الإبداع Creativity ..
د.علي أحمد جديد
تعني كلمة (إبداع) تحويل الأفكار إلى حقيقة واقعة تتميّز بالقدرة على إدراك العالم بطرق جديدة وغير مألوفة من قبل ، وكذلك القدرة على إيجاد أنماط خفيّة للتنفيذ وصُنع الروابط بين الظواهر التي لم تكن تبدو أنها مترابطة أو مرتبطة ببعضها ، وكذلك المساهمة في إيجاد حلول غير مطروقة وغير تقليدية . ويتضمّن الإبداع عمليتين رئيسيتين هما :
* – التفكير
* -الإنتاج
كما تتشكل عملية (الإبداع) نتيجة تفاعل عدّة عوامل عقليّة وبيئيّة واجتماعيّة ، بالإضافة إلى العامل الشخصي للمبدع نفسه ، إذْ يُنتِج التفاعل حلولاً جديدة تمّ ابتكارها للمواقف العمليّة أو النظريّة في أيٍّ من المجالات العلميّة أو الحياتيّة ، حيث تتميّز هذه المجالات في الحداثة والأصالة بقيمة اجتماعيّة مؤثّرة تساعد الإنسان على إدراك المشكلة ، وكشف مواقع الضّعف فيها ، والانتقال الى خطوات البحث عن الحلول واختبار صِحّتها ، والاستفادة من التجارب لإجراء التعديلات اللازمة على نتائجها .
ويهدف (الإبداع) أيضاً إلى اجتراح أفكار مفيدة ومقبولة اجتماعيّاً وعملياً عند تطبيقها ، لتُمكِّن صاحبها من التوصّل إلى تطبيقات غير مألوفة ، ومتميزة بامتلاك طاقات تشمل المرونة ، والإسهاب ، والإلمام بالمشكلات المطروحة لإعادة دراسة كل مشكلة وإيضاحها .
ويعدّ (الإبداع) أحد أهمّ العمليّات الّتي تؤدّي إلى تطوّر النتاجات الحديثة والجديّة من خلال الانسجام مع البيئة الإنسانية المحيطة بعد استنادها إلى معاييرٍ ومبادئ وضعها الإنسان المبدع . وقد تطوّرت دراسة (الإبداع) في البحوث السيكولوجيّة أواخر القرن الـتاسع عشر الميلادي ، إلّا أنّ الدّراسات النفسيّة المبكّرة التي تناولت (الإبداع) لم تكن بذلك المستوى الذي يتحرّى الدقّة المنهجيّة المتميّزة بدراسة (الإبداع) اليوم . وابتداءً من منتصف القرن الـعشرين الميلادي المنصرم كانت الدّراسات الأوليّة تحت عناوين متعددة مثل : (الإبداع ، والتخيّل .. والتّفكير) ، تقتصر على الاختبارات الّتي تُستخدَم في دراسة دوافع (الإبداع) كالمجالات الذاتيّة الداخليّة ، أو البيئيّة الخارجيّة ، والماديّة أوالمعنويّة ، وكلها دوافع خاصّة بالعمل الإبداعي . ولا تُعتبر طرق (الإبداع) سهلة أبداً ، بل هي طويلة وتحتاج صبراً وعزيمة واستمراريّة ، كي يكون التطوّر مستمراً ويعمل على تكريس النفس في تطوير القدرات الإبداعيّة واستثمار الوقت كأوّل خطوة في طريق (الإبداع) الذي يتطلب ممارسة جادة وفعلية للمهارات التي يمتلكها الفرد المبدع مثل الرسم ، أو التصوير ، أو الكتابة .. وغيرها . كما يُساعد على تطوير المنجزات الإبداعية طلب المساعدة من الآخرين عند اللزوم .
ومن أوضح ساحات (الإبداع) المعروفة والتي تعكس صوره الإنسانية هي (الفن) . وائماً ماتكون الشخصية المبدعة تواقة للفن بأي صورة من صوره .
يَقولُ العالم الفيزيائي آينشتاين :
* – (لو لَم أكن فيزيائيّاً ، فمِنَ المُحتَمَل أن أصبِحَ مُوسيقيّاً ، وغالباً ما أفكّر بالمُوسيقى . أحلامُ اليَقَظةِ لَدِي مُوسيقى وأنظرُ إلى حَياتي بدلالَةِ المُوسيقى ، وأجمَلُ أوقاتي هِيَ تلكَ التي أقضيها بالعزفِ على الكَمَان) .
ذلك لأنّ الفن يلعَبُ دَوراً مُهِماً فِي المُجتمع الإنساني ، ويجعَلُ الإنسان وهو حالة من حالات الرّقِي الإنساني .
وينظر الكثيرون إلى الفن على أنه لا مَعنى له ولا أهميّة ، دون أنّ يدركوا بأن الفنّان يُعَبّر عَن مَشاعِرِهِ تجاه المجتمع والطبيعة وما تظهرهُ الحياة من خِلالِ استخدامِ وَسيلَةٍ فَنيّة يتقنها برسم لوحَةٍ فَنيّة أو تأليف قِطعَةٍ مُوسيقيّة فَيشعر بأنه يتحرر مِنَ حالة كان يعيشُ فيها كالخوف ، أو القلق ، أو الغضب ، أو أي مشاعِر مكبوتَةٌ فِي داخلهِ لتقودهُ بعدَ ذلك إلى الاستقرار النفسي . لأنّ كَبتِ المشاعر والأحاسيس لفتراتٍ طويلة تُسَبب الكثير مِنَ التعقيدات والمشاكل النفسية .
وأهَميّةِ الفَن فِي حَياةِ الإنسان ، خاصة ، وأن العالم الذين نعيشُه بالوقت الحالي باتت تسيطر فيه المصالح المادية على كل شيء وتخفي الكثير من المفاهيم الأخلاقية والقِيَم ، ويَعتَمِدُ على الجانِب المادّي (المال والمادّة) ، بينما يسمو الفن بحقيقته عن أيّ علاقَةٍ بهذِهِ المفاهيم المادية ويعمل على إقامة توازُن بين المَظاهر الروحيّة الداخليّة للإنسان وبين الناحية الماديّة فِي الحياةِ الإنسانيّة . وعندما يقوم الرسّام برَسمِ لوحَةٍ فَنيّة فَهُوَ يَستَخدِمُ مَشاعِرهُ المَكبوتة ويحاول تجسيدها مِن خلال لوحتهِ عبر استخدامِ أدوات بسيطة تجعل اللوحة ذُات قِيمَةٍ مَادِيّة ، لأن الفن دائماً يرتبط بالإبداعِ والعبقريّة ، وتعمل الفنون على إشباعُ الرّغباتِ الرُوحِيّة التي باتت الإنسانية بأشد الحاجة إليها اليوم . ولأن سيطرة الفكر المادي يقتل الإبداع الإنساني تماماً ، ويهمل الحاجة إلى
إشباع الرغبات للتوازن النفسي مِن خِلالِ الفنون الجميلة كسماعِ الموسيقى ، أوكتابة الشعر ، أو التعبير بلوحة ملوّنة ، لأن الركون إلى أي فن من الفنون فِيهِ القُدرَةِ على إخراج أجمَلَ ما فِي داخِلِ النفس (الإنسانية) ، وكُل نفس لابد وانها تختزن ألماً صامِتاً في داخلها ، ولا يَجِب أن يبقى فيها طويلاً لأنه يعمل على إتلافها وإحراقها ببطء ودون نارٍ أو دخان . والفَن وسيلة مِن وسائِل إخراجِ هذا الألم على شَكلِ قيمةٍ إبداعيّة جميلة ورائعة . وكُل (إبداع) تُبدِعَهُ اليد البشريّة يُمكن أن يكون فَناً طالَما يُحقّق قِيمَة جماليّة وإنسانية جوهَرُها الأساسي إرادَةِ الإنسان .
والمبدع يتبدّى في المجتمع بصورٍ مختلفة في شكلها الخارجي .فمن يقوم بتصمِيمِات ويطبّقُها على أرضِ الواقع هُوَ فَنان ومبدع ، والمصوّر مبدع ، والموسيقي مبدع ، لأن كل فن (إبداع) يلعب فيه الخيال الإبداعيُ ليعمل على بناء االحياةِ بأكمَلِها .
وقبل أن نختم ، لابد من التفريق بين (الإبداع) وبين الإختراع والإبتكار . إذْ يُعَدُّ كلٌّ من (الإبداع) والابتكار والاختراع مصطلحات متشابهة ولكنها تختلف في حقيقة مفهومها وفي العمليات التي تتضمنها . لأن (الإبداع) هو عملية خلق وتحويل الأفكار الجديدة والتخيلية إلى واقع ملموس.
بينما (الابتكار) عبارة عن عملية تحويل مفهوم جديد إلى نجاح أو استخدام واسع النطاق نشاط تجاري كابتكارات الأدوية لمعالجة الأمراض .
في حين أن (الاختراع) هو خَلقُ فكرةٍ جديدةٍ بمفهوم جديد وتجسيدها على أرض الواقع ، مثل اختراع السيارة الذي غيَّرَ فكرة النقل من مفهوم استخدام (العربة) الى استخدام (السيارة) .