السفير الدكتور محمود هريدي يكتب : الجرائم التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بنظرها
سنقوم باستعراض الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة، وفق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وعملا بأحكام المادة (5) منه فإن المحكمة تختص بالبت في الجرائم الأشد وهي :-
جريمة الإبادة الجماعية،
والجرائم ضد الإنسانية،
وجرائم الحرب،
وجريمة العدوان،
وقد ورد في (المواد 6،7،8) من نظام روما تعريفاً مفصلاً لأركان هذه الجرائم. وفي هذا المطلب نبحث الاختصاص القضائي لمحكمة الجنايات الدولية في هذه الجرائم في أربعة فروع على النحو التالي:
الفرع الأول: جريمة الإبادة الجماعية
الفرع الثاني: الجرائم ضد الإنسانية
الفرع الثالث: جرائم الحرب
الفرع الرابع: جريمة العدوان
الفرع الأول : جريمة الإبادة الجماعية
عرفت المادة (6) من النظام الأساسي هذه الجريمة بـأنها ” أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكا كلياً أو جزئياً ومن ذلك:
• قتل أفراد الجماعة.
• إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.
• إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً.
• فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.
• نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
ولجريمة الإبادة الجماعية مسميات عديدة منها: جرائم إبادة الجنس البشري أو جرائم إبادة الجنس، كلها تعبيرات عن معنى واحد أو مجموعة أفعال واحدة هدفها القضاء على الجنس البشري واستئصاله من بقعة معينة أو لصنف معين من البشر أو شعب من الشعوب. ينحصر جوهر الإبادة الجماعية في إنكار حق البقاء لمجموعات بشرية بإجماعها نظراً لما ينطوي عليه من مجافاة للضمير العام ومن إصابة الإنسانية كلها بأضرار بالغة، فضلاً عن مجافاته الأخلاق ومبادئ الأمم المتحدة.
فيما يتعلق بأركان هذه الجريمة فإنها تستلزم وجود القصد الخاص “الإهلاك”؛ باعتبار أن ارتكاب أي فعل من الأفعال المنصوص عليها بدون توفر نية الإهلاك ينفي الركن المعنوي لهذه الجريمة؛ وعليه تثور إشكالية إثبات القصد الخاص الذي غالباً ما لا يتوفر عليه دليل مكتوب.
أما فيما يتعلق بالركن المادي فقد حدده النظام الأساسي بارتكاب أي من الأفعال المنصوص عليها في المادة (6) والتي تم ذكرها. و لقد وجدت أمثلة كثيرة على جرائم إبادة الجنس، إذا أبيدت كلياً أو جزئياً جماعات إنسانية لصفتها العنصرية أو الدينية أو السياسية أو غيرها،
وتدعو الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء لتضمين قوانينها ما يلزم من نصوص لمنع وعقاب هذه الجريمة، وتوصى بتنظيم التعاون الدولي بين الدولة لتسهيل التجريم العاجل لهذه الجريمة والعقاب عليها.
ووفق نظام المحكمة الجنائية تتميز هذه الجريمة بأنها ذات طبيعة دولية؛ والطبيعة الدولية لهذه الجريمة لا تعنى ضرورة ارتكابها من مواطني دولة ضد دولة أخرى، ولكن قد تقع داخل الدولة الواحدة شرط أن تتحقق في أفعالها طبيعة الركن المادي لأفعال الإبادة الجماعية المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية ونظام المحكمة الجنائية الدولية. كما أن المسئولية المترتبة عليها هي مسئولية مزدوجة تقع تبعتها على الدولة من جهة، وعلى الأشخاص الطبيعيين مرتكبي الجريمة من جهة أخرى. ويتم ممارسة اختصاص المحكمة بالتكامل مع اختصاص نظام القضاء الوطني للدول الأطراف.
الفرع الثاني: الجرائم ضد الإنسانية
- وفق المادة (6) من النظام الأساسي المذكور تعتبر جرائم ضد الإنسانية تلك الأفعال التي ترتكب ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وتتضمن مثل هذه الأَفعال القتل العمد، والإبادة، والاغتصاب، والعبودية الجنسية، والإبعاد أو النقل القسري للسكان وجريمةِ التفرقة العنصرية وغيرها. الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية عرضة للعقاب بصرف النظر عن ارتكابها وقت “السلامِ” أَو الحرب.
وقد نصت المادة (7) من النظام الأساسي على الأفعال اللا إنسانية التي تدخل في اختصاص المحكمة وهي: القتل، الإبادة، الاسترقاق، إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، السجن أو الحرمان الشديد على نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي، والتعذيب، والاغتصاب أو الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على ألبغاء أو الحمل ألقسري أو التعقيم ألقسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من ألخطورة والاختفاء القسري للأشخاص وجريمة الفصل العنصري، والأفعال اللا إنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تسببت عمداً في معاناة شديدة أو أي أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية. اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية متعلقة بنوع الجنس أو لأسباب أخرى، و من المعروف عالمياً أن القانون لا يجيزها.
وهناك من يرى أهمية قصر اختصاص المحكمة على الجرائم الدولية الثابتة في القانون الدولي العرفي، ويجد أهمية في تعريف هذه الجرائم تعريف دقيق وواضح في النظام الأساسي، وهذا وفق ما يقضي به مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وبهذا يكون قد تم لأول مرة في التاريخ تعريف الجرائم ضد الإنسانية في معاهدة دولية اعتمدت من قبل غالبية الدول. وهناك من يقول بأن الجرائم ضد الإنسانية تهدر القيم الأساسية التي ينبغي أن تسود في المجتمع الدولي، وتنقص من الاحترام الواجب للحقوق الجوهرية للإنسان.
ونلاحظ أنه يجب أن تتوافر أركان محددة في الجرائم ضد الإنسانية تتمثل في وجوب أن تكون الجريمة من ضمن الجرائم المحددة حصراً في المادة (7) فقرة (1) من نظام روما الأساسي، وأيضاً أن ترتكب على نطاق واسع أو أساس منهجي وفق ما ورد ضمن المادة المذكورة، وأن تكون هناك سياسة في إتباع ذلك المنهج من قبل دولة أو منظمة أو مجموعة من الأشخاص.
لذلك هناك من يرى أن ركن السياسة هو الأساس في اختصاص المحكمة لأنه يعمل على تحويل الجريمة من جريمة وطنية إلى جريمة دولية، وتصبح من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية كي تتدخل لحماية حقوق الأفراد والجماعات من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان.
الفرع الثالث: جرائم الحرب
لقد جاء في المادة (8) من النظام الأساسي للمحكمة في الفقرة (1): يكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلق بجرائم الحرب، ولا سيما عندما ترتكب في إطار خطة سياسية عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم.” ويجد عدد من الدول وجود حاجة لشرح هذه الفقرة؛ وذلك للتحقق من التزام المحكمة بالتركيز على حالات جرائم الحرب الخطيرة والتي تثير قلق المجتمع الدولي، حيث أنه يخشى من انشغال المحكمة بحوادث الحرب الأقل خطورة نسبياً، أو أن تلجأ لممارسة السلطة القضائية بالنسبة لهذه الجرائم حتى في الحالات التي تكون فيها الدول نفسها على أتم استعداد لممارسة السلطة القضائية تجاهها، وفي النهاية تم التوصل إلى حل وسط، يتلخص في أن المحكمة يمكنها ممارسة السلطة القانونية في الحالات الفردية من ارتكاب جرائم الحرب، ولكن في ذات الوقت يجب أن توفر المحكمة الحافز لإعطاء الأولوية لأكثر الجرائم انتهاكاً للمادة (8) من النظام الأساسي للمحكمة.
ومن خلال دراسة المادة (8/2) نجد أنها تعرف جرائم الحرب باعتبارها انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف الأربعة، أي الأفعال المرتكبة ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم اتفاقيات جنيف ذات الصلة، وأيضاً الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي.
ومن بين الانتهاكات قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل بعض سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد جميع سكان الأرض المحتلة أو نقلهم جميعهم أو بعضهم داخل هذه الأرض أو خارجها.
وبدراسة المادة (8) من نظام روما نجدها حصرت جرائم الحرب في ثلاث فئات، الفئة الأولى تشمل الجرائم التي تمثل انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس 1949، وتتمثل الفئة الثانية في الجرائم تمثل انتهاكات خطيرة للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطق الثابت للقانون الدولي مثل تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنين أو مواقع مدنية، كذلك تعمد توجيه هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشئات أو وحدات أو مركبات في مهام للمساعدة الإنسانية.
أما الفئة الثالثة فهي الجرائم التي تقع في حالة نزاع مسلح غير ذي طابع دولي، وهي أفعال تقع ضد أشخاص غير مشتركين اشتراك فعلي في الأعمال الحربية، بما في ذلك القوات المسلحة الذين ألقوا سلاحهم وأولئك الذين أصبحوا عاجزون عن القتل بسبب المرض أو الإصابة أو الاحتجاز لأي سبب آخر، ومن هؤلاء الأشخاص متعهدي التوريد للمؤن ومواد التموين، ومقاولي البناء والممرضين والأطباء والمراسلين الحربين وغير هذه الفئات.
الفئة الرابعة : الجرائم التي تقع في نزاع مسلح غير ذي طابع دولي على فئات مثل الفئات المنصوص عليها في الفئة الثالثة وذلك في حالات الاضطرابات والتوترات الداخلية.
الفرع الرابع: جريمة العدوان
لقد تم إدراج هذه الجريمة ضمن أحكام المادة (5) الفقرة الثانية من نظام روما الأساس، لكن مع إيقاف التنفيذ؛ وذلك إلى أن يتوصل المجتمع الدولي إلى تعريف متفق عليه للعدوان،وإلى أن يتم وضع الشروط التي بناءً عليها، تستطيع المحكمة أن تمارس اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة.
وعليه فهناك خلاف شديد بين أطراف النظام الأساسي للمحكمة حال دون الاتفاق بشأن تحديد أركان جريمة العدوان، وبالتالي فالمحكمة غير مختصة بنظر جريمة العدوان ويقتصر اختصاصها على الجرائم الثلاث السابقة الذكر، ونرى أن عدم اختصاص المحكمة بنظر جريمة العدوان هو تهرب، ذلك أن هذه الجريمة مكتملة العناصر والأركان، فالعدوان ليس جريمة ينقصها التعريف، ونجد أنها من أخطر الجرائم التي ترتكب، ويجب إدخالها ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وعدم إخضاعها لحجج وذرائع لا يقبلها القانون الدولي.
وهناك من ينتقد عدم نص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة الثامنة على اختصاص المحكمة فيما يتعلق باستخدام الأسلحة النووية والأسلحة البيولوجية أو الكيماوية والألغام، ضد الأشخاص وأسلحة الليزر المعمية، ويجد أنه من الأفضل أيضاً إدراج أسلحة الدمار الشامل في النظام الأساسي لروما، ذلك أن استخدام تلك الأسلحة محظور الآن بموجب القانون الدولي، ويجد أن استخدام تلك الأسلحة يجب أن يكون خاضعاً للرقابة القضائية لمحكمة الجنايات الدولية المستقبلية بصورة غير مباشرة.