فلسفة الإتفاق والاختلاف بين السلبية والإيجابية
بقلم: فرقد الأغا
الخلاف هو مصطلح يشير إلى التناقض أو الاختلاف في وجهة النظر أو رأي بين شخص أو عدة أشخاص والذي قد يؤدي إلى الاحتكاك أو التصادم بين طرفين اجتماعيين أو أكثر وهذه الأطراف يمكن أن تكون عبارة عن أفراد أو مجموعات أو دول ، فالخلاف و الاختلاف في اللغة: ضد الاتفاق، و هو أعم من الضد، لأن كل ضدين مختلفان و ليس كل مختلفين هما ضدان، بمعنى إن الخلاف أعم من الضدية لأنه يحمل معنى الضدية، ومعنى المغايرة مع عدم الضدية ،إذاً فمعنى الخلاف والاختلاف هو المضادة و المعارضة وعدم المماثلة.
اما الاختلاف والمخالفة في الاصطلاح فهو أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع، استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: ﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ .
اما لفظ اِتِّفَاقٌ فهي (مصدر: اِتَّفَقَ) أي حَصَلَ اِتِّفَاقٌ بَيْنَهُمَا تَعَاقَدَ فِي أَمْرٍ مَّا، مَا بَيْنَ فَرِيقَيْنِ أوْ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ، وقد أستعمل الفقهاء لفظ (الاتّفاق) بما له من معنى لغوي في إطلاقات متعدّدة ، منها الاتّفاق بمعنى المصادفة ، ومنها الاتّحاد و التماثل ومنها الاتّفاق بمعنى التراضي و التوافق أو الالتزام بمضمون معاملي وهو اتّفاق المتعاقدين وقد ميّزت بعض المدارس الفقهية الوضعية التقليدية بين ( الاتّفاق وبين العقد ) و أعتبرت العقد أخصّ من الاتّفاق، منها اتّفاق الفقهاء خاصّة على حكم وهو مرادف للاجماع بمعناه الاصطلاحي، حيث وقع هذا الاستعمال كثيراً في كلمات الفقهاء وهذا هو المعنى الظاهر من لفظ الاتّفاق .
ومما تقدم يمكننا القول إن الاختلاف سنة قهرية وإن الانسان قد جُبل عليه وبات سجيته وعلى هذا الاساس لا يحسُن مصادرة حق الاختلاف بين الناس و لا يمكن لنا أن نصيغ عقول الناس ضمن قوالب قد اعددناها سلفاً بل علينا أن نتفهم الاسباب التي تدعو للاختلاف الذي يوصل للصراع الدموي ، بيد إن عامل الاختلاف يدفع المجتمع نحو مزيد من التقدم و الإبداع و أما الاتفاق قد يكون سلبياً في بعض الأحوال حيث المجتمع المتفق دائما يشوبه الركود و عدم التطور ، وأن الإبداع وليد الاختلاف ولا نقصد من هذا الاختلاف الذي يؤدي للصراع المسلح وسفك الدماء وزهق الأرواح بل نعني الاختلاف الفكري الذي من شأنه ان يرتقي بالمجتمع الذي يعيش هذه الحالة فينعكس إيجاباً على البشرية بشكل عام و هذا الحديث ليس دعوى لتأصيل الخلاف أو خلق فوضى باسم الاختلاف؛ بل نقول ليس كل اختلاف مذموم، وإن وجد اختلاف فكري عقلاني مبني على أسس علمية مع مراعاة عنصر الإنسانية والنظام الاجتماعي و استقراره دون ان يتهدده فنحن مع هذا الاختلاف الإيجابي المثمر وما أقصده من معنى الاختلاف هنا هو ( التنازع الفكري الإيجابي الذي يقود للتعاون للارتقاء بالمجتمع الإنساني ) لذا لابد من أن نكون على قدر عالٍ من الوعي لفهم هذين المفهومين وكيف نؤلف بينهما ، بحيث يقودنا تنازعنا الفكري في نهاية المطاف الى تظافر جهود وتعاون لتحقيق ما يخدم الإنسانية و أن لا يتحول التنازع لصراع مقيت ومكيدة و السعي للإطاحة بالآخر بل تقويمه و التعاون معه من أجل خدمة شعب ما أو أمة ما أو الإنسانية جمعاء .
والملاحظ أن الفرد العربي المسلم بشكل أخص فقد حركته ( الفكرية الإيجابية ) فبالتالي فقد تطوره ، وسر الحضارة يكمن في الحركة الدؤوبة لأبناءها ، فنكتشف إن من أسباب إنهيار الحضارة الإسلامية و ضعفها وتشتت أبنائها وانسياقهم ك عبيد لحضارات وقوى أخرى هو فقدانهم الأهداف والمثل التي لابد من تحقيقها ، فحين فقدت الأمة إرادتها وحركتها الفكرية سُلبت هويتها ومسخت حتى أضحت وأمست ضائعة في زحام صراع الحضارات. ومن المساوئ أننا لم نستفِد من أخطائنا وتجاربنا الفاشلة التي أدت الى غياب دورنا الريادي ك أمة قائدة لا مقودة، وأن نعالج تلك الأخطاء ونقوم مسيرتنا . ومن هذا المنطلق علينا إستيعاب إن الإختلاف العقائدي أو الفكري الحاصل بين فرق الاسلام ومذاهبه ماهو إلا نعمة كبيرة حيث ندعو كل فريق لمناقشة أفكار الطرف الآخر والبحث بعقلانية في عيوبه ، فالمنهج و الرسالة الإسلامية شأنها كسائر الرسالات السماوية تعرضت للتحريف و تزوير الحقائق من خلال الدس والوضع في بطون كتب التأريخ الإسلامي لكلا الفريقين؛ ومن الطبيعي أن الفرد لا يكون ناظراً لعيوب ما يعتنقه ولا يقتصر على ان يرى محاسن خصمه بل يتجاهلها لذلك يسعى جاهداً من أجل كشف عيوب ونواقص الآخر غافلا عن نواقصه وعيوبه وإن كانت هذه القضية بحد ذاتها ظاهرة سلبية بلحاظ أن يكرس الفرد كل طاقاته لكشف عيب خصمه ويغفل عن عيوبه ويرى كل أفكاره منطقية ومقدسة و يبرر لها ويفلسف الحقائق على ضوء ما يتناسب مع موروثه الفكري حيث يعتقد أنها مبادئ وأسس متكاملة ولا يحتمل انها موروث يشوبه الكثير من الاشكاليات ؛ يضاف لذلك انكشاف نقاط الضعف والنقص وبيان العيوب عند خصمه تجعله أكثر أنفة و غروراً ؛ ولكن رغم سلبية المسألة إلا أنها تعود بفائدة عظمى للأمة بشكل عام فعندما يوظف الطرف الشيعي أو السني جهوده لبيان مواضع الخلل في التراث الفكري و التاريخي للطرف الآخر، سنكتشف حينها موارد الضعف والنقص ليتبين من خلالها مواضع الدس في بطون الكتب والتي غفل عنها هذا الطرف أو ذاك ، و على هذا الاعتبار نكون غير مضطرين لأنتظار السني أو الشيعي لينتقد ويهذب تراثه ، لأن هذه القضية حسب تفكير من يعيش شعور الانتماء المذهبي يرى إن قام بهذه العملية تعني إنه يهدم مبتنيات مذهبه بيديه، فأنتصاراً لمذهبه لن يفكر في نقده وأن وجد خللاً يغض النظر ، ونحن عندما ننظر الى تلك الدراسات والنقاشات الساعية لكشف مواطن الضعف والخلل نستفيد منها تشخيص المرويات التي دست ووضعت في بطون الكتب ونستثمرها في طي تلك الصفحات السوداء من تأريخنا وبذلك نحصل على قراءة جديدة لتأريخنا الملوث وهذا الأمر يعود بالنفع للإسلام ومن يشعر بانتمائيته له دون المذهبية. ولكن هذه القضية نسبية من حيث أن ليس كل تلك القراءات دقيقة وقد جاءت ضمن منهج علمي موضوعي ، كما لا يمكن أن نصادر جهود بعض العظماء من مفكري هذه الأمة الذين ناقشوا تراثهم التاريخي و العقائدي واعادوا النظر في افكارهم ومباني مذاهبهم بتجرد ودون تحيز قبل أن يفكروا في مناقشة التراث الفكري للطرف الآخر، فعملية تطهير بيتهم من العفن واللوث كان أولوية لديهم ( فلا يرمي دار الآخر بحجر و داره من زجاج ) والاسمى في قراءاتهم لمذاهبهم أو مذاهب الآخرين ليس غايته الإنتصار لمذاهبهم والتعنصر لها ، بل من أجل الفكر والحقيقة بما هو فكر وحقيقة وهذا هو النقد الأسمى.
ولهذا علينا أن نتقبل نقد الآخرين لنا وأن نعيد القراءة والبحث ، كما يفترض أن لا نستهين بعقائد الآخرين ولندع الغرور و العناد جانباً ونحث انفسنا نحو النقاش و أنتقاد الآخر بشرط أن لا ينسحب لتكفير الآخر ومزيد من إراقة الدماء ، لأننا عندما ندعو كل طرف أن يبدأ بموروثه لتنقيته لا يتجرأ أن يخطو إتجاه النقد البناء لمذهبه، فلذا نحن ندعو كل فريق لمناقشة موروث الآخر بموضوعية وبأدلة علمية حتى تُثمر بتشخيص كل ماهو مثلبة على الإسلام ، و بمجموع تلك الانتقادات سنتخلص من كم هائل للمدسوسات و الموضوعات ومن هذا أرى أن الاتفاق الدائم يكون مدعاة للجمود الفكري ، والاختلاف الفكري النزيه سبب لتقدم الأجيال ، فلولا وجود الطرف المعارض الذي يسعى لنقض المواريث البائسة لما سعى المعتدلون بالتحري عن حقيقة موروثهم و لكن المعارض المختلف فكرياً يُجبر خصومه للبحث وأستقصاء الحقيقة ، اذاً لولا وجود الخصومة الفكرية بين المسلمين ربما لم تكن لتنكشف تلك الحقائق ، فترى أبناء كل مذهب سعداء بما عندهم ويرون فيه التمام والكمال ولكن عندما ينبري كل طرف ويجرد قلمه في تقصي مواضع الخلل والضعف في موروث الطرف الآخر نكتشف لدينا كم هائل من المرويات المزيفة والكاذبة التي دُست في مصادر الفرق الإسلامية لغرض توسيع الفجوة بين أبناء الاسلام ولأضلالهم عن منهج دينهم الحنيف ، ولم ينجُ فريق من عملية الدس والتزوير ، وبالتالي تتخلص الحضارة الإسلامية ورسالة نبيها من تلك المدسوسات، فلولا هذا الاختلاف لما اتضحت تلك المرويات الموضوعة. مع اننا لا ننكر وجود بعض النوادر من أبناء المذهبين قد تجرد عن تحيزه المذهبي و انتماءه العقدي و تقصى تراثه قبل تراث غيره وبحث عن عيوبه ونواقصه قبل غيره و هؤلاء هم المجددون الثائرون ممن يدفع عجلة البشرية للتقدم الفكري. وأنا أرى بأن هذا التنازع والاختلاف الفكري بدوره يساهم في أزدهار الحضارة الإسلامية حيث يوصلها الى الاتفاق النزيه ووحدة أبنائها فتنعكس إيجابا على البشرية جمعاء ، فكل حضارة تسود العالم تعكس حتماً إيجابيتها أو سلبيتها و كل ذلك متوقف على قيمة المبادئ وحركة أبنائها في تطبيقها .
بقي علينا التيقن وادراك بأن الانسان أبن بيئته و وريث أفكارها لذا من الصعوبة أن تجد فرداً ثائراً على تلك المواريث البائسة بل إن أغلب الافراد منغمسون بالإيمان أنهم حزب الله المنتجب وما سواهم يجسد الضلال و الانحراف ، إلا ما ندر ، وحتى هذا النادر الاندر فإن تحرره من تلك القيود أمر نسبي ، فلا نكاد نجد ثائراً متحرراً بشكل مطلق مُعتبراً الحقيقة بنت البحث و عدم التحيز المسبق و يسلك منهج عقلاني في تقصيه للحقيقة إلا ضمن دائرة أضيق وبين فترات زمنية متباعدة ؛ وقد يدعي الكثير منا التحرر ولكن أغلبنا إما كاذب يتشدق بهذه الكلمات الرنانة أو أن تحررنا نسبي ضئيل بأتجاه العدم ! في المقام أنا أتحدث عن وجه من وجوه الحقيقة الإجتماعية في الوقت ذاته أدرك أن عوامل الاختلاف النسبي يؤدي إلى مساوئ عدة ولكن ما عنيته مختلف تماما عما قد يجول في أذهان البعض حال انتقالهم بين طيات أسطر هذا المقال، فأنا اقصد الإختلاف والتنازع الفكري ذو المقدمات الصحيحة والنتائج المحمودة ولا ندعو للاختلاف والنزاع الذي يؤدي لصراع دموي وتكفير الآخر؛ نريد ان نعطي مساحة لكل فرد أن يعبر عن وجهة نظره ولكن ما نأمله أن تبقى في حيز الذهن وأن لا ينعكس باتجاه الجانب السلبي فيؤدي لنتائج قبيحة فمفهوم الاختلاف هو سلاح ذو حدين ولابد من الإشارة الى ان ( ليس مطلق الإختلاف إيجابي كما ليس مطلق الاتفاق إيجابي ) كما السلبية فيهما لا إطلاق فهي مسألة نسبية، ومن هذا نجد لدينا مساحة واسعة لفهم الواقع بشكل أدق أكثر من ذي قبل حيث منحتنا مطاطية المفردات تلك المساحة لتزويد البشرية بمفاهيم تقوم بتفسير الحقائق بشكل أوسع حيث لا تقتصر الحقيقة إما أن تكون سوداء أو بيضاء . وقد وجب التنويه الى القول ان ليس كل من أنتقد فكر الآخر كان بتجرد ولم يكن للتحيز و الحقد وجود في قلبه وعقله، بل دائما ما يلازم هذا الصراع الفكري شوائب فنرى حينها كيف يتجسد إله الكراهية في النفوس الممسوخة فما يضيرنا أن نختلف فكريا و نبقى متحابين! ولكن تلبست الكراهية عقول وقلوب الناس حتى أضحى مرض مزمن و تنتقل عداوته جيلا بعد جيل، إله الكراهية ذاك الذي طرده خالقه من جنته ونفاه كعبد متمرد ولكن جعل منه الناس إله يعبد ويطاع دون الله ، فالله يدعوهم للمحبة فيعصونه فيقدموا الكراهية دين الشيطان فتتجسد الازدواجية حيث يُظهرون المحبة ويُضمرون الكراهية .
ومن هذا المفهوم الجديد لمعنى الاختلاف فلنبدأ بإستقصاء الحقيقة النسبية التي تُدركها العقول دون تحيز لطرف ما ، وأن نحترم اجتهادات الآخرين ونتائج بحثهم ، و علينا أن نفهم شيء في غاية الأهمية وهو ليس بالضرورة أن تكون الحقيقة إما سوداء أو بيضاء ولابد أن نؤسس منهجاً علمياً في كيفية تحويل النزاع والصراع الى أختلاف فكري إيجابي .