العقل Mind ..
د.علي أحمد جديد
يمكن تعريف (العقل) بأنه مجموعة قوى الإنسان الإدراكية التي تضم (الوعي ، المعرفة ، التفكير ، المحاكمة ، اللغة .. والذاكرة) . ويمكن القول أيضاً بأن (العقل) هو مَلَكَةٌ فكرية وإدراكية ، لأن (العقل) يملك القدرة على التخيّل والتمييز ، وهو المسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات ، ويفرض اتخاذ المواقف والأفعال . وهناك جدل في الفلسفة ، وفي الدين ، وفي العلوم الاستكشافية حول ماهية (العقل) وتوصيفه ، إذْ أن الدماغ هو الجزء المادي والعضو المسؤول عن العمليات الحيوية في جسم الإنسان ، يتلقى أوامره من (العقل) الذي هو الجزء المعنوي والإدراكي .
وتتضمن الأسئلة حول طبيعة (العقل) وحقيقته ، أو مسألة (العقل – الجسد) البحث في العلاقة ما بين (العقل) ومابين الدماغ المادي الذي هو أساس الجهاز العصبي . كما تضمنت وجهات النظر النزعات المثالية التي تعتبر (العقل) شيئاً معنوياً ، بينما يدّعي البعض بأن (العقل) هو نفسه الدماغ ، أو يمكن اختزال ماهيته بالظواهر الفيزيائية مثل النشاط العصبي . وعلى الرغم من استمرار بحوث المذاهب المثالية عند الكثير من المؤيدين يبقى هناك تساؤل حول أي الأنواع قادرة على امتلاك عقل ، وفيما إذا كان العقل مَلَكَةٌ حصرية للمخلوقات البشرية ، أم تملكه أنوع أخرى من المخلوقات كالحيوانات مثلاً . وكذلك القول بأن (العقل) خاصية محددة بصورته المطلقة ، أو أنه في ماهية وجوده يشكّل خاصية لبعض أنواع الآلات التي صنعها الإنسان مثل الحاسوب مثلاً .
ومهما كانت طبيعة (العقل) فمن المتفق عليه أن (العقل) هو ما يجعل صاحبه يتميز بامتلاك وعي ذاتي نحو بيئته ، فيفهم ويستجيب للإيعازات بنوع من الوساطة ، لأنه يمتلك وعياً واضحاً ، يتضمن التفكير والشعور .
إن فكرة (العقل) ومن خلال الثقافات والديانات المختلفة ، يراها البعض مَلَكَةً خاصة بالبشر ، في حين ينسب آخرون صفات (العقل) إلى الكيانات غير الحيّة والتي لايمكن لمسها إلا باشعور الداخلي (الروحية الشاملة والروحانية) . إذ أن ربط الأشكال الحيوانية بالآلهة هو أحد أقدم التخمينات المسجلة في ربط العقل (والذي يوصف في بعض الأحيان على أنه الروح) بنظريات متعلقة بالحياة ما بعد الموت ، وبالنظام الكوني والطبيعي .
وهناك من يصف (العقل) على أنه الوظائف العليا للدماغ البشري ، وخاصة تلك الوظائف التي يكون فيها الإنسان واعياً لِما تتشكَّل منه شخصيته (التفكير ، الذاكرة ، الذكاء) و حتى الانفعال العاطفي الذي يَعدُّه البعض من وظائف العقل أيضاً رغم وجود فصائل حيوانية أخرى تمتلك بعضاً من العقلانية ، إلا أن مصطلح (العقل) لايُقصَدُ به سوى مايتعلق بالبشر فقط . كما أنه يُستعمَل أيضاً في وصف القوى الخارقة غير البشرية .
وقد عمدت الدراسات ، تاريخياً ، منذ زمن الفلسفة الإغريقية (أفلاطون وأرسطو) إلى البحث
بتركيبة (العقل) ، وفي كيفية عمله ، والتي تعود فيه تلك الدراسات إلى ماقبل نظريات (اللاهوت) أوالفكر الديني والتي كانت تركِّز على العلاقة بين (العقل) وبين الروح أو (الجوهر الإلهي المفترَض للتكوين الإنساني) . أما النظريات العلمية الحديثة فإنها باتت تعتبر (العقل) ظاهرة متعلقة بعلم النفس ، لأن مصطلح (العقل) يُستخدَم بترادفٍ دائم مع مصطلح (الوعي) ، ويرى العلماء أن وظائف الدماغ العليا (التفكير والذاكرة) وحدها هي التي تُكوِّن (العقل) بينما الوظائف الاخرى مثل (الحب والكره والفرح والحزن والألم) تكون “بدائية و شخصية” ، وبالتالي فإنها لاعلاقة لها في تكوين (العقل) . كما يرفض آخرون هذا الطرح ويرون أن الجوانب (العقلانية والعاطفية) هي من أساس العقل الإنساني ولا يمكن فصلها ، ويجب أن تُؤخذَ كل هذه المكوّنات كوحدةٍ واحدةٍ في توصيف (العقل) وفي تعريفه ، وذلك مايفسّره وجود الحوار الداخلي (المونولوج) مع النفس .
وكان من أهم مساندي الرؤية الجوهرية (جورج بيركلي) في القرن الثامن العشر الميلادي ، الذي كان فيلسوفا واسقفا انجليكانيا ، حيث ادّعى (بيركلي) أنه لاوجود لشيئ اسمه “المادة” على الاطلاق ، و ما يراه البشر و يعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو أن يكون سوى فكرة في عقل الربّ ، وأن (العقل البشري) لا يعدو أن يكون بياناً للروح . وقلّة من فلاسفة اليوم يمتلكون هذه الرؤية المتطرفة ، لكن فكرة أن (العقل) الانساني ، هو جوهر ، وأكثر علوّاً و رقيّاً من مجرد “وظائف دماغية” ، فإنها مقبولة وبشكلٍ واسع .
وقد هوجمت آراء (بيركلي) ، ونُسِفَت بشكلٍ كلّي في نظر الكثيرين ، مثل (توماس هنري هكسلي) ، و هو عالم الأحياء و تلميذ (داروين) من القرن التاسع عشر الميلادي ، حيث يوافق (هكسلي) على أن ظاهرة (العقل) مميزة في طبيعتها ، ولا يمكن فهمها إلا من خلال علاقتها بالدماغ . وسار (هكسلي) وراء الفكر المادي البريطاني يعود إلى (توماس هوبز) ، باعتقاد أن الفعاليات العقلية كلها عبارة عن عمليات فيزيائية في حقيقتها ، رغم ان المعلومات الاحيائية – التشريحية في عصره ، لم تدعم مقولته أو توضّح الأساس الفيزيائي لهذه الفعاليات العقلية . وقد جمع (هكسلي) بين (هوبز و داروين) ليقدّم رؤيةً حديثة ( بمقاييس عصره) للرؤية الوظيفية أو المادية في الدماغ .
وقد تمَّ دعم آراء (هكسلي) بالتقدم المستمر للمعارف الاحيائية في وظائف الدماغ ، و جوبِهَ مذهب (هكسلي) العقلاني هذا ، في اوئل القرن العشرين ورُفِضَ من قِبَل (سيغموند فرويد) الذي طوَّر نظرية (العقل اللاواعي و العقل الباطن ) ، حين ذهب إلى أن العمليات العقلية التي يؤديها الفرد بوعيه لاتُشكّل إلا جزءاً بسيطاً جداً من الفعالية العقلية التي يؤديها الدماغ وصارت (الفرويدية) ، بمعنى ما ، إحياءً للمذهب الجوهري في تكوين (العقل) . ولم ينكر (فرويد) بأن (العقل) هو وظيفة دماغية لكنه يرى بأن العقل كعقل يملك عقلاً خاصاً به ، لكننا لسنا واعين به ، ولا يمكن التحكم به ، كما لا يمكن الدخول إليه إلا عن طريق التحليل النفسي وعبر تحليل الأحلام . ورغم أن نظرية (سيغموند فرويد) في العقل اللاواعي مستحيل إثباتها تجريبياً ، إلا أنها لاقت قبولاً بشكل واسع ، وكان لها التأثير الكبير على الفهم الشعبي الرائج حول ماهية (العقل) وتركيبته . وفي العام 1979.م كان اعتبار (العقل) عند (دوغلاس هوفستداتر) ظاهرة إحيائية و سيبيرنيطيقية تبزغ من الشبكة العصبية للدماغ أساس نشوء مفهوم (الذكاء الاصطناعي) وأثّرَ كثيراً في مفهوم (العقل) وفي الجدل حوله ، لأنه لو كان العقل منفصلاً عن الدماغ ، أو أنه أعلى منه ، لما استطاعت أي آلة مهما بلغ تعقيدها ، أن تشكِّلَ عقلاً ، ومن جانب آخر ، لو كان العقل مجرد تراكم للوظائف الدماغية ، لصار من الممكن -و لو نظريا- تكوين آلة مع عقل مستقل .
إن الدراسات الحديثة التي تبحث في مفهوم (العقل) اليوم ، تربط بين دراسة (الشبكات العصبية) وبين (علم النفس ، علم الاحياء الخلوي و الجزيئي ،علم الاجتماع ، تاريخ العلم ، و الألسنية) للوصول إلى حقيقة (العقل) في ماهية تكوينه وفي حقيقته ، ومايزال البحث مستمراً ودون توقف .
المراجع :
– مجلة (نيو ساينست) .
– علم النفس : (توماس هنري هكسلي) .
– تفسير الأحلام : (سيغموند فرويد) .