قراءة بعنوان ( الهدوء في الريف المصري)
في المجموعة القصصية (الديوك ملة واحدة)
الصادرة عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع
للأديب/ مجدي شعيشع
بقلمي.. محمد كامل حامد
عنوان المجموعة رائع ومثير ويلفت الإنتباه إلى الجو العام والبيئة الريفية التي هيمنت على غالبية القصص، وهو عنوان القصة الرئيسية بالمجموعة والتي تحمل طابعًا مغايرا نوعا ما عن باقي قصص المجموعة، فناقش الكاتب من خلالها قضية اختلاف البيئات والثقافات، برمزية عالية أبرز لنا الفارق بين الطباع الشرقية والغربية حينما يتم اندماجها في عالم واحد وتفرض الظروف عليهم التواصل والتعايش فيما بينهم، وما يسود في العالم الشرقي من حرمان، ربما يتحول إلى اسراف في تغذية المشاعر والتعبير عن الرغبة في إفراغ الشهوات حينما يتم التعامل مع العالم الغربي غير العربي، وصف عالم الطيور غارقًا في تفاصيله الدقيقة وما بينه وبين عالم الإنسان من تشابه، لكن الفارق بينهما كان هذه الطبيعة الحيوانية التي تقود سلوك الطيور دون ضابط.
افتتح أديبنا مجموعته القصصية بقصة ” الطهور” وهي قصة في غاية القسوة، تبين ملامح الريف في تعامله مع مسألة ختان الذكور خاصة أذا تم الأمر في مرحلة عمرية متأخرة؛ ليصبح في أبشع صوره فيترك ألام نفسية قد لا تمحى حتى مع مرور الزمن، الأمر الذي يجعلنا ندين هذا المجتمع بجبروته وقسوته واستهانته بالمشاعر الإنسانية والألام النفسية، وجسد الكاتب هذا الأثر النفسي العميق بسرد مشوق وواقعي إلى حد كبير؛ فصور لنا محاولات هروب الصبي من مثل هذه المقصلة المرعبة، لكن محاولاته البائسة باءت بالفشل؛ فيصف لنا الكاتب بسرده المؤثر تلك اللحظات العصيبة حتى تتم العملية؛ لتنتهي القصة بتعبيره عن مدى هذا الجرح في نفسه واهتمام الآخرين فقط بما دفع كنقوط تم أخذه في النهاية، وقد سبقته بعض الكتابات الأدبية التي عبرت عن هذه الحالة المؤلمة منها رواية الأديب الراحل محمد مستجاب، التي تناولت ذات الموضوع بطريقة مغايرة.
ارتبطت غالبية القصص ببيئة مكانية واحدة، بيئة الريف المصري ببساطته وأصالته، استخدم الكاتب في كثير من القصص مفردات هذه البيئة من شجر، نخيل، ثمار، عجل، دوار العمدة، حبل، جاموسة وغيرها من الكلمات؛
ليغوص في ذاكرته منتجًا لنا هذا الانسجام المكاني والزماني؛ فيتعمق في القرية مصدر الإبداع والإلهام لدي الكثير من الأدباء؛ فيعرض الكثير من النماذج المهمشة والذي لا يكاد يشعر بها وبصوتها الكثيرين من أبناء المدينة الصاخبة، كذلك أفاض أديبنا في وصف القرية المصرية التي أثرت فيه؛ فوصفها بالجمال والهدوء والسكون وأهلها بالطيبة والاستسلام إلى حد كبير، أحيانا يصل الهدوء في القرية إلى درجة كبيرة من الخوف، وهذا
كما جاء على لسان البطل في “قصة الطهور”
“أرسلتني الرياح لعزبة” البيه” المخيفة في عز النهار، غابات استوائية موحشة، تمتلئ بالخرافات، عن شجرة الجميز، وحكايات الجنية التي تسكنها تشتت عقلي المتشبع بقصصها، وهي الملاذ الوحيد للاختباء، تتقطع أنفاسي كلما اقتربت منها، أتلمس جذعها العريض في رعب وحذر، كمن يختبر وجود كهرباء في سلكٍ عارٍ…. “، كذلك وصف لنا ببراعة الكثير من الشخصيات والأماكن في القرية التي سكن بها وسكنت فيه.
عبر الكاتب أيضا عن هذه المشاعر الإنسانية التي تسيطر على ابناء القرية ومنها رغبتهم في السلم والأمان وحاجتهم الدائمة إلى الهدوء مستسلمين في كثير من الأحيان إلى الأمر الواقع المفروض عليهم، وتظهر لنا قصة “سكة صبحة” والتي أبدع فيها الكاتب لتصل إلى كونها واحدة من أروع قصص المجموعة لوصفها للمشاعر الإنسانية والرغبات التي كثيرًا ما تكون متناقضة أو غير مبررة، ونذكر هنا على سبيل المثال هذه الفقرة ” أشعلت صبحة لمبة جاز يكسوها الغبار، كنست بضوئها الباهت عتمة الليل، وجهها الصبوح لم يكن بحاجة لإشعال فتيل ممزق وضوء يحتضر، سكبت عليه أشواقًا ملتهبة تفوح من أنوثتها المعطلة مؤقتًا في غياب بدران بين سندان الرعي ومطرقة دوار الغنم.
تكحلت عيناها الناعستان بسحر الليل.
النشوة بركان، لا يطفئها شتاء القطب الشمالي، والمهرة الجموح تستعصي على الترويض إلا في حلبة يسيطر بدران على أطرافها، فرشت حصيرة النوم، والتي لم تصنع لجسدها الوردي المتلهف لأسرة القصور ودفئها..”
رسم الكاتب شخصياته ببراعة؛ فجاءت في أكثر من قصة شخصية العمدة، هذه الشخصية المهيمنة على القرية برجالها ونسائها لما تتمتع به من هيبة وسلطة؛ فجاء ذكره في قصص مثل “الجبهة الثانية”.
تحدث من خلال السرد عن بعض الشخصيات القيادية من كبار رجال ريفنا المصري، ممن يكون لهم دور مؤثر في سير الحياة، مثل الجنيد الكبير في قصة ” الجنيد الكبير” وغيرها من الشخصيات البارزة.
كذلك امتلأت القصص بشخصيات البسطاء من عامة الشعب وأصحاب الوجود الطاغي، هذه الشخصيات المهمشة التي لا يلقى لها بالًا؛ ليسلط الضوء على القطاع الأكبر من سكان الريف، وهم محرك الأحداث ومحورها الرئيسي، والذي شعر بهم الأدب وكثف وجودهم في كثير من الأعمال الأدبية لكبار أدبائنا؛ فكانت شخصية الصبي والحلاق في قصة “الطهور” وشخصية أم حسن وابنها في قصة ” أم حسن” وغير ذلك من الشخصيات بطول القصص وعرضها.
خرج القليل من القصص من دائرة القرية؛ فنجد ذلك قصة ” أفكار مجنونة” التي ناقشت سيطرة الأفكار العبثية واليائسة على صاحبها ولا يستطيع أبدًا الفرار منها دون إرادة قوية، كذلك قصة “صحوة” التي تجسد الصراع من أجل الحصول على عمل في ظل ما يعانيه العالم اليوم من ظروف معيشية متردية خاصة في بلدان العالم الثالث؛ ليظهر لنا الفساد والخداع في أبشع الصور وسقوط كثير من الأنفس في مستنقع من الرزيلة للحصول على ما تريد.
جاءت الحبكة متماسكة ومترابطة، وكان الصراع في كثير من القصص صراع نفسي أكثر منه صراع جسدي، فالأحداث تدور في بيئة واحدة يستدعيها الكاتب من ذاكرته الغارقة في قريته بجميع تفاصيلها الدقيقة، لذلك جاءت كلمات تدل على الحميمية التي تربطه بشخوصه
مثل عمي مازن وعمي عباس وغيرها، كان الصراع في بعض القصص يجسد حالة الحرب والاستعداد لها ما بين ١٩٦٧ و١٩٧٣حتى تحققت الكرامة المصرية والعربية، عبر عنها في قصص مثل ” الجبهة الثانية” وقصة ” سيارة جاز” والتي صورت ووصفت المجتمع ومعاناته قبيل حرب أكتوبر، فاستعد المجتمع المصري للحرب بينما كان غارقًا في ظلام الهزيمة، ونجد في قصة “المنصوري” صراعًا من نوع آخر؛ فجسد فيها الكاتب صراع القرية وأهلها مع اللصوص، فمهما طال الأمد ينتصر الخير والشهامة في النهاية، ونجد في قصة “مغذي السبع” تجسيد الكاتب لأسطورة عروس النيل الفرعونية.
كل التوفيق والنجاح للكاتب إن شاء الله