القصة القصيرة في ضوء البلاغة الادراكية
عنوان القراءة
المنبه الحجاجي في مسافاته البلاغية قراءة في قصة _ وحيد في الغبار
للقاص العراقي حميد محمد الهاشم
الناقد / حيدر الأديب
بين بنية (الزبالة) وبنية (قاعة علم الاجتماع) يقوم وحيد بتنشيط المفاوضة بين (الحياة والحياة) فهي رقصة وأغنية على لسان عامل النظافة تحتقب وجع السؤال الوجودي في كل مستوياته ووقائعه لنفسية والاجتماعية وهي أي الحياة (مجموعة اعمال صماء تهب السعادة لا يهمهم انهم شعروا أو لم يشعروا بالسبب وراء سعادتهم)
هذه المفارقة الساخرة المترعة بالوجع والألم تقوم بهز المسافات الأيديولوجية التي تعمل في منح الهويات موضعها الزائف في تمثيل المجتمع
هذه المفارقة تقول ان قبائل القاعة هم مجموعة اغبياء وقشور يمارسون السلب والنهب بجوارح ناعمة تتوغل في جسد المجتمع بحيث يتقاسمون الزمن في مجموعة من العناوين مولعة بادوات النصب وصولا حتى شراء التراب من ترابيته وحيد يقود انكسار الغبار الى أهزوجته (هاي الدنيه مكناسة، ليش تفكر زايد بيها)
فهذا الوطن ضليع بجغرافيا النفايات منذ حاويات التاريخ وحتى احتفال السؤال على كتف الرصيف المثقل من صبر السماوات وهكذا يندفع الزبال ليقرر جغرافية وتاريخ يومه، وهي كل ثروته وامجاده. انها الجغرافيات البديلة التي تتوالى عليها سلطة الدين الجديد والعقل الجديد يسلك القاص لأثارة كل هذا فضاءا جديدا لا هو بالتخيلي ولا هو بالتسجيلي ولا هو تأويل لأيديولوجيات تقوم بتصفية حسابها مع أخواتها عبر نمذجة هذا الوحيد في الغبار هذا الفضاء الجديد يمكن ان نطلق عليه بالمنبه الحجاجي هو مفهوم فلسفي معدل بمسافات بلاغية تحضر فيها الممارسة الأنسانية بعد ان قامت الاستعارة بتصفيته من غربته المتعالية ونزوعه الى الميتافيزيقيات ليتحول الى أسلوبية يحتضنها السرد كتقنية حداثية للقصة المنبه الحجاجي يتكون من مستوى دلالي واخر تداولي والمستوى الدلالي ذو انساق تقدم الواقعة على انها سؤال حامل لبلاغة ادراكية غرضها جر الدوافع والمثيرات والمتراكمات والبلاغة الادراكية (تعني استدعاء الأطر التي هي بنيات ذهنية تشكل طريقة رؤيتنا للعالم وتشكل تبعا لذلك الأهداف التي نبحث عنها والخطط التي نعدها وطريقة سلوكنا وما يعد مخرجا جيدا او سيئا لافعالنا ) من هنا نلاحظ ان المنبه الحجاجي التالي توفر على بنيات ذهنية محرضة (نعم، الحياة فكرة لكنها أحيانا مثل الزبالة، والزبالة جزء من فكرة، أو فكرة كاملة، ليست دائما مخلفات، انما في الأصل هي الحياة…وهذه تحتاج إلى منظف في حالة نشوى حد السكر وهو يقوم بمهمته) هذا المنبه في مستواه الدلالي هو ( نسق مبني على تنظيم لقيم الحقيقة والذي يقود الى ترسيم دلالات نتائجية هي تتويج لسيرورة دلالية تنتظم قيما لتحقيق مسارات حجاجية ) وفي المستوى التداولي فان المقطع يحتوي على أفعال وموجهات منشطة اجتماعيا وبوعود محرّضة وبحسب هابرماس (فان كل فعل للكلام يمكن ان يكون إنجازا لمعيار ما ) ان المنبه الحجاجي لا يهدف الى الأقناع وتحويل العاطفة الى جهته ليكسب موقفا بل أكثر من ذلك حين يهدف (الى توطين الفعل داخل مجال هذه الحقيقة لتصبح الحقيقة هي الفعل نفسه كما في هذه لمقطع (يصر وحيد الذكي في علم الاجتماع مفسراً ما كان يقول” أقصد أن السعادة تدخل الى القلب أحيانا دون وعي المرء نفسه، حتى إذا كان يرفع مكنسة التنظيف حين لا يفكر……)
ان الحبكة هنا هي بؤر محوّلة من حقل الى حقل تتوخى انتصارات حجاجية وصولا الى يصبح المنبه الحجاجي الى (ضرورة اجتماعية تداولية) كما في (هاي الدنيه مكناسة، ليش تفكر زايد بيها) منذ حقل العنوان تلتمع البؤرة (وحيد في الغبار) ومن ثم – الوصف باعتباره دس الجينات الفلسفية في جسد الحدث حيث اشتعال المشهد منذ مطلع القصة (اقترب منهم كعادته كل صباح، رقصة جميلة، بل أجمل رقصة يظنها راقصها، وكان قد مسك العصا من وسطها، ثم دار حول محوره ،راسماً دائرةَ رقص جميلة، وكذلك الزبالون الذين معه فعلوا ذلك ، تلك كانت الساعة الثامنة والنصف.. لم ينهوا القمامة أبدا، فلماذا يرقصون الآن؟..!ألأنهم يشعرون بأنهم سيبيدونَ القمامة المتطايرة.. أوراقاً. قشور برتقال.. حضانات أطفال ووو – العروج على (قائد أوركسترا الغبار هذا..تدفعه نشوة الانشراح للهذيان دون وعي أحيانا،هل يتعاطى شيئا؟ لا أعرف..!بفرح ونشوى يتحدث عن يومياته، ابتداء من العاشرة ليلاً حتى رقصة العاشرة – ما كانت تقوله طالبة شقراء حول” تكاتف الأعمال بإرادة دون إرادة العاملين او دون أن يعرفوا ذلك، وهذا يمنحهم سعادة ما
ان هذه المنبهات الحجاجية هي معلم جديد وحداثوي في بنية القصة المعاصرة وقصة وحيد في الغبار هي من نمط قصصي يدعى بقصة الموقف تتوفر على النتائج وتعنى بها فاضحة مرتكزات العقل الاجتماعي عبر حجاجية فلسفية تداولية على لسان الطالب الجامعي و(قائد أوركسترا الغبار) والشقراء التي استوعب استاذها كل نفاياتها تميزت القصة بالتشويق منذ مطلعها وهي ترسم الانسان كائن بلاغي يتشكل فيه العالم سؤالا ومآلات قتيلة وكان الهاجس الشعري المخفف كحلا لعيون السرد التي تفكر بالعقل الاستعاري متنقلا من يوميات بطل الغبار الى بطل الجامعة حيث توحدا في باحة الجرح (هاي الدنيه مكناسة، ليش تفكر زايد بيها)
حيدرالأديب
نص القصة الكامل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
. “وحيدٌ في الغبار”.
اقترب منهم كعادته كل صباح،رقصة جميلة ، بل أجمل رقصة يظنها راقصها، وكان قد مسكَ العصا من وسطها ،ثم دار حول محوره ،راسماً دائرةَ رقصٍ جميلة،وكذلك الزبّالون الذين معه فعلوا ذلك ، تلك كانت الساعة الثامنة والنصف.. لم ينهوا القمامة أبدا ،فلماذا يرقصون الآن؟!..ألأنهم يشعرون بأنهم سيبيدونَ القمامة المتطايرة..أوراقاً..قشور برتقال..حضانات أطفال ووو. ربما، هههه!!!. ,ثم يكررون رقصتهم بعد العاشرة، دبكة العاشرة لها ما يبررها،فقد حسموا واقعة الرصيف هذه. قائد أوركسترا الغبار هذا..تدفعه نشوة الإنشراح للهذيان دون وعي أحيانا،هل يتعاطى شيئا؟ لا أعرف!..بفرح ونشوى يتحدث عن يومياته،ابتداءً من العاشرة ليلاً حتى رقصة العاشرة. هكذا يندفع الزبال ليقرر جغرافية وتاريخ يومه، وهي كل ثروته وأمجاده. يبتسم ذلك الطالب الجامعي حين يمرُّ من قربهم،وهو يرى ذلك في أكثر صباحاته، وصولاً الى كراج سيارات الكوستر القريب من منعطف المكانس. ” نعم، الحياة فكرة لكنها أحيانا مثل الزبالة،والزبالة جزء من فكرة، أو فكرة كاملة، ليست دائما مخلفات ،انما في الأصل هي الحياة…وهذه تحتاج إلى منظف في حالة نشوى حد السكر وهو يقوم بمهمته”. وحيد هذا، وهذا لقبه وليس أسمه قال ذلك وهو واقف في قاعة المحاضرات لعلم الأجتماع. أنزل أستاذه الدكتور فكه الأسفل وفغرَ فاه وهو فوق المنصة،ألتفتتْ رؤوس الطلبة الذين أمامه بعيون محملقة فيه، أماخلفه فعيون الطلبة تنهش قفاه. والوشوشةُ تتصاعد. كان قد علقّ وحيد بهذا على ما كانت تقوله طالبة شقراء حول” تكاتف الأعمال بإرادة دون إرادة العاملين او دون أن يعرفوا ذلك، وهذا يمنحهم سعادة ما” تلك الطالبة الجميلة التي كانت قد مسّتْ بأصابعها الحريرية ركبتي وحيد دون قصدٍ بينما كانت ذاهبة إلى مقعدٍ في الطرف الآخر من القاعة. هاهو يبادلها المسَّ ودون قصد أيضا، لكنهُ يمسُّ فكرتها. ” أنها سخرية..عن أي زبالة يتحدث ؟”. قالت الطالبة الغاضبة في القاعة الصامتة. أصرَّ وحيد الذكي في علم الاجتماع مفسّراً ما كان يقول” أقصد أن السعادة تدخل الى القلب أحيانا دون وعي المرء نفسه، حتى إذا كان يرفع مكنسة التنظيف حين لا يفكر……” قوطع وحيدنا هذا في تأملاته هذه حول فرحِ الكناسين ،قوطعَ بضحكٍ متواصل من الطلبة،ودقات الأستاذ على منصتهِ،وغضب الجميلة ببنطلونها الجينز. وحيدٌ كان مصراً على أكمال مقطوعته التأملية رغم ضراوة كل شيء. ” أعني أن المكانس أحيانا تدخل في الفرح مثل البيارق في الأحتفالات..لكن المكانس تخص….” لكن الاستاذ قاطعهُ صارخاً” كفى.. كفى”. الأستاذ لم يكتفِ. ” بسبب هذه السخرية ،أنت محال للتحقيق” الأستاذ يزيد على ذلك. ” ويجب أن تعتذر للطالبة أيضاً” يوم بائس في حياته، يوم بائس لما أفرزهُ له عقلهُ، قراءتهُ،تاملاتهُ في كل ما يرى. بعد التحقيق الشفهي والأعتذار الرسمي عاد منهمكا عند الرابعة عصرا؛ ليشاهد شَفَتْ الزبالين المسائي،..لكن لا رقص في المساء. ،تعمد أن يقترب منهم طالما أنهم سبب يومه البائس ،ورزنامة قائد الأوركسترا تدق في رأسه” في الثامنة مساء عشاء البصل والطماطم.. وأحيانا بطاطا.. الحادية عشرة ليلاً أضاحع زوجتي، بعدها أنكبُّ على وجهي في شخير متقطع..عند الفجر احيانا أوقظها مرة أخرى..صباحاً كوب شاي وبيضتين..الثامنة تبدأ رحلة الأرصفة..عند العاشرة تبدأ رقصتي المعتادة”. ماهي رقصتك أيها البائس ؟! تمتم مع نفسه ذلك وهو يتذكر” في الحادية عشر كنتُ في مقرر القسم..لا سخريةَ مقصودة..في الثانية عشر كتبتُ تعهداً بذلك أنْ لا أعود لمثلها، بقصد أو بغير قصد،في الواحدة قَبِلتُ أن أقدّم اعتذاري لفاتنة الصف..كثير من من الشعور بالحماقة والحزن تطوق هواجسي”. هذه هي يومياته. لم ينم إلا قليلاً من ليلته تلك،عند الصباح تهادتْ إليه من نافذة بيتهِ هوسةالمكانس فيما كان يفكر كيف سيقدّمُ اعتذارهَ اللاضروري في منتصف القاعة وبين ستين طالبا لتلك الفتاة..تقاطر إلى ذاكرتهِ بيت المتنبي ” ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ.” فيما تعالت أهزوجة الغبارالصباحي تلك” هاي الدنيه مكناسة، ليش تفكر زايد بيها”
حميد محمد الهاشم/ العراق