قراءة تحليلية للإصدار البكر للشّاعرة سوسن عوني Sawssen Ouni “ظلّي… والشمس غافية”
ظلّي والشمس غافية: عنوان مثير للتّساؤلات، بُني على جملة من التّناقضات.
الظلّ انعكاس جسم في الشّمس، يلحق بصاحبه حيثما انتقل.
ظلّي: لفظ مباشر منسوب للمتكلّم المفرد “أنا” ومن هنا يأتي الظلّ معرّفا لفظا ومعنى.
ظلّ الشّاعرة وثلاث نقاط مسترسلة ستحمل لنا الكثير ممّا احتوى الكتاب، ثلاث نقاط تمثّل حياة شاعرة، سنجدها على امتداد شعرها تُحاكي الموت وتدعوه أو ربّما هو من دعاها أو ربّما وجدت في الموت حياة.
إذن بين ظلّ الشّاعرة ومسيرتها شمس غافية وهنا المفارقة كيف لشمس غافية، ناعسة، نائمة أن تفعل فعل الشّمس السّاطعة؟ كيف للشّاعرة أن ترى ظلّها منعكسا والشّمس لا تكاد تُفرز خيطا من خيوطها أم هو ظلّ رمزيّ لا يراه سواها؟
ظلّي… والشّمس غافية عنوان يحمل بين طيّاته الكثير وغلاف يأتي ليدعم تساؤلاتنا وبحثنا عن ظلّ أصرّت الشّاعرة على ابرازه في غياب الشمس بل عند نزول المطر واكفهرار الطقس ولكن حين نتمعّن في الغلاف وبعد قراءة المحتوى قد نصل لبعض الفهم للعنوان والصّورة. ففي صورة الغلاف طغى السّواد وهو ما سيُفسّره الموت ومرادفاته والتي لم تخل منها أيّ قصيدة عدى تلك السّطور التي تصدّرت الكتاب والقصيدة المهداة لفيروز، ما دونهما تربّع عليه الموت تصريحا بلفظه أو من خلال مرادفات دلّت عليه.
داخل الصّورة نجد الشّاعرة ترتدي السّواد وسط جوّ غائم ووجهها الذي هو ليس بوجهها “وجهي ليس هو ص12” يطلّ من الموت، من العدم ليرصد ظلّا يلاحق طيفها، وبين السّواد والقتامة نجد خيطا رفيعا من البياض ربّما هو خيط تركته تلك الشمعة الحالمة قبل أن تودّع الحياة، ككلّ شيء عند الشّاعرة حين اختار العدم لعلّه يلمس الخلود.
طغى عنصر القتامة والحزن وصرخت القصائد بالوجع والأسى ودعت الموت بل احتفت به واعتبرته سبيلا للخلاص.
جاءت نصوص الكتاب قصيرة بلغة سلسة مفهومة لا تعقيد فيها مع توجّه مقصود لاتّخاذ الرّمزيّة وعدم التّصريح في أحيان كثيرة لا تعقيدا للمعنى وإنّما تكثيفا للصّور ودقّة في الرّؤى لدى الشّاعرة فهي تكتب عن وعي ودراية بهدف ومرمى تريد بلوغه. ولكن ما أعيبه هنا هو كثرة الأخطاء في الرّسم ولعلّ المأخذ على الشّاعرة هو عدم مراجعتها لما كُتب قبل الطّبع، وكذلك عدم اهتمام دار النشر بالتّدقيق اللّغويّ، ولعلّي من هنا أدعو الجميع إلى الاهتمام أكثر بهذه الجزئيّة فليس كلّ قارئ أكاديميّ حتى يتمكّن من تعديل هذه الهفوات وأن تسلّم الآثار لأكثر من شخص يكون أكاديميّا فمع احترامي للجميع هناك مواقع لا بدّ فيها من مختصّ في اللغة والآداب التي كُتب بها الأثر.
تميّزت نصوص الكتاب بالقصر والتّكثيف إلّا نصّ واحد نستطيع القول أنّه طويل بعض الشيء وهو نصّ “أبناء قرطاج”. اختارت الشاعرة الشعر الحر نمطا لكتاباتها، فلم تقيد حرفها بالوزن والقافية والروي ولعل في ذلك رغبة منها للانطلاق والحرية التي لطالما دعت إليها على امتداد أثرها هذا، لكنّها لم تطلها:
وتغتال الشمس
قبلات تروم الانفلات إلى الحرّيّة
والانعتاق من الحرّيّة
حرمتهما نزعة الحبّ
ونشوة الصّفاء المفقود
في الغلاف طيف غائم لا ملامح له ووجه بملامح متردّدة بين الوضوح والاحتجاب. وحين غُصنا في الحرف للبحث عن وجه الشّاعرة بعيدا عن ظلّها المدّثّر بالموت والعدم، وجدناها تحدّثنا عن وجه ليس وجهها.
وجهي ليس هو النصّ الثاني بالكتاب أو لنق النصّ الأوّل لأن ما سبقه لا يتعنى حسب رأيي التصدير.
وجهي ليس هو مع علامة الاستغراب التي اختارت الشاعرة بوعي وضعها في آخر الجملة، لتبثّ الحيرة في القارئ. لم الاستغراب وهي المقرّة بأنّ وجهها ليس هو؟ ثمّ ما المقصود بأنّ وجهها ليس هو، هل وجهها ليس بتلك القسمات التي تحتلّ واجهة رأسها؟ أم أنّ الظلّ ليس وجهها أم وجهها هو ذاك الظلّ أم وجهه الحقيقي مخفيّ عن قصد، أم حزن قصائدها لا يمثّل وجهها، هل وجهها المستعار أم الحزن الذي صاحب حرفها مصطنع.
وجهي ليس هو: تميط الشّاعرة اللثام على وجه كم تمنّت أن تحتلّ قسماته قسماتها فهي ترفض وجها أُجبرت على حمله وواقعا تحياه ككلّ شيء هو زائف خانق لعين ذاك الوجه الذي هو ليس لها.
لم تقل هو ليس وجهي بل قالت وجهي ليس هو، وبعيدا عن بلاغة الصّياغة ففي المعنى الكثير، فهي هنا تؤكد أنّ وجهها الحقيقي هو ما أخفته عن العالمين خوف أن يتشوّه ويمسخ كما مُسخ كلّ ما حولها.
لكنّها حين تكتب وهي التي أقرّت بالصفحتين 71 و72 بأنّها مازالت تكتب، حينها فقط ستُعيد كتابة وجهها وستأتي ملامحها واضحة رغم المحيط الصحراوي الذي يلفّها ورغم نقشها وجهها على مرايا مهشّمة ولكن ولأنّها الحقيقة الوحيدة الثّابتة في حياتها بعد حقيقة الموت فإنّها ستعيد إحياء ذاتها من خلال وجه قتلت فيه كلّ شيء لتصطفيه عن كلّ ما عداه.
استحضرت الشّاعرة في نصوصها المعجم القرآنيّ: إما لفظا ومعنى “يا عصى موسى” أو من خلال استنطاق بعض المعاني مثل ما ورد في نصّ “العصفور النبيّ” ص85-86 والذي يحملنا إلى قصّة قابيل وهابيل وما العصفور إلّا كناية عن الغراب الّذي جاء ليعلّمه كيف يواري سوأة أخيه، ليوحي لها بأنّه نبيّ أُرسل ليقوم بمهمّة شريفة ولإيمانها به جاءت به في نص “قانون وصوت وكتاب” ص75و76 في صورة الموت، إذ جاء ليمثّل قانون الموت لعلّها تبلغ الخلاص فتنصهر في ذات الطّائر النبي فتتحوّل هابيل في عصر اللامعجزات، فقد يصهل حينها الفرح وتتّقد الشّمعة الحالمة. لكنّها وأمام هذا الحلم والفرح تأخذنا لعالم الموت والفناء.
مفارقة عجيبة بين العنوانين: شمعة حالمة ص46 وصهيل الفرح ص80 ففيما يتعلّق بالعنوان الثّاني فهو واضح لا يحمل بين طيّاته غموضا أو تأويلا. أمّا عن العنوان الأوّل “شمعة حالمة” فالشمعة وإن خضعت للذّوبان فهي ستنصهر في الحلم سترفرف بأحلامها، ستعمّ المكان والزّمان وتعبر إلى الما وراء، إلى الاستمراريّة في الزّمان والمكان من خلال الحلم.
إلّا أنّنا نجد داخل النّصّين ما يتعارض بل ما يناقض العنوانين فها هي تستدعي الموت في صهيل الفرح من خلال مرادفه القبر، ولفظ المغدور
دهشة الجرح تغادر الوتر
يبقى عانسا بائسا
يرتّب الحزن
أنين
وحيدا يشتت الخريف أوراقا
يبحث عن بقية الحين
في الزمن المغدور
يصنع للحمامة أطواقا
وللقبر انفجار خفاة الرّنين
أمّا في الشمعة الحالمة والتي أخال أنّها تمثّل الشّاعرة في أهمّ تجلّياتها في ذوبانها وفي احتراقها من أجل الآخر أو من أجل الاصطفاء وقتل الذات المادّيّة تماما كما المتصوّفة في أسمى تجلّياتهم، فإنّ هذه الشمعة لم تستطع رغم حُلمها وحلمها الانسلاخ عن عالم القتامة والموت فهي عمرها قصير:
عندما يرقص عود الكبريت
وحياتها، وعمرها القصير
وحتّى الشّمس حين تحضر، لا تأتي لتُنير المكان ولا لتنعكس على الذّات ضياء ولا لتحيي ذاك الظّلّ الذي لا يبرز إلّا متى كانت الشّمس غافية، بل أتت بصورة نقيضة لصورتها بحضور باهت ودور يتعارض ودورها، يتعارض وقانون الطّبيعة وقانون الحياة الذي جُعلت له الشّمس، لتأتي بيد حمراء فتغتال الحبّ والحريّة وتغتصب الانطلاق.
تستمرّ قتامة الشّمس وتمرّدها على قوانين الطّبيعة، لتنتبه الشّاعرة وسط تساؤلاتها الوجوديّة الحائرة في قصيد “تساؤلات” والذي طغا قيه قاموس الموت والفقر والجوع والعطش والقتامة ككلّ النّصوص تقريبا، والذي جاءت فيه الزهرة والقبلة خائنتين والّذي على انسياب النّهر فيه فإنّ الدلتا عطش الفقير، حتى البسمة والبستان وقصائد الأطفال والايقاع انصهروا في نبض قلب الشّاعرة وردّدوا لحن الموتى.
لكنّها وعلى الرّغم من تسارع هذا النّسق في سباق مرير إلى الموت، إلى الفناء، فإنّها ترأف بنا في آخر النّصّ لتُطلّ علينا بشمس مختلفة عن كلّ شموسها منذ العنوان إلى امتداد النّصوص الّتي تكرّرت فيها الشمس لفظا أو ترميزا وهي تغتال، تخنق، تقتل، تقبر، لتأتي هنا شمس تشتهي ولكن ماذا تشتهي؟: “بعص سمتي أي بعض سمّ الشّاعرة ولعلّه سمّ حميد أ وليست هي الخالدة لأنّها مازالت تكتب؟ أ وليست هي ديهيا وعلّيسة اللتان بموتهما منحتا للشّعوب الحضارة والحياة؟ أ وليست هي تلك التي تغنّت بالكبرياء وهي صاحبة فكرة الجنون وهل الشعر إلا جنون؟ هل الشعر إلا انطلاق وخروج عن المألوف وتحدّ للموت بخلود الحرف، تحدّ للأعراف باستنطاق المسكوت عنه، تحدّ للأنا انصهارا في الآخر، تحدّ للنحن باللا محدود في المكان والزّمن، تحدّ لكلّ شيء وللا شيء، نحت لبداية دائمة إلى اللا منتهى.
أربكتني سحابة مفخخة
أهدتني طلّ عصاها
قالت لعرائس الموت
امرأة في خان القوافي
وصاحبة فكرة الجنون
انزعوا عن قلبها الكلمات
ألقوها في ضفاف الأسطورة
حتى لا تعود للموت
وتسجن في العبارات
وهكذا وبعد تسعين صفحة من البحث عن بصيص ضوء، عن خيط من خيوط الشمس لعله يذيب القتامة والأسى والوجع، بعد أن غزانا حزن الشّاعرة والّذي قضّ مضجعنا مذ فقدت والدها إلى آخر نفس في آخر حرف من القصيد، وعن دراية منها بما سيتملّك القارئ من حزن وانصهار معها داخل عالمها المأساوي، هزّت بجذع الفرح في بعض العبارات وبين ردهات الأبجديّة لتحيا وتحيي قارئا فتعود وتعيده من الموت، فتنتصب في صورة ديهيا القويّة الثّابتة المتحدّية لتسكت الحزن وتنتفض من جلبابه في كبرياء وتسجن نفسها في العبارات فيتحول القصيد لديها قبس من نور وشعاع يبثّ فيها الحياة ويكون لها في الحبّ ارتواء.
قراءة: نادية الأحولي
@followers