قراءةنقدية: “القصيدة ونيران غزّة”
القصيدة(مطلعها) :(” عيد بأية غزوة عدت ياعيد” نموذجا”)
الشاعر:كمال الدريدي(تونس)
الناقدة: جليلة المازني(تونس)
المقدمة:
بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك تحرّكت في نفس الشاعر كمال الدريدي مشاعر الوجع والألم على أهل غزّة الذين هم في هذا اليوم في تعاسة وشقاء لما ألحق بهم من دمار شامل من الكيان الصهيوني الذي آل على نفسه ألاّ يبقي ولا يذر ديّارا بقطاع غزة فقد ارتكب الاحتلال الصهيوني لليوم 187من عدوانه على غزّة مجازر عديدة بحق المدنيين ما أدّى الى سقوط المزيد من الشهداء والجرحى(1)
القراءة النقدية:القصيدة ونيران غزة:
1- الهجاء السياسي(آل صهيون والحكام العرب الخائنون للقضية الفلسطينية)
لقد وردت القصيدة بلا عنوان رغم أن العنوان يحمل قيمة دلالية تعين على الكشف عن طبيعة النص وتسهم في فك غموضه ..ان العنوان محتوى مصغر للنص فهو يشكل سلطة النص وواجهته الاعلامية.
فالعنوان عتبة تتصدّر العمل الادبي على صعيد التلقي البصري والايحاء الذهني السيميائي.ان العنوان بنية مختزلة شديدة الاقتصاد لغويا .
وكأن الشاعر لم يشأ للمتلقي أن يحمل فكرة مسبقة لمحتوى القصيدة من خلال عتبة العنوان بل لعله اراد ان يفتح أمامه باب التأويل أكثر.
لقد زاوج الشاعر في قصيدته بين النثر والايقاع وبين بحرين(المتقارب والبسيط).
وباستخدام البحر البسيط جعل القصيدة تتناصّ مع وزن قصيدة المتنبي وقافيتها وهذا ما يجعلها معارضة شعرية لقصيدة المتنبي(العيد).
والمعارضة في الشعر (حسب الناقد المصري أحمد الشايب )هو” أن يقول شاعر قصيدة في موضوع ما من أي بحر وقافية فيأتي شاعر آخرفيعجب بهذه القصيدة لجانبها الفني وصياغتها الممتازة فيقول قصيدة من بحر الاولى وقافيتها وفي موضوعهاأومع انحراف عنه يسير أو كثير”.
لقد استهل الشاعر قصيدته باستفهام لتجسيد الانفعالات الوجدانية التي تمور في نفسه لكثرة الغزوات التي تتالت على غزّة.
يقول:عيد بأية غزوة عدت ياعيد؟/
بأم الابطال غزة؟
أم بالدافنات الرضع وقلوبهم حديد؟.
انه استفهام يخفي وجعه وألمه من كثرة الغزوات التي تدمّر قطاع غزّة.
لذلك اختار لغزة اسم “أم الأبطال” وهو كناية على انها مربية وصانعة الابطال وبانية الاجيال يقول الاختصاصي الاجتماعي مدير جمعية العفاف الخيرية مفيد سرحان “ان الأم في غزة هي التي حملت على عاتقها تربية جيل المقاومة والتحرير وهي عنوان الصمود وصانعة الصبر…وهي أم الابطال والشهيدة وأم الشهيد والأسيرة وأم الأسير والجريحة وأم الجريح…وتدفن زوجها وابناءها وهي تردّد الحمد لله كلنا فداء فلسطين”(2)
وأبطال حرب غزة كثيرون وهم ال 2,2 مليون امرأة ورجل وشاب وطفل من أهل القطاع.
ان الشاعريقابل بين غزة التي هي حضن عنيد وبين العربان الذين خُلقوا بدم الخذلان للقضية الفلسطينية .
ان الشاعر يتعاطف مع أهل غزة معتبرا اياهم أحبّة وهو في ذلك يتناصّ مع قول المتنبي( أما الأحبة فالبيداء دونهم فيا ليت دونك بيدا دونها بيد) وشاعرنا يقول : أما الاحبة فالحدود دونهم…
ميت من عاش عنهم بعيد
والشاعر أولى أهمية للمتلقي بترك تلك الفجوة النصية (الثلاث نقاط) لمنحه حق التأويل ولعل المتلقي يستحضر عجُز بيت المتنبي ويُكيّفه قائلا:
“فيا ليت دونك حدودا دونها حدود”
وكأني بالشاعر يمزج بين الرثاء والهجاء حين يقول:
ما بال الصادقين الموت يطلبهم عنيد
وغيرهم من الاوباش يراهم فيفرّ منهم بعيد
انها مفارقة عجيبة لا تخفي وجع الشاعر بل وتهكّمه بالجمع بين المدح والذم وبين الرثاء والهجاء..
انها مقابلة لها دلالتها المعنوية فبقدْر ما يتعاطف مع “الصادقين” بقدر ما هو ساخط على “الاوباش”دون تصريح بأسمائهم وهو نوع من التقية عند بعض الشعراء العرب. والتقية هي تحفظ على الرأي المخالف من ظالم.
وأكثر من ذلك فالموت هو مصدرسعادة الشهيد بل هو عيده وبالتالي فالموت حياة وهذا المعنى يتناصّ مع الآية القرآنية 169 من سورة آل عمران(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).
يقول الشاعر:للموت فرحة اذا قدم الشهيد
يعانقه يقبله ذاك عنده هو العيدُ
ينام الغزوي في قبره فرحا
يُرزق كل الطيبات فهو سعيدُ
باع دنياه والثمن عند الله يزيد
ان الشاعرلا يندد بالعدوان الصهيوني فحسب بل يندّد بخذلان الساسة دون استثناء(العربي/القومي/ الاخواني/اليساري/ الديمقراطي) للقضية الفلسطينية
انه الهجاء السياسي للحاكم بكل تياراته والذي يتظاهر بالتنديد وبالصراخ ولكنه “ديوث عربيدُ”
و”الهجاء السياسي هو نوع بارز من الهجاء وهو يقوم بالترفيه للناس من خلال السياسة ..الهجاء السياسي عادة ما يكون ظاهرا عند الاحتجاج السياسي او المعارضة السياسية .ليس بالضرورة أن هذا النوع من الهجاء يحاول تقديم
أجندة سياسية ولكنه أحيانا قديكون كذلك بالفعل(هجاء سياسي – ويكيبيديا)
ولعل هذا مايجعل القصيدة تنحُو نحو “أدب الهجاء السياسي”
وأدب الهجاء السياسي أصعب أنواع الادب..يسقط عنه من لم يمتلك طبيعة ساخرة .
والشاعر قد أضمر هذه الطبيعة الساخرة في قوله: وحاكمنا…
يندد… يصرخ ديوث عربيد فالحاكم ظاهريا يندد ويصرخ ضد آل صهيون بسبب الدمار الذي يلحقه بقطاع غزة وباطنيا هو ديوث عربيد.
والديوث هو الذي لا يغار على أهله ولا يخجل.
ثلاثة قد حرم عليهم الله الجنة:مُدمن الخمر/العاقّ/الديوث.(حديث)
ان كلام الشاعر مشحون بالتهكم والسخرية من نفاق الحاكم وعربدته التي تجرّده من عقله وعقلانيته.
ومن أشهر شعراء الهجاء السياسي ابراهيم طوقان/نزار قباني/تميم البرغوثي/مظفر النواب..
2- التناص والابداع في القصيدة:
أ- التناصّ:
يُمكن القول بأن التناصّ الذي يجمع بين القصيدتين يشمل الموضوع والمعاني والوزن والقافية وصيغ التعبير معا…يقتبس الشاعر كمال الدريدي مفردات ومعاني وهذه الاقتباسات تثبت العلاقة بين القصيدتين.
لقد جمع بين القصيدتين:
+ البحر البسيط والقافية الدالية.
+المفردات(عيد باية…عدت يا عيد/ اما الاحبة /كافور/الخيل والليل والبيداء/ عبدالسوء/سيّده/عبيد/اسياد/العبيد..).
+ الموضوع (الهجاء/التهكم/ السخرية/ /الخطاب الحجاجي /ثنائية الحضوروالغياب/ الرمزية..)
+الاسلوب الاستفهامي في مطلع القصيدتين لتجسيد الانفعالات الوجدانية التي تمور في نفس الشاعرين.
+ ثنائية الحضور والغياب:
– الحضور السياقي للاخر الذي يتحول الى طرف مشارك هيئة انا وانت…
يقول الشاعر:عيد باية غزوة عدت ياعيد؟
لولا الهوى ما قلت انك للجبارين حصن مجيد
يقول المتنبي:عيد باية حال عدت يا عيد
بما مضى ام لامر فيك تجديد.
لا تشتر العبد الا والعصا معه
ان العبيد لأنجاس مناكيد
ان استخدام ضمير المتكلم والمخاطب المفرد قد يثير فضول القارئ وسلطته في التأويل.
– الغياب السياقي وثقله الدلالي:
يقول الشاعر كمال الدريدي:
ينام الغزوي في قبره
باع دنياه والثمن يزيد
وحاكمنا(…)
يندد..يصرخ ديوث عربيد.
وبالسجن أبطال عيدهم تعب وتنهيد
كافور على الكرسي سعيد
لقداستخدم الشاعر: ضمير الغائب للتلميح دون التصريح.
الرمزية :لقد رمز للسياسي الفاشل وغير المكترث لامر شعبه بكافور الاخشيدي رمز الانتهازية والوصولية والظلم.
يقول المتنبي: صار الخصي امام الآبقين بها//فالحرّ مستعبد والعبد معبود
جوعان يأكل من لحمي ويمسكني//حتى يقال عظيم القدر مقصود
لم يذكرالمتنبي كافورا ولم يوجّه اليه الخطاب لأن نسق الغياب يساعده في اضفاء لون من التعتيم على النص حتى لا تصل المعاني الهجائية اللاذعة الى كافور على نحو مباشرلان التلميح بالهجاء أغنى دلالة من التصريح به
==== يتبع====
والسؤال الذي يخالج أذهاننا :هل يتنافى الابداع مع التناص؟
ب- الابداع في قصيدة الشاعر كمال الدريدي:
* فضل الموضوعية على الذاتية:
لئن نظم المتنبي قصيدته هجاء لكافور الاخشيدي حاكم مصر لانه لم يقض منه وطرا في نيْل السلطة في عيد الاضحى(يقول المتنبي:جود الرجال من الأيدي وجودهم // من اللسان فلا كانوا ولا جود)(والجود يقصد به نيل السلطة).
فان شاعرنا كتب قصيدته في عيد الفطر لهجاء الكيان الصهيوني وما ألحقه بقطاع غزة من دمار شامل للحجر والبشروكذلك هجاؤه للحكام العرب بكل شرائحهم وبظلمهم الفاحش وخيانتهم للقضية الفلسطينية.
وبالتالي فان فضل شاعرنا على المتنبي هو فضل الموضوعية على الذاتية.
فلئن كان المتنبي يسرّ حزنه على حاله وما لقيه من أذى من كافور الاخشيدي فشاعرنا يسرّ الحزن والوجع لما يلحق غزة من غزوات مدمّرة لا تبقي ولا تذر.
وبذلك خرج الشاعر كمال الدريدي بقصيدته من الهجاء كغرض ذاتي وشخصي(المتنبي) الى الهجاء السياسي وبذلك نحا بقصيدته منحى أدب الهجاء السياسي فأكسب قصيدته سمة الشمولية و العالمية.
وأكثر من ذلك فقد جمع خذلان الحكام العرب بظلمهم الفاحش وقهرهم.
*المراوحة بين النثر والايقاع واختيارالبحر البسيط:
لقد راوح الشاعر في قصيدته بين النثر والايقاع ولعل الايقاع قد طغى وهذه المراوحة بين النثر والايقاع دعمها الشاعر باختيار البحر البسيط مزدوج التفعيلة(مستفعلن فاعلن…) وازدواج التفعيلة مع ازدواج النثر والايقاع هما متنفس للشاعر عند احساسه بالوجع والألم لغزة الجريحة والشهيدة ومن ناحية أخرى ان ازدواج التفعيلة قد يزيد وجعه حين يصبح الوجع وجعين:وجع بطعم مستفعلن ووجع بطعم فاعلن.انه وجع مزدوج ازدواج العدوان على غزة من آل صهيون ومن الحكام العرب الخائنين للقضية الفلسطينية.
*الاغراض الشعرية والخطاب الحجاجي:
لقد جمع الشاعر في قصيدته جل الاغراض الشعرية:
-المدح:”لولا الهوى ما قلت انك للجبارين حصن عتيد”
أما الأحبة فالحدود دونهم”
– الرثاء: “ما بال الصادقين الموت يطلبهم عنيد”
– الهجاء:”والعربان خذلان خلقهم ذاك في دمهم تليد”
“وحاكمنا العربي-القومي-الاخواني-اليساري-الديمقراطي”
“يندّد يصرخ ديوث عربيد”
“حاكمنا رجل أمام المظلومين عتيد”
“يسجن ظلما أبطال وراء القضبان يومهم تعب وتنهيد..”
– الفخر:للموت فرحة اذا قدم الشهيد
يعانقه يقبله ذاك عنده هو العيد
يرزق كل الطيبات فهو سعيد
باع دنياه والثمن عند الله يزيد
ان الجمع بين كل هذه الأغراض الشعرية المتنوّعة هي في خدمة الخطاب الحجاجي للتأثير على ذهن المتلقي.
انه خطاب حجاجي تميّز به الشاعر كمال الدريدي عن المتنبي وهو خطاب يثير فضول المتلقي وقد يربكه في التأويل من خلال المقاطع النصية والذخيرة النصية
وفي ارباكه متعة في اختلاف التأويل.
*المعجمية:
استخدم الشاعر معجمية دينية متسقة ومنسجمة مع انتصاره لغزة ولفلسطين أرض الأنبياء والارض المقدسة:
يقول الشاعر:باع دنياه والثمن يزيد
ورجل الحمى…
كل النوازل على قلبه تميل
مخضب بالدماء حبله بالله شديد
لقد استخدم الشاعر معجمية ذات معاني دينية:
– الشهيد “باع دنياه” من أجل آخرته وهذا معنى ديني(الدنيا والآخرة)
– يتحمل رجل الحمى “النوازل” نصرة للدين وقد عرّف ابن منظور النازلة باعتبارها”الشدّة من شدائد الدهر تنزل في الناس” والمؤمن وحده يتحلّى بالصبر لتحمّلها.
– “حبْله بالله شديد” :وحبل الله هو القرآن وقيل دين الله او عهده وهذا استنادا للآية 103 من سورة آل عمران”واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا”
يتفق جمهور المفسرين حسب الآية الكريمةعلى ان القرآن الكريم هو “حبل الله” وهذا أحد أسمائه .
ويقول الرسول عن القرآن انه”حبل الله المتين وهو الصراط المستقيم”.
ان الشاعر استخدم هذه المعجمية الدينية ايمانا منه بان الله قادر على نصر غزّة
قناعة منه بالآية 160 من آل عمران”أن ينصركم الله فلا غالب لكم”.
* زواج الشعري مع التشكيلي :ان الشاعريُتيح للقارئ رسم لوحة تشكيلية لغزة الجريحة والشهيدة والاطراف التي تنهشها نهشا وتشعل فيها النيران بلا رحمة:
– تكون غزة في وسط اللوحة .
– على يسارها رمز الكيان الصهيرني.
-على يمينها الحكام العرب .
– في سمائها حمائم بيض ترفرف(الشهداء)
– تحت أقدامها سجون للأسرى والمظلومين.
– استخدام الالوان :الاحمر(دم الشهداء) /الاسود(الظلم) /الابيض (خلود الشهداء)/الرمادي(نفاق الحكام العرب بكل شرائحهم).
ان اللوحةالتشكيلية بما هي ابداع بصري حسي لها الخصائص التالية (3):
1-التركيب :ترتيب العناصر داخل اللوحة لخلق الانسجام والتوازن(غزة/الكيان الصهيوني/الحكام العرب/حمائم ترفرف/سجون)
2- اللون:استخدام الالوان للتعبير عن الحالة المزاجية أو اثارة المشاعر/أوخلق التباين (الاحمر /الاسود / الابيض /الرمادي)
3-الضوء:استخدام الضوء والظل لخلق العمق والحجم.
4-الملمس:جودة سطح اللوحة.
5-الشكل:التمثيل ثلاثي الابعاد.
6-المنظور:التمثيل الدقيق للوحة(يمين /يسار/فوق/تحت).
7-العاطفة:قدرة اللوحة على اثارة المشاعرلدى المشاهد(الألم/الحزن/الفخر/السخرية ..)
8-المفهوم: الرسالة وراء اللوحة(العدوان بشتى أنواعه على غزة)
9-التقنية:مهارة الفنان في تطبيق الطلاء .
10-الابداع: القدرة على انتاج شيء جديد ومبتكر.
وبهكذا خيال ابداعي يكون الشاعر كمال الدريدي قد زاوج في قصيدته بين الشعري والتشكيلي وما في ذلك من ابتكار وتجديد.
الخاتمة:
ان الشاعر كمال الدريدي قد استطاع من خلال قصيدته كمعارضة لقصيد المتنبي أن يبدع حين يزاوج بين الجنس الادبي(الشعري) والجنس الفني(التشكيلي) ويراوح بين النثر والايقاع داعما ذلك باختيارالبحرالبسيط مزدوج التفعيلة و حين يعاقر جلّ الأغراض الشعرية ويعانق أدب الهجاء السياسي بل ويرتقي بقصيدته الى الانسانية انتصارا لغزة الجريحة والشهيدة.
أشدّ على ابداع الشاعر كمال الدريدي وقلمه الثائر والمتمرّد والذي وسم القصيدة بالتميّز.
بتاريخ: 13/04/2024
المراجع:
https://www.aljazeera.net>lveblog(1)
الحرب على غزة مباشر…مجازر جديدة للاحتلال..
https://assabeel.net>news>..(2)
سرحان: الأم في غزة صانعة الابطال وعنوان الصمود 21/03/2024
؟ https://www.ejaba.com>question(3)
ماهي أهم خصائص اللوحات الفنية الناجحة؟