في مثل هذا اليوم15 مايو1923م..
تأسيس إمارة شرق الأردن.
منذ انسحاب القوات العثمانية من بلاد الشام، أقام القوميون العرب في شهر تشرين الأول من عام 1918 حكومة عربية في دمشق، وكانت سلطتها تشمل كامل بلاد الشام من جبال طوروس إلى البحر الأحمر (أنشئ مجلس نواب مثلت فيه مختلف مناطق سوريا الكبرى). لكن احتلال القوات البريطانية والفرنسية لبلاد الشام قد أعاق منذ البداية أعمال هذه الحكومة التي وضعت تحت قيادة الأمير الهاشمي فيصل بن الحسين. في 25 نيسان 1920 قررت الدول المتحالفة خلال الحرب العالمية الأولى، وكانت تسيطر على عصبة الأمم، أن تضع سوريا (وضمنها لبنان التي نزعت منها لاحقا) تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين (ومن ضمنها شرقي الأردن) تحت الانتداب البريطاني (شكل V.1).
عنى هذا الأمر نهاية المملكة العربية في دمشق، وتكريس تقسيم بلاد الشام، بقوة الاحتلال العسكري الفرنسي والبريطاني. انهارت المملكة السورية مع هزيمتها في معركة ميسلون، في 24 تموز 1920، ودخول الفرنسيين دمشق. بهدف المحافظة على استقرار شرقي الأردن، الذي اعتبره البريطانيون جسرا يربط فلسطين بالعراق (Amawi 1992)، فإنهم شجعوا إنشاء حكومات محلية، في نيسان 1921، في كل من اربد (عجلون)، جرش، السلط، الكرك، والطفيلة. مثلت هذه الحكومات المحلية، التي سيطر عليها شيوخ العشائر والاقطاعيون الكبار، استمرارا للتنظيمات الإدارية العثمانية، التي طبقت في جميع الألوية السورية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر (عماوي 1992)، إثر الإصلاحات الإدارية (التنظيمات) العثمانية. وفي عام 1921 قرر البريطانيون إنهاء التجربة التي لم تحقق نجاحا يذكر حسب رأيهم، وإنشأوا إمارة شرق الأردن، ونصبوا عليها عبد الله بن الحسين شقيق فيصل، أميرا.
الوعود البريطانية للشريف حسين وللعرب | نادين المعوشي
كانت الالتزامات البريطانية تتضمن بشكل خاص، مما يلي:
بين تموز 1915 وكانون ثان 1916، أثناء الحرب العالمية الأولى، تفاوض الشريف حسين، شريف مكة، مع السير هنري مكماهون، المفوض السامي البريطاني في مصر. للحصول على مقابل لالتزام العرب بمساعدة الحلفاء ضد الأتراك العثمانيين. وافق مكماهون على مبدأ حصول العرب على دولة مستقلة، تشمل، كما أراد الشريف، ولايتي الموصل وحلب. ظهرت هذه الالتزامات ضمن ما يسمى «بمراسلات الحسين – مكماهون».
في 9 تشرين ثانٍ 1918، اعترفت فرنسا وبريطانيا العظمى، في إعلان مشترك، بالمطامح الشرعية للشعوب العربية في بلاد الشام بالحصول على حكومات وطنية.
لكن هذه الوعود وهذه التصريحات نُقضت من خلال: إتفاقيات سايكس بيكو، التي أبرمت سرا في 16 ايار 1916، والتي قسمت المنطقة إلى خمسة أجزاء تتوزع تحت سيطرة فرنسا وبريطانيا؛ وكذلك وعد بلفور في 2 تشرين ثان 1917، الذي وعد الصهاينة بدعم بريطانيا العظمى لإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين؛ وأخيرا من خلال كون مؤتمر الصلح الذي عقد في فرساي في كانون ثان 1919 اتخذ قرارات بشأن الأقاليم السورية، دون وجود ممثل واحد لسوريا، لكن المؤتمر استقبل الأمير فيصل بن الحسين بصفته ممثلا للحجاز حصريا.
كانت (إمارة) شرق الأردن ضمن الانتداب البريطاني على فلسطين. وكان مقرّ المندوب السامي للبريطاني في القدس. تمّ الاتفاق حينئذ على رسم حدود إمارة شرق الأردن: في عام 1921 فصلت فرنسا مقاطعة الرمثا عن سوريا وضمتها لشرق الأردن، في حين أن عبد العزيز آل سعود تنازل عن منطقتي معان والعقبة عام 1925. وصلت مساحة شرق الأردن حينئذ إلى 91،000 كم2، منها 10،0٠0 كم2 أراضٍ زراعية خصبة تقع في شريط عرضه 65 كم في الشمال، وتعدّ 450 قرية (Fischbach 2000، ص 67). بقيت أسماء وحدود الألوية العثمانية: عجلون، البلقاء، والكرك كما هي، وأضيف إليها لواء معان عام 1925. استمرّ وضع وإنشاء الألوية والمقاطعات، كما كان في العهد العثماني، ضمن إطار سياسة الحكم المركزي الهادفة إلى توطين البدو الرحل، وإلى السيطرة على الأراضي، إضافة إلى ضبط الحدود. بعد إنشاء الإمارة كانت جميع هذه الألوية محدودة شرقا بسكة حديد الحجاز، عند خط الهطول المطري 250 مم، حيث تبدأ مناطق الزراعة البعلية في الصحراء (شكل V.3).
عندما تسلّم البريطانيون الانتداب على فلسطين وشرق الأردن، لم تكن الحدود الجنوبية والشرقية معيّنة. طالب الانجليز بمنفذ على خليج العقبة، في حين أن سلطان الحجاز اعتبر معان جزءا من أراضيه نظرا لكونها ضمن ولاية الحجاز العثمانية سابقا. في تشرين ثان 1925، توصل البريطانيون إلى عقد اتفاق (معاهدة حدّة) مع عبد العزيز بن سعود، وكان حينئذ سلطان نجد، حصل بموجبه ابن سعود على منطقة الكاف (في نجد) ومعظم منطقة وادي السرحان، وذلك مقابل المناطق المحيطة بمعان. لكن سلطان نجد لم يسمح للقبائل الأردنية ، خاصة بني صخر وبني خالد والسرحان والعيسى، بالرعي في وادي السرحان شتاء كما كانت عادتهم سابقا. أثار هذا التغيير في مناطق التبعية الرعوية لهذه القبائل نزاعات عدة بين القبائل، وحصلت غزوات عنيفة ناجمة عن المطامح التوسعية للوهابيين.
في المقابل، لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن العقبة، لكن بريطانيا ضمتها كأمر واقع إلى أراضي الإمارة . بعد إنشاء المملكة العربية السعودية عام 1931، قبِلَ ابن سعود الوضع القائم في الشريط الساحلي على خليج العقبة. لكن لم يوقّع اتفاق بشأن العقبة إلا عام 1965: حصلت الأردن بموجبه على 19 كم على ساحل خليج العقبة و 6000 كم2 في الجنوب، مقابل التنازل عن 7000 كم2 على طول وادي السرحان.
سكان متنوعون
السياسة البريطانية في توطين القبائل البدوية
كانت التجمعات القبلية الرئيسية المتواجدة في إمارة شرق الأردن حين إنشائها هي: بنو صخر في الوسط والشمال، العَدوان في وادي الأردن رمناطق البلقاء، الحويطات في جنوب الكرك، وقبائل الروِلة الذين تجولوا من ضواحي دمشق إلى وادي السرحان. وكانت قبائل بني خالد وبني حسن والسرحان والسردية والعيسى قبائل صغيرة نسبيا، ومتحالفة في وجه هجمات القبيلة القوية: بني صخر، الذين كانوا حول عمان وفي شمال وادي الأردن. تصادم بنو صخر مع العدوان (يعودون في أصولهم في المنطقة إلى القرن السادس عشر)، والغزَاوية والبشاتوه في وادي الأردن. وفي جنوب الكرك، وحتى العقبة، سيطر الحويطات، وهم ينقسمون إلى اربع فرق: حويطات جبال الشراة (أو حويطات ابن جازي)، العلاوين (حويطات ابن نجد)، حويطات مصر (أو ابن شهيد) وحويطات تهامة، ويضمون السعيديين، اللياثين، الشرارات، وبني عطية (شكل V.2).
في الشتاء، كان البدو ينتقلون من الهضاب إلى البادية شرقا، ونحو وادي الأردن، ووادي عربة.
عدّل البريطانيون من الولاءات القبلية ومن تحالفات القبائل، عن طريقين: أولهما منع الغزوات ومنع فرض الخاوة، أي ضريبة الحماية التي كان الفلاحون والقبائل الضعيفة يقدمونها للقبائل الأقوى، وكانت الخاوة هي مصدر الرزق الرئيسي للبدو. والثاني عن طريق تصنيف البدو إلى قبالئل رُحّل وشبه رُحّل. بيّن ركاردو بوكو أن الدولة قد أعادت تشكيل البدو في الأردن حين حددت حصة انتخابية مخصصة للبدو، ما أعاد تشكيل التحالفات بين القبائل (Bocco 1996). وهكذا أبرِم عقد اجتماعي بين النظام الهاشمي والقبائل، تضمّن التزام الدولة بتأمين أفراد القبائل بوظائف في الجيش والخدمة المدنية، وتعهدها بتوفير الخدمات الضرورية لهم، مثل المواصلات والماء والكهرباء، مقابل ولاء غير مشروط. نتيجة ذلك استفاد البدو من أعراف تشريعية على شكل المحاكم العشائرية، التي أنشئت عام 1924، واستمرت قائمة حتى عام 1976، ومن تخصيص مناطق انتخابية مستقلة ومقاعد مخصصة لهم في البرلمان (ستة مقاعد عام 2011).
رافقت سياسة توطين البدو التي تبنّاها البريطانيون سياسة المسح والتسجيل العقاري وتحديد الأراضي بهدف إنشاء نظام جديد للضرائب العقارية. لكن القانون العقاري الجديد «قانون تسوية وضع الأراضي» لعام 1933 لم يعط ِالقبائل أية حقوق على الأراضي التي تشكل مراعي لمواشيها. وانحصرت حقوقهم في الأرض في مواقع التخييم الصيفي حيث يفلحون الأرض.
حصل بنو صخر على الأراضي المحيطة بعمان، وفي وادي الأردن، وكذلك الأمر فيما يخص عشائر الحويطات في منطقة جبال الشراة ووادي عربة (Bocco 1996).
تمثل خريطة المناطق العشائرية لعام 1929 وثيقة تكشف رغبة الإدارة البريطانية في ضبط السكان البدو الرحّل بطبيعتهم (شكل V.3). أعدنا نشر هذه الخريطة كوثيقة تاريخية، وقد صحح الدكتو رؤوف أبو جابر والدكتور وليد غريبه الأخطاء الإملائية العربية الواردة فيها. تدلّ هذه الوثيقة على أن المناطق المأهولة في إمارة شرق الأردن كانت في ذلك التاريخ محصورة ضمن حدود الخط الحديدي الحجازي، وذلك لأسباب أمنية. ولم تتوسع باتجاه الشرق سوى المجموعات البشرية القريبة من عمان. ولم يسُدْ الأمن في البادية إلا بعد عام 1935، حين بدأت أولى المجموعات القبلية، من بني حميدة، بفلاحة الأرض شرق السكة، التي تحدد خط الهطول المطري 250مم.
يجدر بنا أن نتخلى عن الفكرة الخاطئة، القائلة بأن الأردن هي بلد البدو. لقد كان السكان المستقرون دائما أكثر من البدو، وهؤلاء البدو أنفسهم كانوا شبه رُحّل حينما أنشئت إمارة شرق الأردن. في المقابل، كان البدو هم الفئة الأثيرة سياسيا لدى النظام، وقد جُندوا في الجيش، واعتبرت صفاتهم المتمثلة في الشرف وبساطة العيش والشجاعة مجسِّدة للصفات الوطنية، ضمن ما يمكن اعتباره عملية «بدْوَنَةة ثقافيّة» (Massad 2001).
هجر البدو نمط حياتهم البدوية منذ الثلاثينيات، من خلال إدماجهم في الجيش العربي. لكنهم عانوا خلال السبعينات من تهميش اقتصادي حقيقي أدّى لانتفاضتهم في أحداث معان عام 1988 ثم عام 2002. خلال ربيع 2011، والثورات العربية، تمكنت بعض الجماعات القبلية من الحصول من الملك على مئات الهكتارات من أراضي الدولة، فيما يُسمى بالواجهات العشائرية.
اعتبارا من الخمسينات، أدى الوضع التشريعي الخاص الذي يحظى به البدو، والذي استغله النظام الهاشمي لمواجهة التحركات الداخلية المعارضة، أدى إلى معارضة شعبية كبيرة. دفعت القوى القومية العربية الملك إلى تعريب الجيش وطرد كلوب باشا، الضابط البريطاني الذي كان على رأس الجيش حتى ذلك الحين. وبدأ بعض البدو المسيّسون بانتقاد الوضع الخاص للبدو، والذي اعتبروه استراتيجية بريطانية لتقسيم الأمة. لكن أصواتهم لم تسمع حقا، واستخدمت قوات البادية ضد الفدائيين الفلسطينيين أثناء أحداث أيلول 1970 («أيلول الأسود» كما يسميه الفدائيون).
ألغي الوضع الخاص للبدو عام 1976، بهدف توحيد الشعب الأردني بشكل أفضل. لكن البدو حافظوا على الأفضلية من حيث الإلتحاق بالجيش، وحصلوا على امتيازات ومكارم خاصة للإلتحاق بالجامعات الحكومية. وأخيرا وليس آخرا، ومع استعادة الحياة البرلمانية عام 1989، خصصت لهم مقاعد في البرلمان.
الأقليتان الشركسية والشيشانية
يتكون الشركس في الأصل من خليط من الشعوب، ذات لغات مختلفة، وتنظيمات سياسية اجتماعية متنوعة، يجمعها إسم الأديغة أو «الرجال».
في أواخر القرن التاسع عشر، طردهم الروس من شمال غرب القوقاز نحو أراضي السلطنة العثمانية، التي خصصت لهم الأراضي (de Bel Air 2003). في البداية، استقبلت الدولة العثمانية الشركس والشيشان في أوروبا (تركيا وبلغاريا)، وبدرجة أقل في ولاية حلب. لكن بعد المجازر التي ارتكبها مرتزقة شركس في بلغاريا عام 1876 ، أُرسل الشركس بواسطة السفن في شباط 1878 من اليونان ومقدونيا إلى ولايتي بيروت ودمشق، عن طريق بيروت وعكا (باتجاه نابلس) وطرابلس (باتجاه حمص). وفي ذلك التاريخ وصلت جماعة صغيرة منهم إلى عمان.
بلغ مجموع الشركس الذين استقروا في جنوب بلاد الشام 000 25، وقرب حلب 000 15 عام 1878 ( Lewis 1987، ص 98). توفي الكثيرون بسبب الملاريا وجدري الماء، واضطر الباقون إلى تكييف أساليبهم الزراعية لتناسب المناخ الجاف في المنطقة.
أعفتهم السلطات العثمانية من الضرائب، وسمحت لهم بحيازة أراضي الدولة، التي أخذوا يدافعون عنها بضراوة ضد البدو.
كُلّف الشركس في الأردن بحماية الحدود وبتطوير الزراعة في السهوب. فأنشؤوا العديد من المناطق الزراعية الجديدة. كان الشركس يحظون بمساندة السلطات العثمانية، حيث كانوا من دعائم الجيش العثماني. ثم انضموا إلى قوات الأمير عبد الله الأول في قوة الحدود الأردنية وفي الجيش العربي. في بدايات العشرينيات، لم يتجاوز عدد الشركس 6000 والشيشان 1000 من ما مجموعه 000 300 نسمة يمثلون سكان الإمارة حينئذ.
استقرت أولى مجموعات الشيشان في شرق الأردن في الزرقاء، بعد عام 1902، ثم أسسوا الرصيفة عام 1904، ثم صويلح والسخنة عام 1905. في آذار 1906 قدرت مصادر أوربية أن عد الشركس يبلغ 1949 عائلة في القنيطرة، 2250 عائلة في شرق الأردن، 670 عائلة في حمص، 550 عائلة في ولاية بيروت (ومن ضمنها سنجقا عكا واللاذقية)، و 000 25 شخصا كعدد اجمالي في ولايتي دمشق وبيروت. بعد إنشاء المملكة الأردنية الهاشمية باتحاد الضفتين عام 1949، تواجدت 640 عائلة شركسية في عمان (قبائل الشابسوغ والقبرطاي)، و 370 في وادي السير، 790 في الزرقاء، 400 في جرش، 170 في ناعور، 120 في صويلح، 20 في السخنة، و 20 في أزرق الشيشان (Lewis 1987، ص 116).!!