التوقيت الدلالي والاحتمالات المتروكة في القصة القصيرة جدا
بحث في مرحلة ما قبل الكتابة
قصة بردا وسلاما للقاص Yaser Aboajeebإنموذجا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل تعريف التوقيت الدلالي ثمة مرحلة تسبقه وهي المتخيل والمتخيل هو حاضنة تعمل بوجهين
الأول هو احتفاظها بالواقع من حيث مادته الأولية ومن ثم تقوم في وجهها الثاني بتغييره او تشكيله تشكيلا جديدا وتطويره اذن هو متخيل تجاوزي يطرح الواقع (إمكانا أو افتراضا أو احتمالا) فهذا الواقع محصلة وليس معطى محصلة تجشم النص كشف بناها وانساقها
وهو غير مسؤول عن تعضيدها أو الغائها بل هو يحمل مهمة أخطر من ان يتبنى او يرفض عبر مؤشراته أنه يقوم بزعزعة مرجعيات الواقع في بناء مواز من الإمكان والافتراض والاحتمال كي يهب اكتشافات اخر من المعرفة في الفهم
التجربة الذهنية هي الوجود الذهني لمنتجات التخيل مجردا ومحايدا دون أي قالب لفظي لكن الإرادة الاستعمالية تتولد بذات اللحظة ليتنزل هذا الوجود الذهني الى وجود لغوي وهذا الوجود اللغوي ليس هو قوالب الفاظ تشير الى المفردة كذات مفردة بل تشير الى محمولها الذي حفزه التدليل ضمن سياق التركيب
القصة هي (فكرة + احداث + شخصيات + أدوات) تأتي الفكرة من المتراكم الموسوعي للذات الكاتبة لكنها تأتي بعدة محتملات تتنازع التصدر لكي تمثل في وجه مشخص واحد تاركة بقية الأوجه في المؤجل أو المتروك والذي من المؤكد أن لديه القدرة أن يأتي بنسخة ثانية وثالثة ورابعة للحدث والمغزى لكنه يذهب هدرا للأسباب التالية
1- طبيعة بناء القصة القصيرة جدا (بنية علاماتية/ إشارية / رمزية / ايحائية) وهذه البنى لا تعنى بنمو الحدث ولا الشخصية الا بمقدار التحفيز والتحريض التأويلي فهي بنى تأويلية أي بنى(تلقي) متلفعة بمثيرات
2- جملها مكيفة لبناء شيفرة تنتظم لتفجير ذروة موحدة
3- تعمل القصة القصيرة جدا في حقيقتها على تنميط ذاكرة الحدث في موجه لا تنميط الحدث ذاته لذلك فان الحجم الدلالي هو بناء ذاكرة لا إحالة على ذاكرة
اذن التوقيت الدلالي هو شروع القصة ببناء مركزيات تتظافر للحصول على قص موجز يحاول ان يتجنب أكبر قدر من الخسارات الدلالية ويحافظ على مشهدية مقنعة تستقطب الفائض المتروك بفعل اكراهات اللغة وطبيعة النوع السردي
ان الفائض المتروك قد يبنى في مناسبات لاحقة وتجارب تبقى ملحة ابداعيا للمعاودة على الظهور في كسب فرصتها وقد يبنى في بؤر تأويلية يقوم المتلقي فيها بالإزاحة والاحلال
لنطالع القصة التالية للقاص ياسر أبو عجيب
بردا وسلاما
شاهدتُهم يلقون جثّتي في النّار؛ رغم أنّي
ذكر ُت لهم الأسماء َ الحسنى جميعها،
لم يعلموا أنّي خدعتُهم، وأن جسدي
المحترق كان باسم مستعار
نلاحظ التوقيتات التالية
1- قام العنوان بمهمة التناص في محاولة لإستيعاب الحادثة في نمو استباقي وحصر ذهن المتلقي في باقة موجهاتها
المحكي (شاهدتُهم يلقون جثّتي في النّار) لعبت على فكرة انفصال الشاهد عن المشهود في حين انه واحد وكونه واحد سينتج أفكارا أخرى تركت لصالح بروز المحكي (رغم أنّي
ذكر ُت لهم الأسماء َ الحسنى جميعها) فهذا المحكي مهيمن على ذهن الكاتب لكونه موسوعة اضمارية كبرى جعلته يضحي بفكرة ان الشاهد والمشهود واحد ويفضل انفكاكه ومما يشي بتأكيد ذلك عودة المفارقة لأشباع هذا المعنى (وأن جسدي المحترق كان باسم مستعار)
المحكي (لم يعلموا أنّي خدعتُهم) تفرغ التناص من ذاكرته لتقوم ببناء موجهات تحيل القصة من بنية معنى الى بنية تلقي وفق المحكي (وأن جسدي المحترق كان باسم مستعار) ولا يخفى كم تحمل هذا التركيب من الجهد البلاغي لملاحقة المحتملات التركيبية الغائبة او التي تحوم حول تمثيل الفكرة (بردا وسلاما) لكنها بقيت متروكة
حيدر الأديب