“فلسفة الأساطير Philosophie der Mythologie”
لدى الفيلسوف الألماني
(فريدريش ڤيلهلم يوزف شيلنغ) .
من المُسَلَّم به وجود فارق كبير بين أن يخترع الإنسان الأسطورة ويصدقها ويحكيها أو ينشرها ، وبين أن يعي مقصدها و دلالاتها . وإذا كان الإنسان قد عاش الأسطورة منذ بداية وعيه فلاشك بأنه قد احتاج إلى زمن طويل قبل أن ينتقل إلى عملية تحليل الأسطورة وإدراك جذور ابتكارها . وإذا كان الإنسان في مرحلة ما قد أدرك ذلك عن طريق الشعراء ،ثم الفلاسفة فيما ، بعد فقد اكتشف أنه إنما كان – من دون وعي واضح منه – يؤرخ في الأسطورة لنفسه ولكينونته ولوجوده في الكون .
والصحيح تاريخياً أن (وعي الأسطورة) بدأ مع الفكر الإغريقي ، لكن الأصح ، أن مَنهَجةَ هذا الوعي ورَبطَه بتاريخ الوعي وبالتجربة الإنسانية وصل إلى الذروة ابتداء من عصر النهضة الأوروبية ومنه إلى عصر التنوير ، حيث أفرد الفلاسفة مؤلَّفاتٍ كثيرةً ومهمةً في وعي الأسطورة . وكان من أبرز هذه المؤلَّفات الفلسفية كتاب (فلسفة الأساطير) للفيلسوف الألماني “فريدريتش فيلهلم يوزف شيلنغ” ، ولم يكن كتاب (فلسفة الاساطير) هو الأشهر بين أعمال “شيلنغ” وحسب ، بل كان واحداً من أشهر الأعمال التي تناولت (فلسفة الأسطورة) بالدراسة والتحليل ، وتحديداً دراسة شعور الإنسان وحاجته إلى اختراع الأسطورة وجعلها جزءاً أساسياً من حياته ومن تاريخه .
ومنذ بداية الوعي الإنساني ، أي قبل أن يخترع العقل البشري (الأسطورة) في طريق وصوله إلى الأفكار الدينية ، كان الإنسان قد اخترع الحكاية التي تحوّلت إلى (الأسطورة) في البداية . ومع مرور الزمن تطورت استنارة الفكر الإنساني وبالتالي طوّر الإنسان علاقته بالأسطورة ، التي سرعان ما أصبحت جزءاً أساسياً من تاريخ الوعي الإنساني وتَأريخه كتعبيرٍ عن توق الإنسان للمعرفة قبل أن يتفلسف مع الإغريق ، وقبل أن يبدأ بطرح الأسئلة حول وجوده في هذا الكون ، وعن سرّ هذا الوجود ، والقوى التي ساورته وأشعرته بأنها القوى القاهرة التي تُسيِّر هذا الوجود .
ورغم أن بحث الإنسان عن معنى (الأسطورة) قد تأخر كثيراً عن الزمن الذي وجدت فيه الأسطورة نفسها . إلا أن الأسئلة عن الأسطورة كانت قد طُرحت قبل “فريدريك فيلهلم شيلنغ” وقبل غيره بزمن بعيد ، لأن ما قام به هؤلاء في عصر (شيلنغ) ، إنما كان عبارة عن محاولات تهدف إلى (فلسفة الأسطورة) وربطها بالوعي الإنساني ، ومن ثمَّ منهجة تاريخها كجزء أساسي من تكوين هذا الوعي الإنساني الذي حَوّل الإنسان من سطحيِّ التفكير إلى إنسان واعٍ . وفي هذا الإطار ربما يكون كتاب “شيلنغ” (فلسفة الأساطير) واحداً من الكتب الأساسية والفريدة النادرة التي أسست في ربط الأسطورة بالتاريخ الإنساني رباطاً لم يعد له مجال للانفصام .
وكذلك لم يضع (شيلنغ) كتابه أصلاً في نصٍ ذي وحدة عضوية واضحة ، بل كان الكتاب في الأصل مجموعة من المحاضرات التي ألقاها على جمهور عام في برلين ، مرة عام 1842 ومرة أخرى بين العامين 1845 و 1846، وكان في ذلك الحين قد بلغ من الشهرة ما جعل جمهوراً غفيراً يُقبِل على محاضراته لمناقشته في طروحاته الفلسفية . وإذا كان (شيلنغ) في الكثير من محاضراته الأخرى قد جابه من قارعه الحُجَّة بالحُجّة ، فإنه في محاضرته التي تتعلق بالأسطورة وتاريخها وفلسفتها ، كان سيداً متماسكاً لا يكاد يبدو أحد قادراً على محاججته بالعقل وبالمنطق ، إلى درجة أن بعض المتشيعين له ، في ذلك الحين ، أكّدوا بأنه قال الكلمة الفصل في ذلك المجال الذي كانت منهجته أمراً جديداً في الفكر الفلسفي ، وإن لم يكن جديداً التطرق إليه .
فكيف مَنْهَجَ (شيلنغ) موضوعه؟ وكيف استطاع أن يحدِّد فلسفة التاريخ والأسطورة كعنصرين متكاملين في الشكل الذي أخذته المحاضرات حين نُشرت في كتاب جامعٍ لاحقاً ؟..
لقد قام (شيلنغ) بتقسيم العمل إلى قسمين اثنين ، كان القسم الأول منهما عن “التوحيد” وشكَّل نوعاً من مقدمة فلسفية ثاقبة تمهد للقسم الثاني الذي هو الأساس في مجال بحثه في “فلسفة الأساطير”. وفي القسم الثاني ، بدأ (شيلنغ) تأكيده بأن (الأسطورة) لكي تؤدي إلى الوصول لفلسفة حقيقية ، يجب عليها أن تكون شيئاً آخر غير الصورة السائدة في ذلك الوقت ، أي أن تكون شيئاً آخر غير ذلك التتابع القصصي وعليها أن تحتوي على حقيقة خاصة بها كأسطورة . وهذه الحقيقة تكمن بنظر (شيلنغ) في واقع أن الأساطير هي في الأصل سيرورة إلهية – كونية تتحقق داخل الوعي البشري لا في خارجه . ومبادئ السيرورة الإلهية تلك هي نفسها مبادئ الكينونة والصيرورة . بمعنى أن ما نحن في صدده هنا إنما هو “سيرورة تطور العالم الشاملة والمطلقة” . ومن هنا كان (شيلنغ) يرى أن أي مُسَلَّمة فلسفية سواء كانت اختزالية أو استنباطية ، فثمة شيء من التباس المصطلح يقوم انطلاقاً من مختلف الابتكارات الأسطورية التي توصّل إليها الوعي الإنساني ، إنما هي تصوّر الخالق بوصفه إلهاً واحداً ، أي إلهاً منطلقاً من ذاته وفي ذاته ، وإن كان الوعي البشري قد وصل إلى هذا عن طريق أشكال وأساليب متنوعة. لأن الخالق ، تبعاً لهذا التصوّر ، هو قوة الكينونة ، وهو الكينونة المطلقة ، والتموضع الذاتي للكينونة (الروح) لأنه يمثل التوليف بين هذه الأبعاد الثلاثة . كما يرى (شيلنغ) أنه من أجل الوصول إلى هذه الكينونة وهي في خضم الفصل ، يتوجب أن يكون ثمة فعل الذي هو فعل الإرادة الإلهية :
“إن الخالق هو الذي يريد ، وهو الإرادة ، والإرادة هي الكينونة” . وهذه الإرادة تتجلى في سيرورةٍ خَلّاقة لها امتداداتها في الوعي البشري . وانطلاقاً من هذا كان يرى (شيلنغ) أن عملية الخلق الذاتي المتواصلة ، هي التي يدركها الوعي الإنساني في شكل الأساطير وفي مضمونها .
ومن خلال توصل (شيلنغ) إلى هذا ، ينتقل إلى الحديث (تاريخياً أكثر منه فلسفياً) عن آلهة اليونان والرومان والهندوس القديمة ، التي سبقت الديانات التوحيدية ، في فصول يرى فيها الباحثون المفسِّرون لأعمال (شيلنغ) أنها تنتمي إلى التاريخ الخالص ، أو أنها تنتمي إلى تاريخ الحضارات ، أكثر من انتمائها إلى الفلسفة ، و حتى إلى تاريخ الفلسفة ، ولا إلى فلسفة الأساطير . ويرى هؤلاء الباحثون أن هذا القسم الثاني من كتاب (شيلنغ) هو الجزء الأضعف وإن كان الجزء الأقل إثارة للسجال .
أما القسم الأهم فهو ذلك الأول الذي يتوقف فيه (شيلنغ) مطولاً عند العلاقة الثلاثية بين إدراك وحدانية الله وإرادته من جهة ، وبين الأسطورة من جهة ثانية ، والوعي الإنساني من جهة ثالثة . وقد تمكن (شيلنغ) – وفق باحثيه – من تقديم أوفى محاولة لتحديد المبدأ التأملي القادر على أن يجمع تطور مختلف الأشكال التي تمكنت التجربة الإنسانية عبرها من إخفاء النزعة الموضوعية مُحوِّلَةً تاريخها وتاريخ وعيها إلى تصورات المفاهيم الفلسفية والألوهية في قانون واحد ، وذلك عن طريق تتبع مسار الأسطورة وعلاقتها بالوعي الإنساني . وعندما بدأ (شيلنغ) بحثه في “فلسفة الأساطير” طرح ثلاثة أسئلة تخطر ببال أي إنسان العادي حين يجد نفسه بمواجهة الأساطير :
– كيف ينبغي أن تُفهَمَ الأسطورة ؟
– ما معنى الأسطورة ؟
– كيف حدثت الأسطورة ؟
وبالتالي فإن اهتمام (شيلنغ) بالأساطير كان قد بدأ في مطلع شبابه ، هو الذي كتب بحثه الذي كان عنوانه :
“بحث في التفسير النقدي والفلسفي لأقدم نظرية متعلقة بنشأة الشرور الإنسانية” .
وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره . ومن المؤكد أن ذلك البحث كان أول نص متكامل كتبه (شيلنغ) كفيلسوفٍ كانوا يعتبرونه من غلاة المثاليين في الفكر النهضوي .
ولد (فردريش فيلهلم شيلنغ) عام 1775م في مقاطعة “فورتمبرغ” في الجنوب الغربي من ألمانيا ، وكان ابناً لشماس وعالم لاهوت ضليعاً في اللغات الشرقية . وقد التحق الفتى وهو في الخامسة عشرة بجامعة(توبنغن) وفيها درس الفلسفة ثم اللاهوت على مدى خمس سنوات . وهناك تعرف بالشاعر (هولدرلن) وبالفيلسوف (هيغل) اللذين كان لهما تأثير كبير في أفكاره وفي حياته الاكاديمية والشخصية . وفي عام 1798م تم تعيين (شلنغ) في جامعة (ينا) التي بقي فيها أربع سنوات أستاذاً للفلسفة ، وفيها التقى بكل من (غوته) والأخوين (شليغل) حيث بدأ بوضع أسس مذهبه الفلسفي ، كما بدأ ينشر كتبه الكبرى التي يتابع فيها أستاذه الكبير (هيغل)، ومن هذه الكتب “روح العالم” و “استعراض التجريبية الفلسفية” و “أفكار من أجل فلسفة الطبيعة” و “فلسفة الوحي” و “فلسفة الدين” و “منظومة المثالية التجاوزية” … وقد توفي (شيلنغ) عام 1854 بعد أن قضى معظم حياته في التأليف وفي العمل بالتدريس الجامعي ، واضطرته بعض المضايقات من معارضي فلسفته في الفكر النهضوي إلى الاعتزال خلال السنوات الأخيرة من حياته .