الزارادشتية ..
د.علي أحمد جديد
مؤسس الديانة الزراداشتية المعروفة هو( زارادشت ) ، واسمه
في الفارسية الحديثة ( زرتشت ) ، وكانت تسبق اسمه كلمة (أشو) أي الطاهر النقي .
يتألف اسم (زرادشت) من كلمتين اثنتين :
(زرت + اوشتره) أي الذهب + الجِمال ، لذلك ذهب الدارسون إلى تسميته صاحب الجِمال الذهبية ، وبعضهم فسر كلمة (اشتره) بمعنى النور والضياء ، ليصبح اسمه (ذا النور والضياء الذهبي) أو(الهالة الربانية) .
ورد اسمه في النصوص الأفيستية (زارئوشتره) وكان ظهوره في القرن العاشر أوالتاسع قبل الميلاد . وإن بعض الدراسات الأخرى تقول بأن ظهوره كان في القرن السادس أوالخامس قبل الميلاد .
ولد (زارادشت) في أذربيجان ، ثم انتقل إلى فلسطين ، واستمع إلى بعض أنبياء بني إسرائيل من تلاميذ النبي إرميا ، ثم رجع إلى أذربيجان ، ولم تطمئن نفسه إلى الديانة اليهودية ولهذا حُبكت حوله حكايات يختلط فيها الواقع مع الخيال ، والإمكان مع الإعجاز ، حتى باتت تشكل ترسيمة عن حياة تبدأ بالنبوءة التي تقول عنه :
“أن ثوراً تكلم وتنبأ بميلاد منقذ ، وتنتهي بموت قدسي في أحد المعابد أمام النار في (طبلخ)” .
وهكذا قتل (زارادشت) وهو في سن 77سنة من قبل الطوراني (براتغاركش) .
ترك (زارادشت) كتاباً هو (الأمينستا) ومعه شرحه (الزندافستا) ، وفيه يقسم العالم إلى قسمين ، القسم الروحي الذي يتناول فيه استنارة الروح في داخل كل إنسان ، والقسم “المادي” الجسمي الذي يكون وعاء يحتوي الروح بنورها وباستنارتها . وصنّف الخلق إلى التقدير وإلى الفعل ، كما فرّق الوجود إلى النور وإلى الظلمة ، والموجودات من النور والظلمة معاً ، أي من الخير والشر ، وأكّد أن العالم يبقى في صراع دائم بين القوتين المتضادتين ، الخير ويمثله إله النور و التنوير (أهورامازدا) ، والشر ويمثله إله (اهرمِان) الذي ينتهي في آخر العالم والحياة بانتصار إله النور (اهورامازدا) . ولذلك يُطلق على الزردادشتية اسم (المازدية Mazdaism) وأطلق عليها الإسلاميون اسم المجوسية . والمجوسية اسم ديانة عبدة النار ، إذ كان (زرادشت) – كما يقولون – قد اعتنق عبادة النار لأن فيها كما يعتقد التنوير والتطهير أيضاً .
بدأ (زرادشت) حياته كطبيب بارع ، وكان في نفس الوقت حكيماً وفيلسوفاً ، وحاول الوصول إلى أسرار الكون بالتأمل العقلاني .. وقد تعرّض للاضطهاد في بدايات دعوته ، ولما مرض حصان الملك ، عالجه له (زرادشت) فكافأه الملك بأن أذاع دعوته ، ونشر له عقيدته . ولما تزوج رئيس الوزراء من ابنته كافأه أيضاً بأن فرض دعوته كديانة على الشعوب المجاورة .. وذلك ماتسبب بقتله في آخر المطاف !!.
معروف أن اسمه “زرادشت بن يورشب” من قبيلة “سبتياما” ، وكانت أم أبيه من أذربيجان ، أما أمه فهي من فارس (إيران) واسمها “دغدويه”. وقد ولد قبل الميلاد ، واختلفت المصادر في التحديد الدقيق لتاريخ مولده ، غير أن المؤكد أن ولادته كانت في وقت انتشرت فيه القبائل الهمجية في كل أرجاء بلاد فارس ، وانتشرت معها عبادة الأصنام التي نشرت سيطرة السحرة والمشعوذين على أذهان البسطاء ، كما كانت السحرة في زمن (موسى) عليه السلام .
وتقول الأساطير :
“إن والد (زرادشت) كان يرعى ماشيته في الحقل ، فترآى له شبحان أعطياه غصناً من نبات ، ليمزجه باللبن ويشربه هو وزوجته (دغدويه) ، ففعل وشرب ما طلبه منه الشبحان . فحملت زوجته في تلك الليلة ، وبعد خمسة شهور من حملها رأت في منامها أن كائناتٍ مخيفةً هبطت من سحابة سوداء ، وانتزعت الطفل من رحمها وأرادت القضاء عليه ، إلا أن شعاعاً من نور هبط من السماء ليمزّق السحابة المظلمة وينقذ الجنين ، وقد سمعت صوتاً من النور السماوي يقول لها : “هذا الطفل عندما يكبر سيصبح نبيَّ أهورامزدا” .
واختلفت الأساطير حول حدث ميلاد (زرادشت) ، ومنها أنه لما وُلد قهقه بصوت عالٍ اهتزت له أركان البيت ، وأن كبير السحرة في الامبراطورية الفارسية
“دوران سورن” رأى أن طفلاً سيولد ، ويقضي على السحر وعلى عبادة الأصنام ، وسيطرد الكهنة من جميع البلاد . وأن الكاهن الذي حضر ولادته قد حاول قتله وهو في المهد مرات ومرات ، وكان الفشل هو النتيجة دائماً . وذلك مايتطابق مع ماهو معروف من قصة ميلاد النبي (موسى) عليه السلام وقضائه على السحرة وعلى الفرعون بالعصا السحرية .
اهتم والد (زرادشت) بابنه ، ورأى أن يعلّمه أفضل تعليم في البلاد ، فأرسله في سن السابعة إلى الحكيم الشهير “بوزين كوروس” ، وظل الابن معه ثمانية أعوام يدرس فيها عقيدة قومه ، كما درس الزراعة وتربية الماشية وعلاج المرضى ، ثم عاد إلى موطنه بعد أعوام الدراسة الطويلة . ولم يكد يستقر (زارادشت) مع أبويْه حتى غزا الطورانيون بلاد فارس فتطوع (زرادشت) للذهاب إلى ميدان القتال لا ليحارب وإنما ليعالج الجرحى والمصابين . ولما وضعت الحرب أوزارها انتشرت المجاعة في البلاد ، وانتشر معها المرض ، فتطوع (زرادشت) ثانية ليضع خبرته وجهده في علاج المرضى .. وانقضت خمس سنوات أخرى من عمره في هذا الأمر .
ويبدو أن أباه قد ملّ من تصرفات ابنه الذي رأى بأنه يضيّع حياته في خدمة الناس من حوله ، فانتظره حتى عاد إلى موطنه وطلب منه أبوه أن يتخلى عن عمله في خدمة الناس ، ليتزوج ويعيش كغيره من الشباب يرعى الأرض ويتدبر أمور ماشيته ، غير أن الابن لم ينفّذ من وصية أبيه إلا الزواج من فتاة حسناء اسمها “هافويه” .
ولما كان (زرادشت) في ميادين القتال يعالج الجرحى والمرضى اقتنع بأن عملاً عظيماً ينتظره بعيداً عن تربية الماشية وعن زراعة الأرض ، ألا وهو علاج المرضى وتخفيف آلامهم ، لذلك قضى عشرة أعوام أخرى بين المرضى يعالجهم ويداوي أمراضهم ، بابتكار وسائل جديدة في مداواتهم . ولما أدرك أن جهوده لم تَضَع نهايةً لآلام الناس وأحزانهم ، راح يتساءل عن مصدر هذه الشرور في العالم ، وقد كانت هذه الأسئلة هي الباب الذي فتح له طريق التأمل العميق والرحلة الطويلة التي سيقطعها .
(الزرادشتية) ديانة فارسية توحيدية قديمة ، أسسها (زرادشت) في القرن السادس قبل الميلاد . وتُعرَفُ اليوم لدى المسلمين – حصراً – بالمجوسية إذْ عُرِفَت الزرادشتية بأنها إحدى الديانات المجوسية ولم يبقَ غيرها ، وهي ديانة فارسية قديمة وفلسفة ديانة آسيوية .
كانت (الزارادشتية) الديانة الرسمية للإمبراطوريات الأخمينية والباراثية والساسانية . وهي واحدة من أقدم الديانات في العالم والتي لم تنقطع ممارسة عقيدتها حتى اليوم . ويُطلَقُ على شعارها اسم (فارافاهار) كما هو معروف في بلاد فارس (إيران اليوم) ويبلغ عدد معتنقيها مابين
110,000 – 120,000
في غرب آسيا ( إيران محافظة يزد ، محافظة كرمان ) وفي الهند (مومباي) . وقد نُسبت الديانة إلى مؤسسها (زرادشت) وتُعدُّ واحدة من أقدم الديانات التوحيدية في العالم ، إذْ ظهرت في بلاد فارس قبل 3500 سنة . في المنطقة الشرقية من الإمبراطورية الأخمينية عندما قام الفيلسوف (زرادشت) بتبسيط مجمع الآلهة الفارسي القديم إلى مثنوية كونية : سبتامينو (تنوير العقلية التقدمية) وأنكرامينو (قوى الظلام أو الشر) لإله واحد وهو “أهورامزدا”
(الحكمة المستنيرة) .
ويرى الباحثون أنَّ أصول الديانة الزرادشتية هي نظام عقائدي ديني شاع بين الشعوب الهندية والفارسيَّة مع بداية الألفيَّة الثانية قبل الميلاد . وذلك رغم أنَّ الأدبيات الزرادشتية تُعِيد أصول الديانة إلى (زرادشت) الذي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد وفق الأساطير الزرادشتية ،إلا أنَّ الرأي المستقر بين الباحثين هو أنَّ (زرادشت) كان مصلحاً دينياً أكثر من كونه مؤسس ديانة ، بل أنَّ البعض من نصوص (الآفستا) سبقت (زرادشت) بمدةٍ طويلةٍ . ومما لا شكَّ فيه أن (زرادشت) حاول إنهاء فكرة تعدُّد الآلهة الموجودة في الديانات الفارسيَّة القديمة آنذاك ، وحاول استبدالها بنظام عقائدي توحيدي ، حيث تركت جهوده الإصلاحيَّة تأثيراً عظيماً ، وهو ما أدَّى بعد قرون عدَّة إلى تأسيس ديانة فارسيَّة جديدة نُسِبت إلى (زرادشت) . وكانت أوَّل إشارة إلى الديانة الزرادشتيَّة تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد ، في تاريخ (هيرودوتس) المؤرّخ الإغريقي القديم ، وقد أتمَّ (هيرودوتس) تأليف كتابه في العام 440 قبل الميلاد تقريباً ، وتضمَّن كتابه وصفاً للمجتمع الفارسي القديم وعرضاً لبعض السلوكيات الدينيَّة المتعلقة بالزرادشتيَّة . لذلك فإن تأريخ (هيرودوتس) كان مصدراً رئيسياً لدراسة الزرادشتيَّة في تلك الفترة من تاريخها ، خاصةً بما يتعلَّق بدور الكهنة المجوس (Magi) وفقاً لما نقله (هيرودوتس) ، وما حُرِّف لاحقاً في اللغة العربية – لفظاً ومعنى – إلى المجوس يشير إلى كهنة إحدى القبائل الميدية السبعة ، وكانت شعوب الهضبة الفارسية تُعرَف باسم (الميدية) قبل تأسيس الإمبراطورية الأخمينية ، ويشير بالتحديد إلى طائفة (الزرفانية)المتأثِّرة بالتقليد الكهنوتي في ديانات الشرق الأدنى القديم والبحر المتوسط ، وكان لهذه الطائفة بالغ التأثير في بلاطات الحكام الميديين عقب توحيد الممالك الميديَّة والفارسيَّة في إمبراطورية جديدة تحت سلطة (قورش) الأكبر – محرِّر بني إسرائيل من محنة السبي في بابل – وهي التي قلّصت نفوذ كهنة الزرفانية في إدارة السلطة . واستمرَّ الأمر كذلك في عهد خليفته وابنه (قمبيز الثاني) ، خاصةً بعد ذرء الكهنة بذور حركة معارضة للسلطة الجديدة . ووفقاً لتأريخ (هيرودوتس) فإنه بعد أن فقد الكهنة نفوذهم عملوا على إثارة التمرِّد ضد (قمبيز الثاني) وأيّدوا زعم (بارديا) في الحكم ، الذي زعم كونه الابن الأصغر لقورش الأكبر رغم ظن المؤرخين انه في الواقع كان كاهناً متلبساً . وبدءاً من عهد (دارا الأول) استؤنف تقليد الإخلاص إلى (أهورامزدا) المألوف عند الحكام الميديين، كما هو موجود في نقش (بيستون) اليوم ، ولم يحتل (أهورامزدا) هذه المكانة لدى الاخمينيين قبل(داريوس) ، مع أن ديانة (داريوس) غير معروفة تحديداً ، لأن عبادة (اهورامزدا) في تلك الفترة لم تكن محصورة في تعاليم (زرادشت) . وهناك عددٌ من النصوص التي تُضَمُّ اليوم إلى خلاصة (الآفيستا) والتي يُقدَّر زمن تأليفها في حل زمن العصر الأخميني ، وفي هذ العصر تمَّ تطوير التقويم الزرادشتي .
إن (فارافاهار) هو رمز الديانة الزرادشتية ويحوي صورة (زرادشت) على شكل طائر ، والصورة مأخوذة في (بيرسيبوليس) وفقاً للأساطير الزرادشتية المتأخِّرة والمُدوَّنة في (دنكارد) وكتاب (أردافيراف) وقد فُقِدَت بعض النصوص الدينية المُقدَّسة نتيجة لاجتياح قوات (الإسكندر الأكبر) مدينة (تخت جمشيد) وتدمير المكتبة الملكية فيها .
و يُعامِل المؤرخون هذه الأساطير بحذر ، إلا أنَّ زعم إتلاف النصوص الزرادشتية المُقدَّسة يؤازره ما دوَّنه (ديودور الصقلِّي) في “بايبلوتيكاهيستوريكا” (Bibliotheca Historica) أن جيوش الإسكندر بالفعل قد دمّرت كتب الزرادشتية المُقدَّسة ، لكنَّه لم يذكر شيئاً عن تدمير أي مكتبة ملكية . وفي العام 1882م وَثَّقَ عالم الآثار (سكولزه) بقايا حريق تحت قصر (خشايارشا الأوَّل) ، ويُنظَر إلى هذه البقايا كدليل محتمل على صحَّة تلك الأسطورة . أمَّا بقيَّة القصص المدوَّنة في (دنكارد) فهي ذات طابع خيالي ويُرجَّح كونها مُختلَقة ، كالحديث عن نصوص مقدَّسة مكتوبة بحبر ذهبي على ورق نفيس ، ولا دليل آخر على تدمير المكتبة الملكية ، لذلك يفترض المؤرخون أن هذه القصة مبتدعة أيضاً . وقد مثَّل غزو (الأسكندر الأكبر) تهديداً للعقائد الزرادشتيَّة حيث تمَّ استبدالها في مناطق عديدة من الإمبراطورية الأخمينية بعقائد هلنستية ، لكنَّ الديانة الزرادشتيَّة بقيت بعيدة جداً عن الاندثار واستمرَّت ممارستها في كثير من مراكز الإمبراطورية السابقة ، واستمر وجودها على وجه الخصوص في مناطق الأناضول وبلاد الرافدين والقوقاز (مملكة كابادوكيا) التي كانت مستعمرة فارسية تابعة للإمبراطورية الأخمينية في آسيا الصغرى . ولم تواجه الزرادشتية منافسة هلنستية نظراً لعزلة المملكة وانقطاع صلاتها مع منلكة فارس ، وسجَّل فيها (سترابو) وجود معابد ماتزال أطلالها حتى يومنا الحاضر .