قراءة في القصة القصيرة جدا ” انزلاق”
للكاتب ” محمود روبي”
نصّ القصة :
انزلاق (ق.ق.ج)
كنت قاب قوسين أو أدنى من السقوط في البئر حين قفزتُ بقوة لأعلى دون توقف حتى نبت لي جناحان كبيران، ساعداني أن اخترق الغيوم وأحلق بحرية.. لكنني لم أستطع تجنب رشقات الحصى التي انطلقت نحوي كالرصاصات، فهويتُ أنزف بجوار وابل من الأجنحة المتكسرة..
محمود روبي
*****************
قراءة في القصة القصيرة جدا ( انزلاق) للكاتب ( محمود روبي)
قراءتي للنصّ :
الرمزية الدلالية والاقتباسات القرآنية في قصة “انزلاق”
بدايةً.. يوحي العنوان ” انزلاق” بالوقوع الخفيف المفاجئ البعيد عن الحذر والانتباه..
ويستوحي الكاتب عبارته:” قاب قوسين أو أدنى” من الآية القرآنية رقم “٩” في سورة النجم ” فكان قاب قوسين أو أدنى” وهي دلالة إلى اقتراب جبريل عليه السلام إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم لمّا هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين النبي محمد قاب قوسين أي بقدرهما إذا مدّا . وقيل في المعنى: إنّ المراد بذلك بُعد مابين وتر القوس إلى كبدها.
أما رمزيّة ” البئر” فهي تومئ إلى البئر حيث رمى إخوة يوسف أخاهم يوسف في البئر، عندما وضعوه في دلو بعد أن ربطوا يديه ونزعوا قميصه.
وكلمة ” جناحان ” مفرد ” جناح” وقد ورد في القرآن الكريم ” جناحك” في سورة طه آية رقم ” ٢٢” وهو مابين إبطك وعضدك .
وعن رمزية الغيوم، فللكلمة رهبتها وأسرارها، وقد نُسجت حولها الأساطير، فكانت بعض الشعوب تدّعي أنّ للغيوم آلهة، فكانوا يسجدون لها ويخافون منها، ويطلبون منها أن ترزقهم، ولذلك جاء القرآن الكريم ليصحّح هذه المعتقدات، وليخبرنا بأنّ تشكّل الغيوم، ونزول المطر هو ظاهرة طبيعية. إضافةً إلى أنّ الغيوم تُوصف كالجبال لارتفاعها، وقد تبيّن أنها تمتد في الجو آلاف الأمتار، تماماّ بارتفاع الجبال ذاته.
أمّا رشقات الحصى، فقد وردت في القرآن الكريم ب ” حجارة من طين” وهي التي أنزلها الله تعالى على أبرهة الحبشيّ وجيشه من خلال طير ترميهم بحجارة من طين وحجر، حتى هلك الجيش وقائده، وتلك الحجارة كانت سبباً في إنقاذ الكعبة من الهدم.
وقد ورد رمز ” الوابل” في القرآن الكريم إلى المطر الشديد ثقيل القطر، وذلك في سورة البقرة آية رقم ” ٢٦٤” ” فأصابه وابل” وقوله تعالى في الآية ” ٢٦٥” من سورة البقرة أيضا ” كمثل حبةٍ بربوة أصابها وابل “، فهو يرمز إلى الضرر والأذى وليس إلى الخير والنعمة.
أمّا رمزية ” الأجنحة المتكّسرة” حيث ترمز لرواية كتبها الأديب اللبناني” جبران خليل جبران” وقد عبّر من خلالها عن قصة حبّ طاهرة بين فتى وفتاة، لم يجتمعا إلا بعد الممات، فقد أومأ من خلال هذه العبارة” الأجنحة المتكّسرة” إلى الثنائية الرومانسية المعهودة الروح/ المادة ، فالحبيبان طاهران تجاوزا متعة الجسد، ولم يرتبطا.. هكذا تكون الروح مقدّسة بالموت لتتجاوز الجسد، وحيث تظهر قمة التحرر من عبودية الجسد في فكرة الموت، حيث تنصرف الروح إلى بارئها مفارقةً ومتجاوزةً أغلال العالم الماديّ.
لقد عبّر القاص ” محمود روبي” في قصته ” انزلاق” عن حالة إنسانية تواجه الإنسان الصادق الناجح في الحياة، مستوحياً رموز قصته من القرآن الكريم، ومعبّراً من خلالها عن تأثره الكبير بالقصّ القرآني. واختياره للعنوان كان دقيقاً جداً، فالانزلاق يحدث بسرعة وبسلاسة، وغالباً يكون مفاجئاً، لكنّ ما يتركه من أثر قد يكون خطيراً أو مميتاً .
الشخصية الرئيسة في القصة هي شخصية الكاتب، التي بدت من خلال سرده في البداية ” كنتُ” بضمير المفرد المتكلم، وهذا الضمير هو أقدر ما يمكن للكاتب أن يعبّر من خلاله عن حالته الشعورية.
المكان: البئر والسماء، أو الأرض والسماء، أو الكون كله.
الزمان: الزمن الماضي وقد يكون الزمن حاضراً في كل حالاته.
أما الأحداث؛ فقد جاءت متتالية،” اقتراب السقوط في البئر- مقاومة السقوط والطير في السماء- الوصول للغيوم- التعرض لرشقات الحصى- الإصابة والسقوط أرضاً” . تبدو الثنائيات الضدية واضحة في القصة، مثل : بئر وغيوم، القيد والحرية، السقوط وأحلّق، قفزتُ وهويتُ، جناحان كبيران وأجنحة متكسّرة، الحياة والموت” إضافةً إلى التكرار في بعض المفردات، والذي أفاد التأكيد على المعنى من مثل : ” جناحان وأجنحة” والترادف مثل: ” الحصى والرصاصات، رشقات ووابل “، ورغم أنّ النصّ قصير جداً إلا أنّه احتوى جماليات بلاغية معبٌرة، فقد ذكر جناحان بقوله: ” نبَتَ لي جناحان” للدلالة على القوة، فالطائر يقوى بجناحيه الاثنين معاً في التحليق، على حين ذكر ” أجنحة متكسّرة” لأنّ الطائر يضعف بتشتيت أجنحته عندما تكثر وتتفرّق، فتضعف ويختلّ التوازن ويضعف الجسد.
لقد كان الكاتب على وشك السقوط في البئر” قاب قوسين أو أدنى”، وقد ألمحَ الكاتب من خلال هذه الآية القرآنية التي تبيّن اقتراب جبريل عليه السلام من النبيّ محمد ” ص” اقتراباً شديداً، وهذا ما عبّر عنه الكاتب، فهو لم يقع، بل؛ قفز قفزةً قويةً نحو الأعلى من غير أن يتوقف، ثم نجده يستعير لجناحَي الطائر الكبيرين صفة النبات ” نبتَ لي جناحان كبيران”، فالنبات ينمو بسلاسة في الأرض، وهو يتحدّى ظلمة التراب وقيده، ساعياً نحو الضوء والحرية والحياة. كذلك الكاتب، كان كالطير له جناحان، يرمز بهما إلى الانطاق والتحليق والحرية، وهذان الجناحان كالنبات نبتا من أعماق الأرض، أليس آدم من تراب أيضاً ؟؟ ومن ثم استطاع بفضل جناحيه الكبيرين، واللذين لا يكونا كذلك إلا لطائر قويّ جارح كالنسر أو الصقر مثلا، استطاع أن يتجاوز الغيوم في علوّها وارتفاعها، وأن يخترقها ليحلّق بحريةٍ، حقّق حريته التي ينشدها بإرادته وعزيمته، إلا أنّ ما حدث بعد ذلك النجاح الباهر والعظيم، أنّه تعرّض لرشقات الحصى، والتي قد تكون كلام الناس، أو أعينهم الحاسدة، وربما مؤامراتهم الوضيعة، فكانت بمثابة رصاصات قاتلة في الصميم، سقط مهيض الجناح، بل مهيض الأجنحة المتكسّرة وهو ينزف. لقد أصابوا أجنحته بوابل رصاصهم وكلامهم، أصابوا مواطن قوته وهي ” الأجنحة”، وعندما تكسّرت سقط نازفاً. وهذا مايفعله المبغضون للنجاح من إحباط للناجح، والسعي إلى تقييده، كي يتسنّى لهم وحدهم الظهور فقط.
لماذا اختار الكاتب رمزية” البئر” ؟ هل الذين أصابوه بمقتلٍ هم مقرّبون منه كإخوة يوسف عليه السلام عندما قرّروا التخلص منه في البئر ؟؟ ولماذا اختار أن يكون طائراً ذا جناحين كبيرين؟؟ هل لأنّ الطيور الجارحة ترمز إلى القوة والعزة والكرامة ؟؟ فالنسر إذ يُصاب وهو في السماء، فإنه لايسقط مباشرةً، بل يهوي بعد أن يستنفد آخر لحظة من مقاومته وهو في السماء، وعندما يستنفد كلّ ما لديه من طاقة، يختار قمة جبلٍ عالٍ شاهقٍ ليهوي فوقها بعيداً عن الحيوانات المفترسة، فلا تأكله سوى الطيور الجارحة مثله، وهذا الأمر تعبيرٌ عن عزته وإبائه وشموخه.
ثم لماذا اختار الغيوم وهي حتى الآن مثار غموض وجهل، يقدّسها الناس ويخافونها ؟؟؟ والتحليق فيها بحريّةٍ دليلٌ على الوصول إلى مكان سامقٍ عالٍ، ودليل على تحقيق الكاتب مكانةً عظيمةً، لم يقدر أحدٌ من الناس الوصول إليها، وذلك يدّل أيضاً على تفوق الكاتب وتصدّره تلك المكانة العظيمة في الحياة.
أما رشقات الحصى؛ فالكاتب لديه من الغنى، كالشجرة المثمرة التي تُرمى بالحجارة لامتلائها، خلاف الفارغة الجوفاء. لقد أُصيبَ بتلك الحجارة القاتلة لما يمتلكه من صفات أو مشاعر أو أشياء ثمينة لا يمتلكها حاقدوه وحاسدوه.
أما وقد ختم الكاتب قصته بعبارة ” الأجنحة المتكسّرة” المستوحاة من رواية الأديب ” جبران خليل جبران، فقد يكون سببُ الحسد علاقةً عاطفيةً طاهرة مع فتاة لم تكتمل بسبب الناس، فكانت النهاية أنْ كُسرت أجنحته تماماً لتمنعه من الطيران ومن الحياة معاً. ويبدو تأثر الكاتب الكبير بكتابات جبران الإنسانية الروحية الشفيفة، كما هو تأثره الكبير والعميق أيضاً بالدلالات والرموز الواردة في القرآن الكريم، وكأنه يجعل من القرآن الكريم تعويذة سلام ونجاة في وجه هؤلاء الكارهين للحب وللنجاح وللتميز، رغم أنّ أذاهم قد أصاب منه جراحاً وسقوطاً، وقد يكون مقتلاً حقيقياً.
أعداء النجاح والحاسدون كثيرون في الحياة، يغيظهم نجاح الآخر و تفوقه، يؤلمهم صيته الحسن وأخلاقه الحميدة، فيَلوكون محامده بألسنتهم الطويلة، ولا يوفرون دعوة نابية ضده، إلى أن يسقط فتكون نشوتهم الغامرة. أبعدَنا الله عن هؤلاء الناس، وأبعدَ الجميعَ عن أذاهم .
رولا علي سلوم