رؤية لما يكمن وراء النص القصصي
موسى غافل
من الضروري أن يكون المتلقي الفطن ـ وهو يقرأ نصا قصصياً :قد استحضر في ذهنه : أن يستنطق النص بما أراد الكاتب ، أن يوصله لقارئ نصه : ب ما الذي أراد أن يوصله ؟
و أرجو الا يغيب عن ذهن القارئ ـ إن ورقتي هذه مجرد ممر يؤدي إلى التعبير عن وجهة نظر شخصية .حول أي موضوع .. يجب ان تحدد معالمه بغية أن يكون هناك فهماً لأبعاد ما يخفيه النص القصصي وراء هيكله الظاهر .
كان بودي أن أبدي رأيي بموضوع كتابة هذا النمط السردي تحديداً القصة القصيرة. فهي لعبة ذكية و جريئة و مغامِرة . فيدور ذهن المتلقي سؤالاً : عما أراد الكاتب أن يقوله . لكي ينغمر في رحلة متحرية عن الكامن في تلافيف النص, في عرس اللذةْ لاكتشاف و اصطياد المخبوء . و بما يلزم من تعريف واضح بمعالم النص القصص ، لا النص المفتوح و لا المغلق، ولا أي نمط سردي آخر .
و أعتقد إن الكتّاب الجادين في مجمل توجهاتهم الفكرية و المقارباتية لمختلف المدارس ، أدركوا هذا ، و انغمروا في المجازفةْ, والغور في دهاليز و( سراديب) العمق التأويلي للقصة القصيرة .
فالنص القصصي الذي كتبه العظماء: هم ساهموا إلى حد تركوا به بصماتهم كعلامات دالة . للنهج الابداعي في اكتشاف السحر و العمق التأويلي للنص .
فالقصة هي مغامرة استكشاف بعين راصدة و بانتباه شديد لإنجاز مهمة تشترك بها حواس ( الصياد) ومهمة ،غير سهلة ، تعتمد على دقة التصويب . لذا ينبغي أن يكون الحاصل .. مفاجئاً و مدهشاً، يساهم في اكتشافه ، و إغنائه في مشاركة للمتلقي الفطن ذو النظرة الثاقبة . لكشف المستور، و بما لم يتوقع .
بتصوري أن النص القصصي يتفوّق ، على النمط الشعري و الروائي , بما يمنح المؤلف حرية اختيار سبل التوصيل ـ في فواصل أو قيود تحدد منطلقات النص ، بغية الوصول إلى الغاية . في العمق و التلاعب بالألفاظ بذكاء خارق . و ممارسة لعبة خطرة مرصودة بعيون متحرية عن نقاط الضعف .لا يروق لها نجاح الكاتب، أو قلوب محبة عاشقة و متلهفة لاكتشاف الكنز المخبوء في عمق النص . فهي لعبة تحتاج للشطارة من أجل بلوغ كشف ما وراء النص ، أو : يؤدي الكاتب بالنص إلى وحل التخبط و السذاجة , أو ضعف قيمة الايحاء.. حينذاك يخرج المتلقي خالي الوفاض .وربما يأندمَ على الوقت المهدور الذي ضيّعه في التحري عما يكمن خلف .. وفي عمق النص.
لعبة خطرة ، و جميلة ـ بنفس الوقت ـ رائدة إلى غزو آفاق مجهولة قد تكون رحلة تنقيب للعثور على ما لم يكتشف من قبل في أي نص . فأبدع العديد من الأوائل أمثال فرانز كافكا و كوكول و انطون جيخوف، و كتاب انكليز و فرنسيين و غيرهم . و دائماَ ما تبقى مثالاُ يحتذى من النصوص القصصية القصيرة .
نقرأ هذه النصوص بإمعان و تذوّق ، و الشعور بلذة اكتشاف المخبوء من الكنوز ثم احتفالية الخاتمة ، القفلة . و شعور المتلقي الفطن : إنه مغامر و مكتشف و مساهم في البعد التأويلي للنص ، فيكرر قراءاته مرات عديدة و بلذة المكتشف ، للمضمون الابداعي . وما اكتنز من خفايا من لِقَط النص .
فكما هو معروف ـ و حسب ذكاء المؤلف ـ يوفر ( قراءتين ) في سبره . قراءة سطحية ، و أخرى عميقة متحرية .
فالثاني مكتشف و متحرٍ ، و الأول يقرأ للمتعة و تقضية الوقت . عاجزاً عن مغامرة الاكتشاف .
بيد إن صاحب مشروع النص هذا ..ينبغي ألا يبخل على المتلقي البسيط لتوفير فرصة للمتعة ، بجمالية السرد و الحدث الممتع .
من ناحية اخرى يكون المتلقي الآخرـ الفطن ـ رائد و مغامراً لاكتشاف المخبوء في عمق النص. والبحث عن كنوزه الغائرة في المحتوى .
هذا يوفر للمتلقي ـ الذي أسميناه بالفطن ـ فرصة عظيمة ، لاكتشاف البعد التأويلي للنص .
و قد يتوفر لهذا المغامر ، اكتشاف ما خفي ـ حتى ـ عن ادراك المؤلف نفسه في أعماق نصه .
فالمؤلف يُعبّد دروباً غير سالكة ـ يكتنفها الغموض ـ لأمثاله من المغامرين في رحلة اكتشاف لحل العقدة . في رحلة ممتعة جداً , و بالتالي هي مغامرة للاحتفال: ببلوغ لَبِّ اللذة في اكتشاف المكنون ، أو اللقية الثمينة ، التي عتم عليها المؤلف ـ عمداً ـ حتى تأتي الفرصة المناسبة .
للأسف هذا المنطلق ، لا يدرك دروبه و أبعاده الكثير من كتاب القصة القصيرة فيقعون في ( متاهات ، فراغ قلب النص و لا يدركون جنايتهم لطرح قصة بلا محتوى ، و مضيّعة للوقت. إن سحر القصة الناجحة هو امتلاؤها بإغناء العمق .
فأنت كمتلق لا تروقك المغامرة لاستنزاف وقتك في قراءة غير مجدية و تتمنى أن ينتهي الوقت لتلقي بها جانباً .
فالأديب المتميز ، المبدع : هو من يقوم بالتأسيس لبناء غير منظور المعالم، و بمسؤولية تحتمها عزة النص ، وعزة سمعة الكاتب . و الحرص على كسب القارئ الواعي . وصولاً إلى نجاح النص في تحقيق رحلته الابداعية .
و أبداعه يجيئ من خلال العثور على لقى قيمة ، يستطيع بموجبها أن يكسب للنص المقروء فرص ـ اكتشافات ـ تذهل حتى المؤلف . فالقارئ الفطن ، هو أيضاً يعطي النص روحاً إضافية ، ليوفر وعياً تأويلياً قد لا يسبقه غيره له . و كما ذكرنا.. قد تفاجئ حتى كاتب النص .و هذا يعتمد على رزانة المنجز .
للأسف يقع بعض القاصين في متاهات غير مجدية ليكون فيها النص (برميلاً) أجوفاً بلا محتوى ، باعثاً للملل .