الصوم و الصيام ، والفرق بينهما ..
د.علي أحمد جديد
بدايةً ، ولمعرفة الفرق بين مصطلح “الصوم” كما جاء في القرآن الكريم وبين مصطلح “الصيام” في مفهوم الفريضة الشعائرية ، فإن البعض قد يراهما يتفقان بالمعنى اللغوي لكل من الصيام والصوم ، والذي يعني كما يتردد عند الكثيرين ، بأنه الإمساك عن الطعام والشراب ، كما في الاصطلاح الذي يُعرِّف “الصيام” بأنه الإمتناع عن الأكل والشرب ، وعن باقي المفطِرات ، أي كل مايفسد الصيام في الفترة الممتدة مابين الفجر وحتى المغرب مع سبقِ النية على الصيام :
” يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكُمُ الصِيامُ كما كُتِبَ على الذينَ مِن قبلِكُم لَعلّكُم تَتَقون ” البقرة 183.
وأباح فيما بعد المغرب ممارسة كل ما هو بعيد عن المحرَّمات الشرعية :
” أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالۡـَٰٔنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَـٰكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ” البقرة 187 .
وقد تمّ الاتفاق على الجَمعِ بين المصطلحين عند المُفَسِّرين وبناء هذا الاتفاق على أساس الأحاديث النبوية الشريفة التي استخدمت المصطلحين في التعبير عن نفس الدلالة . لكن مايجب التصديق والإيمان به أولاً ، هو أن القرآن العظيم لايحتوي بين دفتيه كلماتٍ مترادفةً لنفس المعنى ، أو لنفس الدلالة أبداً . لأن “الصيام” إنما يعني الامتناع عن الطعام و الشراب وعن باقي المفطرات ، ويحدِّده في الفترة الممتدة بين الفجر وحتى المغرب ، والتي هي الفريضة الإلهية المعروفة من شهر رمضان المبارك .
لكن القرآن الكريم الذي هو مصدر التشريع الصحيح والبعيد تماماً عن الاجتهادات بجلاء وضوحه ، فقد فرّق بين المصطلحين ، إذْ أنّ الآيات السبع التي ذُكر فيها الصيام إنما كانت تعني بدلالةٍ واضحةٍ الإمساك عن الطعام والشراب ، وعن بقية المفطرات جميعها من الفجر وحتى المغرب ، أما لفظ كلمة (الصوم) فلم يأتِ ذِكرُه في القرآن العظيم إلا مرة واحدة ، وذلك في قوله تعالى :
(فَكُلي وَاشرَبي وَقَرّي عَينًا فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقولي إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمـنِ صَومًا فَلَن أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِياً ” مريم 26
لأن المقصود بالصوم في هذه الآية هو الإمساك عن الكلام ، وعن الأذى الذي قد يستجلبه الكلام ، في حالة البوح به ، سواء لمَن يقول أو للمتلقي لهذا الكلام .
والفرق بين كلمة “صوم” وبين كلمة “صيام” فإن “الصيام” هو الامتناع عن الطعام وعن الشراب و باقي المفطرات من الفجر حتى المغرب .
أما “الصوم” فإنه يخص اللسان و ليس المعدة ،وبصورة خاصة ، قول الحق و الامتناع عن قول الزور سواء في شهر رمضان أو في غيره من الشهور والأيام ، لأن الله تعالى قال في الصوم :
” فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً ” مريم 26 .
إذ يتضح بأن السيدة (مريم) عليها السلام كانت قد نذرت “صوماً” ولم تمتنع أن تأكل أو تشرب ، لأن “الصيام” وحده دون أن يرافقه “الصوم” لا يمكن أن يؤدي الغرض المطلوب من فريضة “الصيام” لقول النبي صلى الله عليه وآله و سلم :
“من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه” .
بينما قال الله تعالى في الحديث القدسي المعروف :
” كل عمل ابن آدم له إلا (الصوم) فانه لي و أنا أجزي به” .
وهنا يكون الله تعالى عَزَّ و جَلّ قد ذكر “الصوم” وعظَّمَهُ لأن فيه صلاح المجتمع وسلامته ، ولم يذكر “الصيام” الذي يعني الامتناع عن الاكل والشرب !!.
وقد يتبادر الظَنُّ لدى البعض إلى أن المقصود في هذا الحديث القدسي هو فريضة “الصيام” وليس “الصوم” بمعناه ، وهذا خطأ فادح لأن “الصيام” بالامتناع عن الأكل والشرب يقدر عليه حتى الطفل الصغير ، أما “الصوم” العظيم فإنه يحتاج إلى صبر عظيم ، لأن الصبر على أذية الآخرين و الصبر على إيفاء الحقوق وعلى قول الحق ، ورعاية الذمم حق رعايتها فهو من الأمور التي تحتاج إلى جهاد عظيم مع النفس أولاً ، ثم مع الآخرين . وقد قال عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم :
” أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطانٍ جائر ” .