المتعة ها هنا والارتواء الوجداني أيضًا
قراءة بقلم / محمد البنا
لنص * خلود *
للأديبة السودانية المصرية/ د. مي عبد الحميد عزت
…………………..
النص
خلود
…….
حكايتنا انتهت !!
على ناصيتها بابٌ منفرج
صدئ
عصي الإغلاق منذ زمن بعيد،
لم نكن قد خلقنا فيه بعد !!
غادرت حاملةً معي حقيبة ليست كبيرة
رتبت فيها صوري، بعض سكاكر وصحن تقديم؛ معه براد شايٍ كان لأمي ومبخرةٌومنديلٌ مطرزٌ لأبي وبعضٌ من ملابسي
وابرة وبكرة خيط؛ ظنًا مني أن هذا ما سأحتاجه في الفترة المقبلة!!
رفعت طرف ثوبي
فدمع الفراق كان غزيرًا جدًا
جرف بسيله كل الشموع التي أوقدتها!
بسبب العتمة نسيتُ أخذ شهادة ميلادي معي !!!
كان بالي معلقًا بالنهاية
لم تشغلني البدايات حينها !!
فلم تكن قصتنا قصيرةً ابدًا
بل كانت شاسعة
كمرج احتضن السماء
كحياة
مشرقة كالشمس
صاخبة كالموانئ
مزهرة كالجنان في فصل الربيع
ناعمة كثوبها الحريري
تلك الأميرة النائمة
قد طال شرودها في عالم الأحلام !!
صفعةٌ أيقظتها
هرولت القبلات مرتعدة
كما هرولت هي بعد أن أدركت غفلتها لعمرٍ مضى؛ تحاول اللحاق بآخر عربةٍ في القطار
رغم أنها عرفت أنه قطار يسير في اتجاهٍ واحد؛
يبتعد فقط
يهاجر بالأجساد فقط
الأرواح ثقيلة في رحلة دون محطة وصول،،
لكنها وجدت فيه ملاذها!!
كنت أراقبها منذ سنوات تغفو في صمت
تقاوم شيخوختها في صمت
تخبئ أسرارها في صمت
وتلعن وحدتها في صمت
وها هي الآن أمامي تركض، ولم تستطيع اللحاق بعد
أنفاسها تعلو كلما ابتعد عنها القطار
كما دقات قلبها المقاتلة
تتعلم البعاد وتُبعد عن بالها الحنين والشوق
والحب !!
تخفف أحمالها لتسرع وتسرع أكثر
فلربما تنجو بها أقدامها!!
تفرد ذراعيها جناحين لتدفعهما الرياح، فتصل قبل فوات الفرصة الأخيرة
فجأة تعثرت!
وجدت نفسي أناديها
وأصرخ باسمها
أتمنى إنقاذها
لكن حين وصلها صدى صوتي
كانت قد لحقت أطراف كفيها حافة المركبة ولامست أقدامها أول عتبة في رحلة النجاة تشبثت بيدٍ مدها أحدهم
أحد الهاربين
الحالمين
أحد النازفين النازحين المتألمين
لا أعلم أيهم انتشلها!
كان القطار مكتظًا !!
الآن التفتت، وجهت عينيها تعانق عيني
لوحت لي بمنديلٍ كان منذ لحظة في جيبها
أمام المرآة
تبعثرت اللحظة
اليوم فقط
ودعت نفسي للأبد !!
مي عزت Mai Abdo Izzat
السودان
____________
القراءة
(حكايتنا انتهت)، وعندما تنتهي الحكاية يُكتب الخلود بحروفٍ من دهب!
لعمري إنه انسلاخ الذات من الذات، ومفارقة النفس للنفس!
( حكايتنا انتهت ) بداية النهاية أم نهاية البداية؟ سؤالٌ يطرحه النص أم نسأله لأنفسنا؟
الحكاية ككل الحكايا تبدأ بتزايد دقات قلب وارتعاشة كف وخفر عين، ومن ثم تتناوبنا الأحلام بكل أطيافها المزهرة جنانًا والمورقة حنينًا وحنانًا، ثم تأتي النهاية ترفل في صفعة غدر أو هجر أو مفارقة؛ لا يهم هنا السؤال لم ؟، فالمحظور قد وقع، وامتطانا الوجع.
الحبيب راح ولا رجعة له، ليبقى الصراع بيننا وبين أنفسنا، جزءٌ منا يحاول النجاة مخلفًا الذكريات ورائه، ومتحالفًا مع النسيان، وأحيانًا معيدًا لنفس الحكاية؛ شخص آخر وحب آخر، وجزءٌ منا يتشبث بالذكريات، متعلقًا بحبالٍ من وهم، جدلها أملٌ في عودة، ولهفةٌ في لقاء، متفيئًا تحت شجرة الانتظار، تمامًا كما أبدع صمويل بيكيت ( في انتظار جودو )، وجودو لم ولن يأتي، لكنه القلب حين يغلق أبوابه على ما فيه، ويحكم رتاجه؛ متنعمًا في خلودٍ أبدي، رغم وجعه وألمه، لشتد الصراع بيننا – أنا وأنا – وينتهى بانسلاخنا؛ أنا إلى نجاة وحياة جديدة ( تشبثت بيدٍ مدها أحدهم
أحد الهاربين
الحالمين
أحد النازفين النازحين المتألمين )
وأنا إلى خلود أبدي (اليوم فقط
ودعت نفسي للأبد !!).
أذهبت بعيدًا حيت قلت أنه انسلاخُ خلود؟!
نص سردي صيغ كقصيدة نثر أم قصيدة نثر تخللتها قصة مسرودة؟
ذلك عادة ما أقف أمامه كثيرًا – متحيرا- كلما تصديت لنصٍ من نصوص د. مي عبد الحميد عزت، فالأديبة تمزج بين الشعر والنثر بتلقائية مذهلة، إذ قلما تخلو نصوصها من الصور الشعرية، والموسيقى الداخلية والإيقاعية أحيانا، بل أكاد أجزم باستحالة خلوها وليس قلتها فقط.
مي عبده أنموذج مثالي للكاتب الذي يكتب لإمتاع نفسه وإرضائها، هى نفسٌ عطشة دائمًا تتوق لإرواء ظمأها، وسلسبيلها حروفها النازفة فرحًا والمبتهجة ألما.
عندما أقرأ ل/ مي عبده لا تشغلني – كناقد – حبكة أو معالجة، ولا يؤرقني كون الفكرة مكررة أكل الأدب عليها وشرب، بل أجد نفسي سابحًا مع كلمات نصوصها، ما تفيض به من وجد، ومحلقًا – تحملني أجنحة- في سموات صورها البلاغية!
لا أقرأ لأنقد، فمع نصوص د. مي أقرأ لاستمتع فقط.
وفق نظريتي النقدية ( القوة الناعمة للفن السردي) فالمقياس الأساس يندرج تحت عاملين رئيسين ( المتعة الوجدانية، والمتعة الذهنية)، وفي نصوص د. مي أجد المتعتين نضاحتين، وأجد متعتي كشاعر وأجد متعتي كقاص وقبل كل ذلك أحس أنني إنسان!…إنسانٌ خالدٌ بأفراحي وأتراحي، بضحكاتي ودموعي، بلهاثي وتأملي…فماذا أريد غير ذلك ؟!
******************
محمد البنا/ القاهرة في ١٤ مايو٢٠٢٤






