الرسالة عدد 4
رسالة إلى الرئيس
بالودّ أحييكم وبالحبّ ألاقيكم
وبعد:
مضى زمن يا سيدي الرئيس، لا أنت تواضعت ورددت على رسائلي ولا أنا تابعت جديد أخبارك… كما أنّي لا أملك المعلومة إذا كان حراسك وموظفوك يوصلون لك كل الطّرود والرّسائل أم هم كعادتهم يتجسّسون على محتوياتها وأصحابها ثم يبلّونها ويشربون ماءها، قيل أنّ ماء الورق المنقّع في الماء حينما يسيل حبره يصير بمثابة الرّقية وكالدّواء يحصّن شاربه من كل سحر وداء ويزيل عنه الغمّة والضّيق…
فإذا كان هؤلاء قد وجدوا في رسائلي حروزا ونفعا، هنيئا لهم مريئا… بل سأجتهد لأجلهم ولأكتب رسائل جديدة حتى يبارك لي الربّ عملي، طالما المسعى شريف والمقصد نبيل…
سيدي الرئيس، نسيت ما كتبت لك في رسائلي السّابقة.. ونسيت طلبي، ونسيت حتى ذاكرتي في إحدى القراطيس، إذ سقطت منّي سهوا وأنا بصدد خربشة خاطرة، ثم عدلت عنها فكان مصيرها الحاوية.. حاوية المكتبة العمومية التي كنت أجلس فيها من وقت لأخر… فألقى بها عون تنظيف المكتبة مع جملة من الأوراق والجرائد القديمة حذو قمامة الشْارع، استبشر بها “الحمّاص” بائع الدّخان والبذور والحمص واللّوز والفستق والجوز، وحبوب اليقطين..
التقط جميع الأوراق وجعلها قراطيس يلفّ فيها طلبات زبائنه وأبناء الحيّ والعابرين، وسكارى آخر الليل، أظنّ أنّ القرطاس الذي سقطت به ذاكرتي… قد لفّ به الحمّاص وزنة من المكسّرات الشّهيّة لكهل سمين، توقّف بسيّارته ونزل مترنّحا من شدّة إفراطه في حسك الخمرة، بعدها انطلق وهو يرحي المكسّرات رحيا ويجرشها جرشا، تحت أضراسه الكبيرة بنهم شرس ودون رحمة او شفقة، ولمّا فرغ منها، ألقى بالقرطاس من خلال زجاج نافذة سيارته، فطار عاليا في الفضاء، ثم نزل شيئا فشيئا في بركة ماء خلّفها المطر، لا أظنّ أنّ ذاكرتي قد وقعت هنالك أيضا، بل من المحتمل أنّها وقعت فوق زجاج السّيارة الخلفي وعلقت بمسّاحة الزّجاج خشية الوقوع والتّهشّم، وظلّت تراقب أفعال السّكير،… حتى بلغ بيته، فتح الباب على مصراعيه، ثم تراجع قليلا إلى الوراء وتوجّه قبالة الشارع، فتح سحّاب سرواله وراح يتبوّل وهو في تمايل، بعضه فوق جذع شجرة مغروسة على الرّصيف، وبعضه يذهب نحو الطّريق العامّ وهو في تحمحم، وتنحنح.. لمّا فرغ، رفع سحّاب إلى النّصف تاركا سرواله يتدلّى ثمّ تجشّأ، ودخل بيته صادحا بالغناء، “اللي…ل يا لي..لى يعا..تبني، ويقو..ل لي سلّم.. على الخ..مره.. وانا على حبي..بتي البيرّااا محااال أتخلّى…”
عفوا سيدي الرئيس، لقد انحرفت عن الموضوع، وقلت ما لا يجب أن أقول دون وعي، وعن غير قصد، فقط كنت أتابع ما تصوّره لي ذاكرتي، حسنا ساختصر وأحاول أن أمسك بتلافيف القضيّة قبل أن تفرّ مني تفاصيلها… فأنا أحدّثكم وذاكرتي لا ترافقني…
سيّدي الرّئيس، لقد تعرّضت منذ فترة لحادث، كنتُ أهمّ بعبور السّكة الحديدية وقطع تذكرة وركوب الميترو، ونسيتُ أن أحدّثك إنّ السّيارات صارت تهرب من زحمة الطرقات، فصارت تنعرج، وتصعد وتنزل، لم تسلم منها أرصفة، ولا نهج ممنوع، ولا حتى سكّة قطار أو ميترو كانت تقطعها بسرعة جنونيّة قبل أن يداهمها أو يصادفها أحد قادم من الضّفة المقابلة.. ،
ماذا قلت الضفة المقابلة؟ كأنّني اخبرتك في إحدى رسائلي الماضية عن مغامرتي العجيبة وكيف حرقت بنيّة الهجرة غير الشّرعيّة إلى إيطاليا في مركب مطاطيّ، أو ربّما كان خشبيّا معدّا خصّيصا لتهريب النّعاج والكباش..، في بلادنا لا أحد يهتمّ بهذه الدّواب وإن ماتت جيفة.. ، على الأقل لمّا تصل هذه الحيوانات إلى الضفّة المقابلة قد تجد المرعى والرّاعي، وقد تأكل الأخضر واليابس،..، غير أنّي لا أذكر تفاصيل مغامرتي الشّنيعة، مضى على القصّة زمن،..
ما أعرفه الآن أنّي عدتُ، عدتُ إليك يا أبي، ألستَ أنتَ أبي يا سيّدي الرّئيس، ألم تقم بالإمضاء على اتّفاقيّة أو معاهدة ليعيدوا لك خرفانك وكباشك.. إذا ألقي القبض عليها هنالك في مراعيهم أو وجدوها سارحة في براريهم.. وحتى بعد الزجّ بها في المستودعات والاسطبلات يعيدونها لك عجولا سمينة، جميلة…
المهمّ أنا عدتُ يا سيّدي الرّئيس، كيف؟ لا أدري، متى؟ لا أدري، عدت نعجة أم شاة أم بقرة حلوبا؟ لا أدري، أخبرتك إنّ ذاكرتي قد طارت منّي….
ياااه! كالعادة يا سيدي الرئيس، سرعان ما أسرح في خيالي ومع خيالي، ربما لأنّني تدرّبت على السّرح هنالك مع الثّيران الهولنديّة والعجول الألمانية، وجاموس الأهوار العظيم، الذي نادرا ما التقيته، فهو يفضّل عدم الاختلاط والتّزاوج من غير فصيلته…
حكايتي يا سيدي الرئيس أنّ سيّارة فاخرة دعستني حين كنت أعبر السّكة، والسّائق اللّعين، لم يشعر بجريمته، برغم صراخ المارّة وتجمّعهم والتفافهم حولي، يبحثون عن مكان إصابتي، يتفقّدون أصابعي، إصبعا، إصبعا ،يتلمّسون خواتمي، ينظرون إلى الوقت في ساعتي الفضيّة في معصمي، يجسّون لي نبضي، أنظارهم تتوجّه إلى جيدي، وما تدلّى على صدري… لا أحد اهتمّ بالسّائق… جميعهم عبّروا عن أسفهم لحالتي، أشفقوا عليها، ومن هول حزنهم وصدمتهم تغافلوا عن طلب النّجدة أو الحماية المدنية، ولما افاقوا من غفوتهم، تذكّروا ما عليهم من التزامات وأنّ لديهم أعمال تنتظرهم، فانتشروا كالفراش المبثوث، ذكّرونني بيوم الصّاخة يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه… … إنّها القيامة وما ادراك ما القيامة، وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظنّ أن يفعل بها فاقرة.. ، ووجوه يومئذ مسافرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه مصفرة ترهقها قطرة…، اوووه، استغفر الله، استغفر الله، لقد نسيت الآية التي أريد.. نزلت فوق راسي الطّامة والعامّة وقرعت أذني القارعة… بسبب كثرة الوجوه التي تطلّ عليّ هي من فوق، وأنا في التّحت .. وها أنّي حرّفت القرآن، إلهي أغفر لي زلّتي، وثبّت حالي عند السّؤال فأنت أدرى بحالي وما جرى، ووحدك تشهد على ما أقول وتعلم أنّ ذاكرتي ليستْ في حوزتي…
يا سيدي الرئيس، لا أدري من حملني إلى مستشفى الحروق البليغة، وألقى بي في بهوه للرّيح تداعب “بُنْواري” أقصد فستاني، ورجلاي مهشّمتان.. ، ولا أدري من نزع من أناملي خواتي الذْهبيْة، ومن أخذ ساعتي السّويسريّة، ومن سلخ من يدي أسورتي الفضيّة ورثتها عن جدّتي، وفكّ عقدي المرجان عن عنقي… لا أدري… لقد كانت تطلّ فوق جثّتي رؤوس كثيرة وقرون كثيرة، بعضها معقّف وبعضها طويل، ومخالب بعضها لنّسور أخرى لذّئاب…
يا سيدي الرئيس، نسيت كم طالت مدّةُ علاجي، ومن تحمّلني تلك الأشهر، يُقال جارتي، ويُقال، صديق قديم قدم من الرّيف، سمع بمُصابي فأتى لينال جزاء من الله، وبالمناسبة يقيم عندي فترة بالعاصمة بحثا عن فرصة عمل.. ويُقال أن بعض الشعراء والأدباء ساهموا في تجميع مبلغ ماليّ ضئيل، وأرسلوه لي مع حيّة من حيّاتهم العديدة، ادّعتّ معرفة مقرّ سكناي، فالتهمت الصّدقة، وأشاعت أنّني تسلّمتها منها، وأنا لم أتسلّمها، ولأنّي فاقدة للذّاكرة، صدّقوها، وأهملوا كلامي…
سيّدي الرئيس، طلبي أن تجدوا لي حلاّ، تمكّنوني من فضاء وسط العاصمة، المباني داخل المدينة العتيقة كثيرة ومغلقة. لا أحد يستعملها ولا ملاّك يسأل عنها أو عن إيجارها، ثمّ باتتْ مهدّدة بالسْقوط،.. أريد أن أجعل منه مقهى ثقافيّا، أرتزق من مدخوله وممّا أحصل عليه مقابل خدمات أعرضها على الزّبائن والحرفاء وبعض المثقّفين المتشرّدين أمثالي، أنظّم لهم أنشطة ثقافية، أعدّ لهم سهرات رمضانيّة ، أجلب الفنّانين الهواة والمبدعين الَمهمّشين والمعتوهين الذين وقع إقصاؤهم من النّدوات، وأدعو الشّعراء الذين نحتوا أسماءهم على تجاعيد أوراقهم، صار بعضهم يستعينون برجل ثالثة يتكئون عليها حين المشي، ويتوسّلون الشّمس لتفرش لهم ظلالها كي توسّدونها وقت الهجير، أدعو كذلك الأدباء التّعساء من الشّبان، الذين لم يلقوا حظّهم في السّاحة… فنحن أشباه المثقّفين، ليس لنا دعم ولا تمويل، ولا تكترث لنا وزارة.. لا مندوبيّات.. ، ولا احتضنتنا دور ثقافة، لأنّ هذه الإدارات تحكمها أشباه العلاقات واللّوبيات والعصابات، والمافيات، وحدهم يقيمون المهرجانات والملتقيات والتّظاهرات والأعراس الثقافية بدعم من العيون التي لا تنام، وبرعاية المنظّمات الخارقة للسّلام وجمعيّات اليتامى والشّهيد، يحصلون على الدّولارات، يستضيفون أسماء ووجوها متكرّرة، مستنسخة في مسرح صنع العرائس المتحرّكة مقابل المليارات، يدعون المتحصّلين على الدكتوراه الفخريّة من مختبر المعرفة العبقريّة عربا وعجما، مطبّعا ومنقّعا، أحيانا بتذاكر مدعومة من الهلال الأحمر وأخرى بأسعار خياليّة توفّرها الجامعات الدّوليّة، يُحضرون نقّادا يجترّرون أوراقهم وأقلامهم من عهد الجاهليّة، يحشرون أصحابهم يتحدّثون عن إنجازاتهم، يقولون عنها إبداعات جهنّميّة جديدة، يُؤجرون نفس الأقنعة من الإعلام، صارت الإذاعات والتّلفزات الحكوميّة، بعصمتهم، وبعصمة من نالوا الجوائز في المسابقات الخليجية والكومارية والأكترائية، والكريديفية و… امتلكوا كلّ وسائل الإعلان اندسّوا في كلّ القنوات.. كالفقاع اكتسحوا المكتبات الخاصّة والعامّة، ودور النّشر المدعومة الحكومية منها والخصوصيّة، باتوا، جماعات، جماعات، مواكب، مواكب، طبّالة وزكّارة، والكعك الذي هرّبه الموريسكيون والعثمانيّون والألمان المحشوّ بمدّخراتهم من حلي ومجوهرات وأحجار كريمة وقطع نقديّة ذهبيّة… وقع اقتسامه عند حلول الظّلام، في أروقة المعابد، وفي ليالي الأعياد قبل أن تشمّ رائحتها بعض الأنوف القويّة وتفترسه بعض العيون الحارّة أو تجرؤ أيادي فتمتدّ بنيّة التّذوّق منه قليلا…
سيدي الرئيس، لقد أصبح ضعنا الاجتماعي والثقافي والاقتصادي كارثيّا، النّدوات أصبحت مضحكة بمن فيها… شلّة تقدّم شلّة، شلّة تستضيف شلّة، والحلقات تتواصل، حلقة، حلقة، فتصير مسلسلات وسلسلات من الجرعات ضدّ من يدنو من سور الثّقافة، ويتبادل أصحاب الشاليهات ومديري بيوت المعلّق آت، الضْيافات، يبيعون في سوق عكاظهم الشّعر والقصة والرّوايات، ويوم الفوز والإحراز على المليار، تبات كل الجواري في حريم السّلطان، يرقص سنبل على وقع ترانيم الأقدام، ويقع تسريب روح المرّ في أقداح مرمريّة لملكة غجريّة، أو لقائد بربريّ…
تبّا لي، ماذا ذكرت… المرّ؟، عفوا سيدي الرئيس، أقصد الحبر، الذي يوزّع على المبدعين بالمجان، ليكتبوا حكاياتهم على ظهور السّمك، ورسائلهم التي لا تصل…
أوووه…! جفّ حبر مقلمتي، وجفّت جميع أقلامي، كذلك السّمك، لا أدري أين توارى، بلغني أنّه أصبح باهضا، فكيف لي أن أكمل رسالتي..؟ وأنا مازلت لم أكمل سرد روايتي..؟
عفوا سيدي الرئيس، أستسمحك، سأغادر الآن، بتّ لا ذاكرة، لا حبر ولا قلم….
سأنظر، منْ يبيعني فكرة، أو قصيدة أو قصّة أو رواية… مقابل مبلغ زهيد، أو ربّما أصادف أحد هؤلاء الممحونين بالخمور في “بار” اليونيفار أو نزل الكونتينونتال، فأحظى بليلة من ألف ليلة وليلة في شاتو الخليفة قار… وأحصل على رغيف، وبعض الدّنانير أحلّ بها مشكلة القلم وأسكب بعض الألم..
في الختام وفي انتظار ردّكم، لكم مهجتي وبهجتي، دمتم في رعاية الإبداع، وفي حضن المحبّة والجمال، وأسأل الله أن تبلّغكم القروش رسائلي قبل التهامي…
والسّلام
من ابنتكم الحالمة
سونيا عبد اللطيف
تونس 07/ 03/ 2024
من كتابي الذي لم ينضج “رسائل وخواطر لم تصل إلى الرئيس”