أسطورة “حدائق بابل المعلّقة” ..
د.علي أحمد جديد
في الحديث عن (حدائق بابل المعلّقة) يكون القصد هو الحدائق الأسطورية التي كانت تزيّن عاصمة الإمبراطورية البابلية القديمة ، والتي بناها أعظم ملوكها (نبوخذنصّر الثاني) 562 – 605ق.م ، وهي إحدى عجائب الدنيا السبع في العالَم القديم التي يختلفُ المؤرخون بشأن حقيقة وجودها ، فيدّعي بعض الباحثين إنها كانت في (نينوى) عاصمة الإمبراطورية الآشورية ، ويتمسّك مؤرخون آخرون بأنها كانت في (بابل نبوخذنصر) . وحتى اليوم لم تكشف التنقيبات الأثرية في (بابل) عن حقيقة وجود الحدائق الأسطورية المعلّقة !! وهناك مؤرِّخون يؤكدون أنها كانت فعلاً في عاصمة (نبوخذنصّر الثاني) في العصر الهلنستي . إن طبيعة الجنائن المذهلة مقارنةً بالعجائب الأُخرى الاعتيادية التي وضعها الإغريق القدامى على قائمتهم ، والغموض الذي يحيط بموقعها وعدم التوصل القاطع إلى طريقةِ اختفائها ، جعَلَ من “حدائق بابل” المعلّقة العجيبة الأكثر بروزاً وأهمية تاريخية بين جميعِ العجائب السبع .
وللاستدلال فإن مدينة (بابل) تقع إلى الجنوب من العاصمة العراقية اليوم (بغداد) ، ويرجعُ تاريخ إنشاء “بابل” نفسها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد ، إلا أن عهد بروز أهميتها و ازدهارها العظيم كان في فترة حُكم أعظم ملوكها :
(نبوخذنصّر الثاني) 562/605 ق.م. . كانت الإمبراطورية البابلية قد تأسست في فترة حكم (نبوبلانصّر) بعد انتصاراته على الإمبراطورية الآشورية بقيادة ابنه الشاب حينها (نبوخذنصّر) الذي حقق أعظم انتصارات الإمبراطورية البابلية ، والتي كان منها احتلال سورية الطبيعية واجتياح مدينة (القدس) وسَبي أهلها – بني إسرائيل – سنة 597 ق.م. ، ليجعل بعدها من عاصمته (بابل) أروع مدن العالم في عصره ، إذ قام ببناء بوابة الآلهة “عشتار” بأبراجها الأسطورية سنة 575 ق.م ، وأُحاطَ عاصمته بسورٍ مزدوج من القرميد البابلي بطول 7.20 كيلومتراً . وكان المؤرخ (بيروسيوس الكوسي) أول مَن ذَكر “حدائق بابل المعلّقة” سنة 290 ق.م. . ويكاد يتّفقُ معظم الباحثين على أن إنشاء الحدائق كان لغرضِ توفير المُتعة للسيدة (اميتيس) زوجة (نبوخذنصّر) ، وظهرت أولاً في الوثائق التاريخية لسورية الطبيعية “الهلال الخصيب” حيث ذُكرَت في المُدوَّنات التاريخية المكتشَفَة بإسم (الفردوس) . وانتشر صيتها مِن “سورية – الهلال الخصيب” إلى كل أرجاء مدن البحر الأبيض المتوسط القديم حتى أن بعض الأفراد ، في العصر الهلنستي ، بدأوا بإقامة حدائقهم الخاصة على نمط هندسة الحدءائق المعلّقة وجعلوا في منازلهم حدائق عامرة بالزهور وبالمعالِم المعمارية والنحتيّة ، وتفننوا بأشكال الشلالات المائية ، حتى أضحت الحدائقُ مَعلَماً مميِّزاً في جمالية المباني ، وصارت كل الأماكن البهيجة في حوض المتوسط تُدينُ بألق وجودها وجماليته لحدائق بابل المعلّقة المبهِرة .
وقد أُشارَ بعض المؤرخين إلى ربط حدائق بابل المعلّقة بأنها حدائق الملكة (سمير اميس) المعلّقة ، نسبةً إلى الحاكِمة الآشورية الأسطورية والمقدَّسة ، حيث ذكر المؤرخون الإغريق بأنها قد أعادت بناء (بابل) وتجميلها في القرن التاسع ق.م. ، كما جاء المؤرخُ الإغريقي (هيرودوت) في القرن الخامس ق.م. على وصفِ الأسوار ونظامَ الريّ البابليّ البديع دون أن يذكُرَ الحدائق البابلية المُعلّقة ، كما أنه لم يأتِ على ذكر (أبو الهول) أيضاً حين أتى على وصف أهرامات الجيزة !!.
وانفردت كتابات (بيروسيوس الكوسي) المؤرخ والكاهن البابلي الذي انتقل إلى جزيرة كوس الإغريقية ، لتكون كتاباته أقدم مصدرٍ يُشيرُ إلى حدائق بابل المعلّقة سنة 290 ق.م ، وقد دعم علم الآثار الكثير من كتاباته التي يصفُ فيها حدائق بابل بأنها عبارة عن مدرّجات حجريّة عالية ، زُرِعَت بالأشجار وبكل أنواع الورود والزهور وقد خلقت هذه المدرّجات تأثيراً جماليّاً بنباتاتِها المُتدلّية لتجعل عمليّة السقي سهلة وبسيطة . وحين يشرحُ (بيروسيوس) الغرضَ من هذه الحدائق فإنه يقولُ بأنها أُنشِأت كي لا تشعُر (أميتيس) الميديّة زوجة الملك البابلي بحنينٍ جارفٍ لوطنِها ذي التلال المتميزة بخضرتها وبزهورها . بينما يُعلِّقُ المؤرّخ (ديودور الصقلي) بقولِه أن مدرّجات الحدائق البابلية كانت تميلُ إلى الأعلى كمسرحٍ قديم ، وتصلُ لارتفاع 20 متراً . ووصفَت مصادرُ أخرى الحدائق المعلّقة وكأن وجودها دام على مدى أعوام القرن الرابع ق.م كلها .
لم تكن حدائق بابل هي الأولى في ممالك العراق القديم ، بل سبقتها حدائق أُخرى معروفة ، ولبعضها رسومٌ تمثّلها كاللوحة البارزة من قصر آشور بانيبال (668-631 ق.م) الشمالي في “نينوى” والموجودة حاليّاً في المتحف البريطاني بلندن . وقد اقترح بعضُ الباحثين – بالفعل – أن حدائق بابل المعلّقة كانت في “نينوى” وأن (سنحاريب)681-705 ق.م هو مَن بناها ، وأنه هُناك أدلّة نصّيّة وافِرة تدل على وجود الحدائق في “نينوى” واعتبار أنها كانت “بابل القديمة” . وفي كل الأحوال والفرضيات التي تذهب إلى التأكيد على فرضية “نينوى” فإنَّ ذلك لا يمنعُ حقيقة وجود الحدائق في (بابل) ، لأنه كانت هناك حدائق أيضاً بعد التاريخ المُفترَض لحدائق بابل المعلّقة ، مثل الحدائق التي بناها الملك الفارسي (قورش الكبير) سنة 530 ق.م في (باسارغاد) على جبال زاغاروس . وكان لكل الحدائق من هذا النوع مدرّجات تُساعد على السقي وجدران عاليةُ توفِّرُ الظِلال وتتكدّس فيها الأشجارُ لتحفظ الرطوبة الضروريّة بشكلٍ أفضل ، ولتصمد في مقاومة الرياح . وتقعُ جميع هذه الحدائق قُرب مصدرٍ ماء وافرٍ . وارتبط ذِكرُ الحدائق تاريخياً بالقصور ، وفي كل الثقافات القديمة بصورة عامة ، مِن الصين القديمة وحتى أمريكا الوسطى ، وقد قادَت هذه الحقيقة بعضَ الباحثين إلى التوقّع بأن تكون حدائق بابل في أحد قصور الملك (نبوخذنصّر) في العاصمة (بابل) أو قريبةً منه على ضفاف نهر الفُرات العظيم .
ورغم أن بعض الباحثين ينكر وجود حدائق بابل من أصلها ويعتبرها أسطورة من الأساطير الخيالية ، إلا أن ذكرها في كتابات المؤرخين القدامى (بيروسيوس ، و هيرودوت ، و كاليماخوس القوريني ، و أنتيباتير الصيدوني ، وفيلو البيزنطي) يؤكد حقيقة وجودها ، وسُجِّلت حدائق بابل المعلّقة مترافقة مع أسوار بابل التي بلغ طولها 7.20 كليومتراً والتي زاد سمكها – في بعض المواقع – عن 10 أمتار وارتفاعها وصل إلى 20 متراً .
حافظت (بابل) على أهميتها وعلى مركزها المتميز بعد (نبوخذنصّر) ، وكانت جزءاً من الامبراطوريتين الإخمينية 330-550 ق.م. ومن بعدها الإمبراطورية السلوقية 63 – 312 ق.م. واتخذ حُكّامهما من قصورِ (نبوخذنصّر) في (بابل) مساكِنَ لهم ، كما حافظت المدينة على مكانتها الإقليمية الاستراتيجية في عهود البارثيين ، والفرس الساسانيين ، ولايمكن استبعادُ بقاء الحدائق المعلّقة طوال قرون بعد إنشائها .
وتاريخياً فقد بدأت التنقيبات الأثرية المنظّمة في بابل سنة 1899م ، وعُثِر فيها على أطلالٍ أثريةٍ كثيرة كان منها “السور المزدوج ، وبوابة الآلهة عشتار” ، إلا أنه لم يتم العثور على شيء يدل إلى الحدائق الأسطورية المعلّقة ولو بالإشارة . كما كشفت سلسلةٌ من الحفريات عن جزءٍ من قصرٍ ملكيّ آخر قُرب النهر ، ومصارفَ للمياه وأسواراً وحوضَ ماءٍ ، وكلّها كانت معالم ضرورية لسقي الحدائق ، إلا أنه لم يُعثر على ايٍّ من الأدلة القوية والمباشرة عن وجود الحدائق الأسطوريّة المفقودة .
ورغم غياب الأدلة الماديّة والنصيّة المعاصرة ، يبدو من الصعب إثبات عدم وجود الحدائق المعلّقة إطلاقاً في حين أخذت أسطورتها هذا المدى الواسع في وجدان الكتّاب والمؤرخين القدامى الذين حجزوا لها مكانها اللائق في قائمة عجائب الدنيا . وإن رفض الفكرة الأنيقة التي تفترض وجود الحدائق في “نينوى” إلا أن ما كُتِب عن قوائم عجائب الدنيا الأصلية بأقلام الإغريق القدامى يثبت وجودها من خلال التساؤل عن سببِ ما يُبهرُ مؤرّخاً إغريقياً ينعم برؤية سفوح تلال بلاده المتدرّجة والجافة المزروعة بأشجار الزيتون وغيرها ، سوى حديقة حافلةٍ بالعجائب تُسقى بإبداع في مناخ العراق شديد الحرارة ؟!.. وربما كانت هناك حديقة عادية في “بابل” وقد بولِغَ في وصف حجمها لتكون أسطورية و عملاقة ، كما هو وصف (قصر كنوسوس) في جزيرة كريت الذي جعلوا منه متاهةً أسطورية من خلتل كتابات المؤرخين الإغريق . وربما ستكشف التنقيبات المستقبلية عما يحتويه رحم العصور الغابرة . ومهما يكن الأمر ، فإنَّ عظمة حدائق بابل المعلّقة تبقى الحافز الأكبر في وضعها بين عجائب الدنيا السبع في المقام الأول ، رغم أنها لم تقع عليها أنظار معظم من كتبوا عنها ، إلا أنها مازالت تُحفّزُ مشاعر الدهشة والنقاش بكل انبهار .
وحتى اليوم لا شيء يدل إلى ما حدث للحدائق الأسطورية المعلقة في “بابل” والتي كانت مكاناً مميزاً لاستجمام الحكام وطبقة النخبة العليا في المجتمع وللتمتع بظلالها وبرودة هوائها . ويغلب على الظن أنها احتوت البساتين المليئة بأشجارها المثمرة من كل صنفٍ ومن كل لون .