شارل بودلير
Charles Baudelaire)
1821-1867 شاعر وناقد فني فرنسي لقب بشاعر الشر والسوداوية والمجون.
ترجمة واعداد:
د. عبد العزيز يوسف آغا
بدأ بودلير كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه أزهار الشر، مدفوعا بالرغبة في شكل شعري يمكنه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبرى. وما أن نزل ديوانه الأول ( أزهار الشر)، حتى ثارت عليه جميع طبقات المجتمع فاتهم بالإباحية واقتيد مكبلاً أمام القضاء فحكم عليه بغرامة مالية مقدارها 300 فرنك فرنسي. وسحب الديوان من التداول فأعاد طباعته بعد التعديل.
وفي عام 1861 بدأ بودلير في محاولة لتدقيق اقتراحه الجمالي وتنفيذه فكتب القصائد التي تمثل المدينة والتي تعتبر معينا لا ينضب من النماذج والأحلام.
يعتبر بودلير من أبرز شعراء القرن التاسع عشر ومن رموز الحداثة في العالم. فقد كان شعر ه متقدما عن شعر زمانه فلم يفهم جيدا الا بعد وفاته.
وكان يرى ان الحياة الباريسية غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة، وهي القصائد التي أضيفت إلي أزهار الشر في طبعته الثانية عام 1861 تحت عنوان لوحات باريسية.
لكن دعونا نتعرف على سيرته الذاتية أولاً:
بودلير شاعر وكاتب فرنسي، من أبرز أدباء القرن التاسع عشر في فرنسا وأوروبا، ويعدّ من رموز أدب الحداثة، بل يعتبره كثير من النقاد مؤسسه، وأول من كتب ما يعرف بقصيدة النثر في الشعر الفرنسي.
ولد عام 1821 في باريس وتوفي فيها عام 1867.
عاش بودلير -واسمه الكامل شارل بيير جوزيف فرنسوا بودلير- حياة مضطربة وبائسة منذ صغره، حيث ذاق مرارة اليتم رغم أن أمه كانت ما تزال على قيد الحياة، إذ لم يعش معها كثيرا من سنوات عمره، وذاق مرارة الفقر رغم أنه ورث ثروة طائلة مُنع من التصرف فيها.
المولد والنشأة:
////////////////////////
ولد شارل بيير بودلير في 9 أبريل/نيسان 1821 بالعاصمة الفرنسية باريس، من أب ينتمي إلى الطبقة البورجوازية المتوسطة من ملاك الأراضي يدعى جوزيف فرنسوا بودلير، وأم من أصول إنجليزية تسمى كارولين أرشمبو دوفيس
كان أبوه راهبا ورساما هاويا، ثم ترك الرهبانية وأصبح موظفا إلى أن توفي.
وقد ترك مكتبة كبيرة، التهَم شارل بيير كتبها وهو ما يزال صغيرا، وكان يرتاد النوادي والمجالس الثقافية التي كانت تعقد في بيوت بعض وجهاء وأغنياء ومثقفي باريس، وتنبأ له الكثيرون بالنبوغ والإبداع، وقيل إنه كان يقرض الشعر وهو في المرحلة الإعدادية.
لكنه منذ طفولته، توالت عليه الصدمات وأبى البؤس أن يفارقه، فلم يكد يتخلص قليلا من صدمة وفاة أبيه، حتى تزوجت أمه من الضابط في الجيش الفرنسي الجنرال جاك أوبيك، وتضاعفت آلامه بعد نحو عام من هذا الزواج، يوم رأى بعينيه أمه وهي تخضع لعملية إجهاض قسرية مؤلمة لتتخلص من جنين أمضى في أحشائها 8 أشهر كاملة.
فزوجها الجنرال أوبيك -وهو أحد الضباط الذين شاركوا في احتلال الجزائر عام 1830- أرغمها على التخلص من جنينها .ولم يمض وقت طويل حتى تجذر كره الجنرال في قلب الطفل شارل، وانعكس ذلك على أدائه الدراسي وانتظامه في المدرسة، وانتهى به الأمر عام 1839 مطرودا من ثانوية لويس الأكبر في باريس حتى قبل أن يحصل على الثانوية العامة.
الدراسة والتكوين العلمي:
//////////////////////////////////
طبيعة عمل زوج أمه العسكري جعل شارل بودلير يتنقل بين عدة مدن ويدرس في عدة مؤسسات تعليمية، وبدأ هذا الاضطراب وعدم الاستقرار في حياته يزيد من كرهه للجنرال أوبيك، الذي يعتبر أنه “سرق” منه أمه وحرمه من حنانها ورعايتها.
ففي عمر 10سنوات، دخل إعدادية شارلوماني في باريس، وبعدها انتقل إلى مدينة ليون مع أمه وزوجها ودخل الثانوية الملكية،وكانت العادة تفرض أن من يأتي إلى هذه الثانوية أو إحدى ثانويات باريس من المدن الأخرى، يتم تنزيل مستواه سنة أو سنتين، على اعتبار أن التعليم في العاصمة كان أكثر تقدما وتطورا، فحزن شارل لذلك ورأى أنه ضيّع عليه سنة من عمره الدراسي، واعتبره قرارا غير عادل.
رد فعل الشاب شارل على كل هذه الظروف التي أحاطت به منذ صغره انقلب تمردا ورفضا للأسرة والمجتمع وما حوله، وكلّفه ذلك التمرد والفوران طردا من ثانوية لويس الأكبر لسبب ظل طول عمره يعتبره “تافها”، وذلك لأنه رفض التبليغ عن زميل له، وصرّح أمام الإدارة أنه مستعد لأي عقوبة، لكنه “لن يكشف سر زميله”.
انتهى مشوراه في ثانوية لويس الأكبر -التي درس فيها 3 سنوات في شعبة الفلسفة، وتعلم فيها اليونانية واللاتينية والإنجليزية والأدب الكلاسيكي القديم- لكنه لم يستسلم لهذا الطرد، وعمل بجهد حتى حصل على شهادة الثانوية العامة خارج التعليم النظامي.
وفي رسالة إلى صاحب دار النشر التي كان يتعامل معها تبين كرهه وحقده على “كآبة باريس” مما جعله يترك الجامعة ويبدأ حياة تسكع وتشرد ومجون واستهتار ظلت ترافقه إلى لحظة موته.
حياته الماجنة في الحي اللاتيني:
///////////////////////////////////////
ترك شارل بودلير مقاعد الدراسة وانغمس في حياة “البوهيمية” والمجون واللامبالاة والاستهتار، و”كفر” بكل ما حوله، ودفن نفسه بين كؤوس الخمر ولفائف الحشيش ومسحوق الأفيون وأحضان البغايا في حارات الحي اللاتيني في باريس.
وفي أقل من سنتين، أنفق شارل بودلير نصف ثروته الطائلة البالغة 75 ألف فرنك فرنسي ورثها عن أبيه، وزادت “فورة” التمرد عنده بعد أن تدخلت أمه -وهو في الثالثة والعشرين- ورفعت دعوى قضائية ضده وفرضت عليه حجرا ووصاية قضائية لتمنعه من تبديد ثروة أبيه.وقد حجزت المحكمة على أموال بودلير، وقضت له بمصروف شهري لا يتعدى 200 فرنك فرنسي يتسلمه تحت إشراف محام، وطلبت منه أن يقدم باستمرار تقريرا عن أعماله ومصاريفه، فدفعه ذلك إلى الشعور بالإهانة والاحتقار، وزاد من كرهه لأسرته وكل محيطه.
مما اضطره إلى توفير المال لينفق على نزواته وأهوائه التي لا تنتهي، عمل صحفيا وناقدا فنيا لدى كثير من الصحف، وحاول نشر بعض الأعمال لدى دور نشر، لكن ما كان يجنيه من مال لم يصمد أمام السيل الدافق من متطلبات حياته الشهوانية التي أطلق لها العنان، فتراكمت عليه الديون.
طاف شارل بودلير باريس كلها وغيّر سكنه مرارا هربا من دائنيه، فاستأجر أكثر من 40 منزلا وفندقا، وعرفته كل أزقتها تقريبا، وبلغ به اليأس والنفور من الحياة أن حاول الانتحار في 18 يونيو/حزيران 1845، حيث طعن صدره بسكين، لكنها لم تكن طعنة قاتلة، ولم يستجب القدر لرغبته في الموت.
وقبيل محاولة انتحاره، كتب رسالة إلى إحدى خليلاته يخبرها بما سيقدم عليه، وأوصى لها بما يملك وما ورث، لكن أجله الذي لم يحن بعد حال بينها وبين ثروة أبيه.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بيع النص الأصلي لتلك الرسالة في مزاد علني بالعاصمة الفرنسية بسعر بلغ 234 ألف فرنك.
وفي 1848، شارك شارل بودلير في الثورة الشعبية التي اندلعت في فبراير/شباط وأدت إلى قيام ما يعرف بالجمهورية الفرنسية الثانية، وحمل السلاح مع الثوار ووقف معهم في الحواجز التي نصبوها في باريس، ووجدها فرصة سانحة ليحرضهم على قتل زوج أمه الجنرال جاك أوبيك، لكن مراده لم يتحقق.
وبعد أن “انحرفت” الثورة عن مسارها، وأسفر ما تبعها من تطورات عن “انتكاسة” وعودة فرنسا إلى سابق عهدها في نظامها السياسي، تراجع بودلير وعارض الثوار والثورة، ووصفها بأنها “مذبحة الأبرياء”.
عاش شارل بودلير جزءا من حياته “البوهيمية” في العاصمة البلجيكية بروكسل ومدن بلجيكية أخرى (1864-1866)، حيث سافر إليها هربا من دائنيه في باريس، وطمعا في جني بعض المال عبر إلقاء سلسلة من المحاضرات، لكنه أصيب بخيبة أمل لا تقل عما لقيه في فرنسا، حتى إنه كتب في أواخر حياته كتابا عن بلجيكا وانتقدها وأهلها ومدنها وأسلوب العيش فيها.
تمرّد بودلير على الحياة ونهجها تجلى حتى في تسريحات شعره التي تنوعت باستمرار بين الشعر الطويل المرسل والقصات القصيرة والحلق الجذري حد الصلع، بل امتد تمرده وحنقه هذا حتى إلى القارئ، ففي أحد مؤلفاته يصفه بأنه منافق حيث يتوجه إليه قائلا “أيها القارئ المنافق، يا شبيهي، يا أخي”.
ومما نقلته روايات النقاد عن بودلير، أنه قال مرة إنه “لا توجد إلا 3 كائنات محترمة: الراهب والمحارب والشاعر، فالأول ينشر العلم والثاني يقتل والثالث يبدع”.
التجربة الأدبية:
/////////////////
ديوان واحد من أعماله الشعرية والأدبية حقق شهرة غير مسبوقة، وبوأ شارل بودلير عرش الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر، وأصبح كل منهما دليلا على الآخر، فإذا ذكر بودلير سبقه إلى الذهن ديوان “أزهار الشر” (Les Fleurs du mal)، وإذا ذكر هذا الأخير لازمته صورة ذلك الشاعر الذي لخّص فيه عصارة “النكد والضياع” الذي عاشه في باريس.
وحتى هذه الصنعة الشعرية ساقته إليها الأقدار على غير هدى منه ولا تخطيط، فقد كان مناه أن يكون ناقدا فنيا، وبذلك بدأ حياته مؤلفا، حيث كتب كثيرا من المحاولات النقدية لعدد من الأعمال الفنية لرسامين عاصرهم. بل حتى كثير من أشعار ديوانه “أزهار الشر”، يرى ناقدون وكتاب أنها مستوحاة من لوحات فنية لرسامين أو نحاتين، والباقي لا يعدو أن يكون عصارة مريرة لحياته التي لم يكن يرى لها أي معنى ولم يكن يجد فيها أي طعم، فهرب منها إلى عالم الخمرة والمجون.
لكنّ شعراء وكتابا من جيله أو ممن سبقوه إلى الأدب بقليل ناصروه ومدحوا ديوانه، ومنهم الروائي الكبير فيكتور هوغو، الذي قال عن الديوان إنه “خلق رعشة جديدة في الشعر الفرنسي”.
مما عبّد طريق الشهرة أمامه وأمام ديوانه، فبعد سنوات قليلة صدرت منه طبعات منقحة (1861، 1866، 1868) لا تتضمن القصائد المدانة، وبيعت منه آلاف النسخ ونفد في كثير من الأسواق.
كما نشرت بعض الدور خارج فرنسا (خاصة بلجيكا) النسخة الأصلية للديوان متضمنة القصائد الست، وانتهى مسار بودلير وديوانه إلى تبرئتهما بعد 4 عقود في محاكمة جديدة انعقدت في باريس عام 1945.
ولبودلير فرحة أخرى تزامنت مع شهرة ديوانه. ففي السنة نفسها التي نشره فيها، جاءه البشير بموت زوج أمه الذي كان يكرهه ويعتبره أحد أسباب “ضياعه”، فبدأت علاقته مع والدته تعود شيئا فشيئا إلى سابق عهدها.
قد اعتبر النقاد ديوان “أزهار الشر” انطلاقة للشعر الحداثي في فرنسا وأوروبا، فقد أحدث شارل بودلير رجة شديدة في الأوساط الأدبية أيضا يوم أصدر ديوانه “قصائد نثرية”، حيث رأى فيه كثيرون قمة الإبداع في جنس جديد من الكتابة الشعرية كان ما يزال آنذاك محتشما، وهو “قصيدة النثر”.
الشلل والوفاة:
//////////////////////
كما عهدته باريس، انغمس بودلير من جديد وهو في بروكسل في حياة الخمر والمجون، وهناك اكتشف أنه مصاب بعدة أمراض أبرزها مرض الزهري (السيفليس)، كما أصيب بشلل نصفي بعد سقوطه في كنيسة “سان لو” في مدينة نامور ببلجيكا سنة 1866، وبعدها أصيب بالخرس فسافرت أمه إلى بلجيكا وأعادته إلى باريس، وأمضى في إحدى مصحاتها سنة كاملة لا يقوى على الحراك ولا النطق، وحتى بعض المعاملات القانونية التي أنجزها في أواخر حياته كانت عبر إيماءات وإشارات.
توفي يوم 31 أغسطس/آب 1867، وهو لم يتجاوز بعد سنَّ السادسة والأربعين، ودفن في مقبرة العائلة بمنطقة مونبارناس في باريس.
وقد ترك إرثاً أدبياً غير نظرة العالم إلى الشعر والكتابة، ويحق لنا أن نقول أن تأثير المجتمع على الإنسان له الدور الأكبر في سلوك وحياة البشر.






