حديقة الحيوان المُعَلَّقَة
(إلى إيمان)
تحرَّكَ باصّ المدرسة بهدوء, وقلب الطفلة “راغدة”، ذات الثمان سنوات يخفُقُ معه, ها قد اقترب من العمارة التي تسكنها صديقتها “إيمان”, وهو الموعد الذي تنتظره “راغدة” كل صباح, ليطوف بها في عالم رائع غريب، مختلف عن كل العوالم التي عرفَتْها، أو سمِعَتْ بها من قبل.
تسرَحُ “راغدة” دومًا عندما تبدأ صديقتها “إيمان” بالتحدُّث عن الكنز الذي تمتلكه أعلى سطح عمارتها, كانت “إيمان” فتاة خجول، هادئة، ذات صوت رقيق، وعينان تلمعان بفرح ودهشة خلف نظارة طبيَّة ظريفة، هما نفسهما العينان التى كانت “راغدة” تسافر فيهما كلما بدأتْ الحكايات.
تبدأ “إيمان” حديثها عن عائلة الفِيَلَة, وكيف تلهو هي مع الفيل الصغير، ابنهم، وتجري معه، وهما يضحكان ويتسابقان في حديقة الحيوان الكبيرة أعلى عمارتها, ثم تنتقل للحديث عن الزرافة، وابنتها الصغيرة الجميلة, التى تتحدَّث إليها “إيمان” مثل صديقة حنون.
في تلك الأثناء، بينما تحكي “إيمان”، يرتفع قلب “راغدة” الصغيرة مع كلمات صديقتها، وينخفض في بهجة وحب ودهشة, وهي تتصوَّر كيف ستقابل تلك الحيوانات الجميلة وتلعب معها، تشعر “راغدة”، حتى قبل أن تتقابل مع حيوانات تلك الحديقة، بأنها تعرفهم وتصادقهم منذ مدة طويلة، أطول حتى من مدة صداقتها مع “إيمان”، والتى لم تتجاوز عامًا واحدًا، ملأته “إيمان” لها بحكايات داخل الباصّ، عن حيوانات تشعر “راغدة” بمحبة كبيرة لهم، وتعتقد أنها تستطيع التحدُّث إليهم وتتفاهم معهم أكثر مما يمكنها مع البشر.
قبل عام واحد، بدأتْ صداقتهما، عندما دخلَتْ “إيمان” الباصّ متأخرة، في أول يوم دراسي، ولم تجد مكانًا خاليًا، فبكَتْ، وعندها صرخَتْ بها إحدى الفتيات الكبيرات اللاتي يجلسن في آخر الباصّ مثل عصابة شرسة، كنَّ أكبر من جميع البنات بعدَّة سنوات، ولأول مرة لها فى الباصّ، صرخَتْ “راغدة” بوجه الفتاة المتزَعِّمَة، دافعَتْ عن “إيمان”، أجلسَتْها إلى جوارها، طيَّبَتْ خاطرها، وأخبرَتْها أنها ستجلس إلى جوارها كل يوم.
أحسَّتْ “راغدة” بالحنوّ على هذه الفتاة، الخجول، ضئيلة الجسم، والتي يغطي النمَش وجهها شديد البياض, ولها شعر أسود طويل، وتنظر بخيفة وتوجُّس من خلف نظارات طبيَّة، كانت تلك واحدة من المرات التي أحسَّتْ فيها “راغدة”، رغم صغر سِنِّها, بالأمومة والحنان نحو أشخاص أو حيوانات تتعرَّض للأذى، وتتمنَّىَ لو تستطيع أن تساعدهم.
كانت “إيمان” مُمتنَّة جدًا “لراغدة”، ونشأتْ بين البنتَين صداقة جميلة مختلفة عن الصداقة التي تجمع بين الأطفال في تلك السِّن, كانت “إيمان” قاصَّة بارعة، ذات خيال خصب, ولديها قدرة عجيبة لتجعل مَنْ يسمعها يعيش داخل حكاياتها، ويراها أمامه، كانت لها قُدرة استثنائية على الحكي، ما جعل “راغدة” تتعلَّق بها، وهي البنت الفضوليَّة، التي تتمتع بخيال خصب، فكانت تنتظرها كل يوم، كأنها تنتظر دخولها قاعة السينما، لتشاهد فيلم جديدًا بمجرَّد أن تبدأ “إيمان” في سرد حكاياتها عن حديقة الحيوان الخاصة بعائلتها، أعلى سطح العمارة التى تسكنها.
كانت “راغدة” تقول لها:” أنتِ محظوظة يا إيمان، ليتني كنت مكانك وأعيش تلك الحياة الرائعة”، وتتعجَّب عندما ترى مسحة حزن تَعْبُر عيني “إيمان”، كلما قالت لها هذه الجملة.
طلبَتْ “راغدة” من “إيمان” عدة مرَّات أن تزورها في بيتها لترى حديقة الحيوان, لكن “إيمان” كانت تقول لها: “اِصبري حتى أحصل على إذن من أبي وأمي، فهما لا يريدان لأحد أن يرى هذا الكنز”.
وهكذا، مَرَّ العام، و”راغدة” يقتلها الشوق لرؤية الحيوانات التي سمِعَتْ عنها قصصًا كثيرة، وتنتظر هذا “الإذن” من أهل “إيمان”.
اليوم، وأخيرًا، جاءتها الفرصة التي تنتظرها, أيقظَ سائق الباصّ “راغدة” من خيالات اليقظة، التي كانت سارحة فيها حين طلب منها أن تصعد إلى العمارة التي تسكن فيها “إيمان”، التى تأخرَّتْ عن موعدها, لتطلب منها الإسراع بالنزول، كان الباصّ واقفًا أمام تلك العمارة الحلم، التى تحمل فى أعلاها حديقة الحيوان، قال لها السائق: “أنتِ صديقتها الوحيدة، راغدة، هيا، لا تتأخَّري”.
صعدَتْ “راغدة” سلالم الطوابق الأربعة, ضغطَتْ جرس الباب لوقت طويل, لم يأتها أيّ ردّ، عندها خطر في بالها أن تصعد إلى السطح لترى حديقة الحيوان، حلمها الصغير, فاستدارت، صعدَتْ السلالم المؤدية إلى السطح، قلبها يزداد خفقانًا، وتدعو في سِرِّها أن تجد باب السطح مفتوح.
وصلَتْ “راغدة” إلى باب السطح، باب حديقة الحيوان، كان مواربًا، اندهشت، وتساءلَت: “أليس هذا خطر؟، قد تهرب الحيوانات”، لكنه في الوقت نفسه حظُّها السعيد، مثلما فكَّرَتْ، أخيرًا.
مدَّت “راغدة” يدها المرتعشة، وفتحت الباب عن آخره، ولم تُصدِّق عينيها, تلألأتْ فيهما دموع الدهشة والحزن, واضطرَبَ قلبها بشدَّة، كان السطح خاليًا إلا من بعض قطع الخشب والحديد.