مغرب مشهود
بقلم :ماهر اللطيف
ولجنا المسجد مغربا قصد أداء الصلاة جماعة ككل يوم وكلنا فرح وابتهاج وارياح وهدوء وسكينة وطاعة وطمع في رحمة الله وغفرانه وتقبله منا الصلاة والدعاء واجتهادنا في الطاعة والخشوع والجدية وغيرها من صفات المؤمن الحق التي نسعى إلى ادراكها بعون الله وفضله ما دمنا على الأرض قبل سكننا تحتها حين يحين الأوان .
فأطلقنا السلام على المتواجدين بالمكان – وقد رد بعضهم فقط على تحيتنا – قبل أن نجلس ونقرأ ما تيسر من القرآن، ثم نذكر الله كثيرا ونسبح بحمده ونحوقل ونستغفره دون انقطاع سرا، وقد امتلأ المكان بالذاكرين والشاكرين مع أداء الآذان وانتشار صوت الحق في كافة أرجاء المدينة.
وما هي إلا دقائق معدودة حتى حل موعد إقامة الصلاة، فاصطف الجمع واستعد بكل جدية وثبات ونية في الخشوع والاداء الحسن وفق ما تمليه عليه هذه الصلوات المفروضة على كل مسلم، ثم كبّر الإمام وشرع في تلاوة الفاتحة – تلاوة تقشعر لها الأجساد من عذوبتها وحسن ادائها – ، فسورة “الكافرون” – بنفس الأداء المميز المعتاد لإمام الخمس -، قبل أن يكبّر .
ومازلنا نردد ” سبحان ربي العظيم” ثلاثا ونستعد لسماع الإمام يقول “سمع الله لمن حمده” ونجيبه “ربنا ولك الحمد”، حتى شعرت بمصل على يميني يشخر شخرة قوية و يحاول التنفس بقوة، يرتعش ارتعاشا كبيرا لم يجعلني اخشع كالعادة من شدته، يمسك برقبته وهو يهتز ويسقط، يتمتم بعبارات غير مفهومة، يصيح بأعلى صوته مكبرا وموحدا الله، قبل أن يقع أرضا على رأسه دون حراك.
فاعتراني الهلع والخوف، وشح ريقي وابتللت عرقا،و ارتعدت قوائمي وكدت أفقد صوابي وتوازني، وهجرت كل تركيز وخشوع وبت اتبع المصلين في حركاتهم وتصرفاتهم وأنا أكبّر الله دون انقطاع وأدعو للمصاب حتى يشفيه الله ويرعاه – وأعدت صلاتي وحيدا بعد هذه الحادثة هنا في انتظار صلاة العشاء – .
َومع ذلك،فقد واصل الجمع الصلاة والتقرب من القهار دون أن يولوا الأمر أي اهتمام و “جاري” ممددا أرضا دون حراك وقليل من الدم ينسكب من أنفه وفمه وجبينه.
وما إن أطلق الإمام السلام معلنا نهاية الصلاة حتى تجمع الناس حول “الملقى أرضا” مستفسرين وذاكرين الله كثيرا، متسائلين عنه وعما حل به، عن من يعرفه وعن الخطوات التي يجب انتهاجها في مثل هذه الحالات…..
فتقدم أحدهم وطلب منا الإبتعاد قليلا وفسح المجال له لأداء مهامه على أكمل وجه بما أنه طبيب، فكشف عنه وتلمس نفسه ونبضه ودقات قلبه وغيرها، قبل أن يغمض عينيه ويكبِّر كثيرا ويعلن وفاته.
فطلب في الحين الإسعاف والشرطة ووكالة الجمهورية – ليقوم كل طرف منهم بمهامه الموكولة له في مثل هذه الحالات -، ثم حاول معرفة هوية “الهالك” من المصلين إن كان أحدهم يعرفه ليتصل بأهله قبل قدوم السلط الرسمية….
وفي الأثناء، كان المصلون يذكرون الله ويدعون للميت بالرحمة والمغفرة والثبات عند السؤال والقبول الحسن في الحياة البرزخية حينا، ويتناقشون ويتبادلون الحديث حينا آخر وكل أحد يدلو بدلوه و” يفتي بفتواه” مدعيا معرفة الحقيقة دون غيره في هذا المجال، فقال أحدهم بصوت مسموع ونقي :
– الحمدلله إنه تاب ورجع إلى الصواب قبل الممات، فأقلع عن مقارعة الخمر ولعب القمار…
– (مصل ثان مقاطعا) استغفر الله أخي واتق الله، “اذكروا موتاكم بخير”…
– (ثالثا مهدئا) لا إله إلا الله محمد رسول الله. أحبه الله فأماته في بيته وهو بين يدي الله يعبده ويدعوه ويرجو صفحه ومغفرته ورضاه، وقد أرضاه وقبل دعواه….
في حين كان “الطبيب” وقلة من المصلين الآخرين يحاولون تسهيل عمل المسعفين – حين يحضرون-، فأبعدوا الناس من حول الميت وغطوه برداء أبيض اللون، وأقاموا حاجزا بشريا حوله لمنع الناس من التطفل وحب الإطلاع والتعليق والتدخل في الأمر….
فتذكرت حينها – وكنت ممن كونوا الحاجز البشري- أني قرأت مرة منذ عقود مضت رد أحد مشائخ الأزهر قوله أن ” حسن الخاتمة ليس مقصورا على من مات وهو ساجد أو صائم أو كان حاجا ملبيا، ولكن يكون حسن الخاتمة أن يأتيك الموت وليس لأحد عندك حق، أو آمن منك جيرانك، ولست واكلا ميراث اخوتك، ولست تاركا لصلاتك أو مقصرا في زكاتك…. ” (الدكتور رمضان عبد الرزاق، عضو اللجنة العليا للدعوة بالازهر الشريف).
فاستفقت فجأة وعدت إلى الواقع حين كثر الضجيج وامتلاء المكان وامتزح بالبكاء العويل من جهة – أهل الضحية – ، وتدخل رجال الإسعاف وقيامهم بمهامهم بعد تدخل أعوان الشرطة و وكيل الجمهورية من جهة أخرى، وتواصل نقاشات المصلين بصوت مرتفع من جهة ثالثة، وذكر الله والتسبيح والحوقلة والدعاء من جهة رابعة، وتلاوة القرآن بصوت مسموع من جهة خامسة، وصلاة الناس – تحية المسجد أو النوافل أو المغرب لمن لم يصله جماعة – من جهة سادسة…