيه من التميّز في موضوعه الفريد ، وخصوصية “كاتبَيْه” – كلُّ في مجاله – ، ومن الفِطنة في التقاطات الذكاء العابرة ، ليتمثَّل بعد ذلك لدى القارئ التساؤل التالي بكل مشرعيةٍ وإلحاح :
(لماذا لا يتحلّى الرؤساء ، و”الزعماء التاريخيون” لأمجاد أوطاننا المغسولة بالدم والآيلة للتفتت ، بقليلٍ من ثقافة الجنرال”ديغول” العجوز ، ومن اطلاعه الواسع والعميق المتأمل – المُسائل للتاريخ ، والمتسائل عنه – ، ولماذا لا يحاولون فهم التاريخ ومعانيه ، ولاينسحبون من المسرح بهدوء الراسخين حقاً فوق قممهم المنحوتة بأعمال أيديهم ؟!) .
وهنا ، وبالتأكيد أنني لا أكتب في السياسة ، غير أنّ السياسة المخاتِلَة في كل صفحة في الكتاب المُثقِّف “سقوط السنديان” تسحب القارئ نحوها بإصرار المتشبث ، فيشير إليها بكل انضباط وهو يتنقل بين السطور في سياقات التجوال الفسيح لاقتباسات واندياحات ذاكرتين مُشبَعتين بأحداثٍ باتت مسطورةً في سجلّات تاريخٍ لن يغفلهما وهما المُتوَّجان في أوراقه المضيئة بإبهارٍ وامتيازٍ ، حتى يقول القارئ للكتاب موقناً وبكل إيمانه الراسخ :
قد يسقط “السنديان” ، لكنه يبقى سندياناً شاهداً على هشاشة سواه من أعشابٍ لا تماثل شموخه أبداً .
وهو الفيلسوف الروائي الذي عاصر مدارس الفن والأدب من ” التكعيبية ، والدادائية ، والسريالية ، والوجودية ” ، واحتسَبَ مؤسسيها في عداد أترابه دون أن يعتنق أياً منها ، ليعتمد أسلوباً خاصاً ونمطاً فريداً في الكتابة ، فكانت ريشته الرشيقة “تثب وثباً” كما وصفها (أندريه جيد) وتبتُر كحدِّ السيف في الجمل والعبارات ، فتأبى التمهل وترفض الاستطالة للِّحاق بأفكار متدفقة تفتح أبواب التاريخ والميثولوجيا ، وهي تُسائل الديانات بنصوصها وبفنونها عن الموت وعن المصير أوالعدم . والتي كانت هواجساً لم تبرحه يوماً ، ليخلص منها إلى حقيقةِ أنه على الإنسان أن يصنع مصيره بنفسه انطلاقاً من مقولة الأديب الألماني (فريدريك نيتشه) في كتابه “هذا هو الإنسان” الذي قال فيه “إن الربَّ قد مات” ، والتي أضاف إليها (مالرو) صاحب “تحول الآلهة” :
“وما من شيء يعيده إلى الحياة في قلوب يائسة” . مالرو