الحداثة و الهوية في بعدها القومي والاجتماعي ..
د.علي أحمد جديد
إن أول مَن استخدم مصطلح الهوية وكرّسه في بعده القومي والاجتماعي هو المفكّر (أنطون سعاده) من خلال طرح سؤاله الفلسفي الكبير :
– من نحن؟
والذي كانت إجابته واضحة في فكره النهضوي :
– “إننا سوريون ، والسوريون أمّة تامة” .
ولا يعني هذا غياب مصطلح الهوية عن فكر العديد من النهضويين ، مثل (سلامة موسى وإبراهيم اليازجي) ، إذ يُعتبَر مفهوم الهوية مفهوماً متحرّكاً وفي حالة بناء دائمة من خلال الوضعيات التي يكون فيها الأفراد والجماعات ونوعية العلاقات الموجودة فيما بينها وما يحدث داخلها من علاقات اجتماعية ، لأن شعور الانتماء يقوم بتأكيد الهوية بصورة جذرية ، وبرسم حدودها وتمييزها عن سواها ، وهي وعاء الضمير الجمعي لأي مجتمع أو أي تكتّل بشري بما يشمله من قيم ومقوّمات تُكيِّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحفاظ على كيانها .
وبعد أن أخذ مفهوم (الهوية) حيزاً كبيراً من تفكير الباحثين ، ازداد هذا الاهتمام في عصر الحداثة ، حيث جعلوا من (الهوية) أداة وسلاحاً رئيسياً للتفتيت ، لأنها كانت الأداة الأقوى التي يتمّ التحصن بها من خلال الوعي بالانتماء القومي والحضاري ، ولأنها السلاح الأمثل في صراع الحفاظ على الهوية . كما أن (الهوية) هي الجسر السليم الذي يعبر من خلاله الفرد إلى بيئته الاجتماعية والثقافية ، وإحساسه بالانتماء والتعلق بالمجتمع . ولذلك كانت القدرة على إثبات الهوية مرتبطة بالوضعية التي تحتلها الجماعة في منظومتها الاجتماعية ونسق العلاقات فيها . وتطرح المقاربة السوسيولوجية التي تُبرِزُ علاقة الهوية بالتاريخ واستجابتها لتحوّل الأوضاع الاجتماعية والتاريخية . وبذلك تكون هوية ثابتة لا تتغير بحركة التاريخ ولا بانعطافاته ، لأن تغيّر الهويات لا يخضع لقانون التوازن بين الثوابت المميزة للهوية وبين العناصر القابلة للتحوّل ، وإلاستكون الهوية عرضة للخطر والتدمير .
وهنا يكون السؤال المطروح على دول الهلال الخصيب التي تشكل (سورية الطبيعية الكبرى) :
– ” هل أخفق المشروع القومي النهضوي الحديث الذي أطلقه الزعيم “سعاده” في المنطقة مطلع القرن العشرين؟ أم أننا ما زلنا ضحايا (المسألة الشرقية) التي كانت من أسس تعامل الدول العظمى مع الاحتلال العثمانيّ عن طريق التدخّل في الشؤون الداخليّة بذريعة حماية حقوق الأقليّات ، والتلاعب بمصائر الأقليّات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية” ؟..
صحيح أن ثمة مَنْ يدعو اليوم إلى ضرورة تحرير الهوية من الماضي وربطها بالحداثة وأفقها التنويري والديمقراطي بمبرر أن الحداثة تعني الارتباط بالعصر والاندماج في قضاياه ، كما تحمل شكل الوطن المتجاوز للهويات التقليدية التي توزّع وحدته الى هويات صغرى !!. وأن الحداثة تمثل عصر الوطن بعد انحسار مفهوم الهوية الجزئية ، لأن المعنى الوحيد اليوم للهوية يتمثل بالحضور في العصر بوصفه نمطاً من الوطن الكبير .
كما أن الدولة المدنية الحديثة بمختلف مؤسساتها الوطنية تمتلك القدرة على تفكيك الأمة والولاءات الجزئية والارتقاء بها إلى أفق أوسع من غير أن تلغيها بالقسر والإكراه ، فالمجتمع الذي تكاملت شخصيته بهويته عبر التاريخ من خلال التطور يشكل وحدة ثقافية اقتصادية اجتماعية ، أما الوحدة السياسية فهي بالانتماء إلى وحدات ثقافية واقتصادية أوسع ، أي المجتمع الذي ليست فيه بؤر إنتاج كبيرة جامعة للناس ، هو مجتمع مفكك اجتماعياً ، لأن ثمة عوامل تطور المجتمع وتكوين هويته القومية هي الترابط بين العامل الثقافي الثقافة وبين العامل الاقتصادي إضافة إلى العامل الاجتماعي ذي العلاقات الاجتماعية المتطورة تحت مظلة العامل السياسي الجامع .
ولاشك أن الهوية الثقافية لأي شعب من الشعوب هي التي تعبّر عن مدى وعيه وتميزه واستقلاليته ، كما أن سعيه الدؤوب لتنمية ثقافته وتطويرها يُبرِزُ مدى انتمائه لأصالته ولتاريخه بصورة جلية و واضحة . ومن أجل سلامة السير وثبات الخطوات في تطوير وتنمية الثقافة المتوارثة بين الأجيال لابد من الوعي للتجارب التي مرّت بها شعوب العالم وللتحديات الموجودة في يومنا هذا . كذلك لابد من دراسة الماضي الذي واجه الشعوب ولم تنقطع تحدياته حتى اليوم رغم تغيير الصورة واستبدال الأسلوب والوسائل في الوصول إلى الهدف الوحيد والثابت للقوى العالمية التي قد تختلف تسمياتها وتوصيفاتها إلا أنها تسعى إلى تحقيق نفس الهدف .
وإذا كان الاستعمار القديم ، بصورته القسرية (الاحتلال) وبهيمنته العسكرية السابقة ، ظاهرةً تاريخية قاسية ومؤلمة ومعقّدة ، فإنه اليوم بأشكاله الحديثة والمتعددة أكثر تعقيداً وتحدياً للتنمية بكل وجوهها ، لأنه لم يعد مقتصراً على الهيمنة التقليدية (عسكرياً) ولايقتصر اليوم على الهيمنة الاقتصادية بصور التبعية والاستغلال فقط ، بل بات يتعدى ذلك إلى السعي الدائم والحثيث لهيمنة ثقافية وفكرية ايديولوجية ، مما يعني بأنه اليوم أسوأ أشكال الاستعمار الحديث وأخطرها ، إذ تقوم الهيمنة الثقافية والفكرية الايديولوجية بدور أساسي وارتكازي في عقلنة الهيمنة الاقتصادية واستدامة استغلال الثروات الوطنية بصور ناعمة وأكثر قبولاً وخطورة من الهيمنة العسكرية التي كانت مُكلِفةً مادياً وبشرياً . ويقوم الاستعمار الحديث اليوم بتوظيف الامكانات الضخمة من تقنيات الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب – حتى على مستوى الخبر العادي – وكذلك قنوات التواصل والاتصال الحديثة وتسخيرها في إخضاع ثقافات الشعوب لإيديولوجيته الخاصة من خلال تصدير ممارساته الحياتية اليومية (أفلام ومسلسلات ووسائل التواصل الاجتماعي) ، وحتى ممارساته التنموية الهادفة والمدروسة وتعميمها لتكون النوذج الأمثل للمحاكاة والتقليد والاقتباس . كما أن الاستعمار الحديث يقوم بتوظيف العلم والإعلام لتسهيل فرض هيمنته (الثقافية) التي تتيح له قيادة الشعوب كقطعان ممتثلة وخانعة بصور تتوافق مع أساليبه الهادفة إلى استغلال الثروات الوطنية وتوفير رفاهيته على حساب شعوب العالم ككل . ومما لاشك فيه أنه استطاع إخضاع الكثير من شعوب العالم ثقافياً وفكرياً عبر إعدادهم عاطفياً ونفسياً لقبول وتقبل نماذج الحياة اليومية وفرض إيديولوجيته ومفاهيمه بعيدة الأهداف في خطورتها على الثقافة والهوية من خلال تبنّي الطبقات الحاكمة أولاً لمفاهيمه عبر الاندهاش والإعجاب ، ومن بعدها تأتي الطبقات الأكثر ثراء وطفيلية في المجتمعات لترويج هذه المفاهيم وفرض هيمنته بين فئات وشرائح المجتمع .
ولعل الدور الأبرز هو ماتمارسه الشركات المتعددة الجنسيات والامبراطوريات الإعلامية باستخدام جيوش هائلة من الخبراء وعلماء النفس الاخصائيين باتقان فنون تزييف الوعي الجمعي وترويض العقول في نشر الثقافة الاستهلاكية أولاً والتي تعتمدها الرأسمالية العالمية لتعميم النموذج الغربي للحياة اليومية وبصورة خاصة تعميم النموذج الأمريكي الذي لايقيم وزناً للقيم ولا للأخلاقيات التي عرفتها وتعرفها الشعوب حتى تلك الرأسمالية الأوروبية منها .
وذلك مايُظهِر بأن دور وسائل التواصل المُسخّرة من المؤسسات الإعلامية تقوم على تشويه الثقافات القومية وقيام المواطن نفسه بتشويه صورة ذاته وتاريخه عبر تحريف القيم وتهميش المبادئ والأخلاق وتسهيل التخريب الثقافي لإحلال ثقافة غريبة وبديلة . ولم يعد دور الشركات متعددة الجنسيات مقتصراً على الاستغلال ونهب الثروات الوطنية وحسب ، بل تعدى ذلك إلى أولوية التخريب الثقافي والسلوكي في خلق نموذج راسخ من الثقافة الاستهلاكية بمعونة مباشرة من تأثيرات أفلام السينما والمسلسلات التلفزيونية ، ومن خلال الاحتكار الإعلامي والفني والتقني وحتى التحكم بصناعة الخبر ، وباتت هناك أربع امبراطوريات إعلامية هائلة تختص في صناعة الخبر وفبركته وهي :
(اسوشيتدبرس – رويتر – يونايتدبرس – فرانس برس) والتي تحتكر صناعة الخبر وتصديره على مستوى العالم ككل ، كما تسيطر على انتاج المعدات الإعلامية والالكترونية والمعلومات .
وإن الهيمنة الإعلاميةالمطلقة التي يفرضها الغرب على العالم ماهي إلا التجسيد العملي للهيمنة الاقتصادية ولاستغلال ثروات الشعوب الوطنية .
وفي كتاب(النظام الإعلامي الجديد) يقول الدكتور مصطفى المصمودي :
” إن النظام الإعلامي العالمي الراهن هو جزء لايتجزأ من الإرث الإستعماري السياسي والاقتصادي . ومن خصائصه أن البلاد المتقدمة تسيطر على دورة المعلومات في العالم من البداية إلى النهاية ” .