القصة القصيرة جدا في ضوء المقاربة البلاغة الادراكية
قصة الحمّال والعربة انموذجا للقاص العراقي المبدع سعدون جبار البيضاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لنطالع القصة أولا
الحمّال والعربة
على عربة يسحلها حمار سافل أحمل عمرا أدرد والأولاد في ساحة القمامة يستنشقون الوجع ويحملون أكياسا معبأة بعلب المشروبات الغازية والكحولية الفارغة، في الليل استلقي على خرقة بالية واغني .. يا بلد النفط التليد من على حماري بالعافية كي لا تترمل العربة ..
ان بناء القصة القصيرة جدا وفق البلاغة الادراكية لا يطابق أسسها وعناصرها الشائعة وحتى ان وجدت تلك العناصر فسيتم اغفال سلوكياتها واشكال نمذجتها فمما لا يعتبر قصة قصيرة جدا في ضوء تلك المعايير سيكون بالفعل قصة قصيرة جدا ضمن هذه البلاغة بمعنى اخر نمذجة القصة هنا لا تغادر ثوابت القص ( الواقعة – الشخصيات ) ولكنها تغادر أنماط الظهور والتمثلات اللغوية الشائعة فهي غير معنية بقوة التركيب بلاغيا ومجازيا ولا بشعريته بل هي ناظرة الى بلاغة الإدراك وموقع المدركات في تركيب القضية الهدف ، ان موقع المدركات في التركيب اللغوي لا يقع ضمن التركيب الا ظاهريا فموقعها الحقيقي هو ضمن الإطار الشامل الذي تنتمي اليه وهذا الاطار هو ما يسهم في تحديد الدلالة ( المصدر) واما شكل ادراكنا هو ما يجعلنا ننقلها عبر ( استعارة ) الى الدلالة الجديدة ( الهدف ) ويعرّف الاطار( بانه تنظيم للمعرفة ضمن مواضيع مثالية واحداث قالبية ملائمة لأوضاع خاصة ومعنى هذا ان الذاكرة الإنسانية تحتوي على أنواع من المعارف المنظمة في شكل بنيات، وهذه الأطر كامنة وسط الأبنية المعرفية التي نفكر بها )
اذن القصة وفق هذا المفهوم هي استعارة تصورية وليست لغوية بمعنى اخر يكون مجالها التصورات وموقعها الذهن لا الالفاظ والتراكيب وفرق بين التصورات الاستعارية والعبارات الاستعارية ومن هنا نفهم غياب السمات اللغوية من توتر وتكثيف واختزال فنحن نرى قصا وجيزا تغيب فيه هذا السمات في البنى السطحية وتحضر في المجالات – عبر ترابطية (علاقات – موجهات – رموز – ومض – تشذير) ولم يعد مهما ان يكون ثمة صراع درامي او نمو حدثي وتتابع جمل فعلية وتتسيد هنا أنماط الاستعارات التصورية فقط وتكون بنية القصة القصيرة جدا هنا هي
– الأسقاط
– البرنامج
– الخطاطة
– المقولة
– الصورة
وعند التطبيق نلاحظ
– الاسقاط ( اسقاط صورة الفم الادرد على العمر ) حياة منعدمة ومتلاشية وغير قابلة لشيء
– البرنامج ( صيغة حجاجية لفضح الانساق الحاكمة والفاعلة / تحطيم الأيديولوجيا والنظم الحاكمة في وجود ومصير الانسان) صوت الحجاج ( عمر ادرد )
– الخطاطة ( سيرة حياة حمار سافل + أولاد يستنشقون الوجع + العمر الادرد يغني )
– المقولة (يا بلد النفط التليد من على حماري بالعافية كي لا تترمل العربة..)
– الصورة ( نقل انساق من مصادر الى اهداف ) وهي حزمة مفارقات واستعارات كالتالي
حمار سافل / عمر ادرد / أولاد تستنشق الوجع / العربة تترمل /
نرى في الصورة حزمة مفارقات ومما يبدو ان القصة القصيرة جدا في ضوء المقاربة الادراكية لا تحفل بموقعة المفارقة فهي تموضعها حسب الحاجة وتعددها كلما لزم الامر
وظائف المفارقة وتعددها وظهورها في مواطن متعددة من القصة
1- تقوم المفارقة بتحييد جميع أوجه الدلالة المحتملة وما يظهر منها على البنية السطحية هو شكل عتبتها الذي انزاحت عنه او تريد تفسيره أو تبريره او أدلجته أما إذا كانت المفارقة واقعة في المرتبة صفر (الصيغة الخبرية) فليس ثمة قصة أصلا انما تلميح لحالة سطحية (هايكو ساذج)
2- كل مفارقة تشترط ميثاقا يتم من خلاله قبول سلوك المفارقة والميثاق هو مراكز البنى الفاعلة في منطوق الهويات الثقافية والذي تكون فيه المفارقة نسق كامن مضاد وحين إيقاظها تقوم بخلخلة وإعادة توزيع هذه المراكز لتنشيط ذلك النسق
3- تشتغل المفارقة كمنبه حجاجي وهو مفهوم فلسفي معدل بمسافات بلاغية تحضر فيها الممارسة الأنسانية بعد ان قامت الاستعارة بتصفيته من غربته المتعالية ونزوعه الى الميتافيزيقيات ليتحول الى أسلوبية يحتضنها السرد كتقنية حداثية للقصة المنبه الحجاجي يتكون من مستوى دلالي واخر تداولي والمستوى الدلالي ذو انساق تقدم الواقعة على انها سؤال حامل لبلاغة ادراكية غرضها جر الدوافع والمثيرات والمتراكمات والبلاغة الادراكية (تعني استدعاء الأطر التي هي بنيات ذهنية تشكل طريقة رؤيتنا للعالم وتشكل تبعا لذلك الأهداف التي نبحث عنها والخطط التي نعدها وطريقة سلوكنا وما يعد مخرجا جيدا او سيئا لافعالنا )
4- لا تهدف المفارقة الى الأقناع وتحويل التركيز الى جهتها لتكسب موقفا بل أكثر من ذلك حين تهدف (الى توطين الفعل داخل مجال هذه الحقيقة لتصبح الحقيقة هي الفعل نفسه) فالمفارقة بناء حقيقة مضادة داخل تهشيم المصدر
حيدر الأديب