التوجه الأيدلوجي وأثره في المنتج الأدبي
قراءة بقلم / محمد البنا
لرواية * هل كذب دارون ؟ *
للأديب المصري / شرقاوى حافظ
_______________________
للقص السردي القصير عادة محور واحد، إذ قلما ينجرف مبدعها إلى محورٍ ثان، محكومًا بضيق المساحة النصية، وبسرعة بلوغ الهدف- التكثيف- من السردية ذاتها، بينما في العمل الإبداعي الروائي فالمساحة متاحة، وعدم التقيد بمبدأ التكثيف – في شقه الحجمي- مجاز، لذا يمكن للروائي أن يدرج في عمله العديد من المحاور كما يتاح له تعدد الشخوص والأماكن والأحداث والأزمنة المصاحبة لها، وكاتبنا الهمام سلك ذلك المسلك ( تعدد المحاور) في إنشائه لروايته هذه التي نحن بصدد تناولها نقديا.
محاور الرواية
__________
المحور الأول : كان سياسيًا بامتياز، إذ ابتنى فكرته على نظرية المؤامرة من منطلقها الأعم شيوعًا ألا وهو تآمر الدول الغربية وخاصة أمريكا، على الدول الشرقية وخاصة مصر.
المحور الثاني : هو المحور الإجتماعي ومثاله الأكثر وضوحًا تمثل في شخصية ” حنان ” بطلة الرواية وما صاحبها من أحداث وشخوص.
المحور الثالث : كان دينيًا عامًا وإسلاميًا خاصًا، إذ حرص الكاتب على تضمين متنه نماذج متباينة في مفهومها للدين بدءًا من المتطرف مرورًا بالمعتدل وانتهاءً بالمتسيب وخاتمًا باللاديني.
المحور الرابع : كان ثقافيًا، إذ عمد الكاتب إلى استعراض موسوعته الثقافية وحشرها في المتن السردي بمناسبة ( توظيف سليم)، وبلا مناسبة ( اقحام الكاتب ).
البناء الروائي أو هندسة النص
_______________________
اعتمد الكاتب تقنية تيار الوعي السردي ليصوغ لنا الأحداث بلا ترتيب تصاعدي أو تنازلي، فقسم المتن إلى فقرات متتالية متباينة زمانيًا ومكانيًا، ووالف مع هذه التقنية تقنية أخرى مضافة ألا وهى المشهدية الثنائية ( حنان / مدحت، حنان / عصام، عطية/ سمية، عطية/ هناء، محمود / رأفت، رأفت /سارة، سارة/ وائل….وهكذا.
وارى- رؤية متخيلة – أن الكاتب وضع أمامه رقعة شطرنج خالية من قطعها، ثم بدأ بوضع القطع أحيانًا فردية، أي قطعة قطعة، وأحيانًا قطعتين متلازمتين وهو ما انتج لنا الشكل المشار إليه فيما سبق ( المشهدية الثنائية ) ومن ثم تمتلئ الرقعة في منتصفها تماما ( المربعات الأربع الوسطى ) ب ( حنان، مدحت، سارة، وائل). محققًا بذلك نهاية المباراة ومسجلًا أهدافها المتعددة ومنها التكافؤ الجندري( حنان وسارة مقابل مدحت ووائل )، انتصار ( حنان وسارة..النموذجين الدينين الشرقيين ” مسلمة ومسيحية ” ) هزيمة (مدحت ووائل ..النموذجين الغربيين اللادينيين الممثلين لنظرية المؤامرة ).
بناء الشخصيات
___________
الشخوص الرئيسة والثانوية:
حنان…بطلة الرواية؛ شخصية مصرية مسلمة بلا مظاهر تدين واضحة، متعلمة طموحة تنتمي لطبقة أقل من متوسطة ( الأم سمية عاملة نظافة، الأب عطية فني كهرباء)، تعيش صراعًا خافتًا بين الطموح العلمي والمشاعر العاطفية، أجاد الكاتب في بناء هذه الشخصية المحورية، وأظهرها في ثوب الساعية إلى المعرفة الصحيحة لكل ما يدور حولها من أحداث..أسببابها ومبرراتها سلبًا أو إيجابا.
عصام …بطل الرواية – كما استقر في ذهن الكاتب، إلا أن ذلك خالفه المتن السردي بأحداثه وشخوصه المؤثرة، فاندرج بلا قصد إلى مرتبة الشخصيات الثانوية في شقها ” الشخصية المعينة ” أي الداعمة للبطلة والمساندة والمنقذة أحيانًا.
مدحت/ وائل…شخصية واحدة وزعها الكاتب على محورين من محاوره الأربعة …مدحت للمحور السياسي، ووائل للمحور الديني، ومن قبل أشار في الاستهلال إلى ” ياسر ” كمؤشر على فساد أخلاقي مجتمعي( المثلية والحرية الجنسية) بالتضافر مع المحور الثقافي( الخبز العاري والحافي)، لينتهي بنا في النهاية ب ” ماجد ” مؤكدًا به على صدق دارون ( توارث الجينات) إذ وظفه – ماجد- الكاتب كنتاج طبيعي لمورث جيني ( ابن سفاح، أم داعرة شهوانية مدمنة مسكرات ومخدرات).
عطية …الشخصية المصرية المكافحة في صورتها النمطية المتكررة مئات المرات في قصصنا وأفلامنا السينمائية( القادمة من الريف للمدينة)، مع التصرف.
سمية …أم محمود…صورة نمطية أيضًا
أما هناء فتم حشرها في المتن لشيئين أولهما انجاب بطل القصة من سفاح، وثانيهما إضفاء مسحة أيروسية للمتن.
الحوار
_____
اشتمل المتن على كل أنواع الحوار كما نعرفها، الحوار المونولوجي “حديث الذات”، والحوار الديالوجي” الثنائي”، والحوار متعدد الأطراف( حوار المؤامرة)، إلا أن كلا النوعين الآخرين كانا الأقل مساحة نصية مقارنة بالنوع الأول ( المونولوج)، كما أنهما – الثنائي والمتعدد- سقطا جميعًا في فخ الصورة النمطية ( العارف/ الجاهل، الذكي/ الغبي)، وتضمن المتن أيضًا إقحام الكاتب لرأيه في عدة مواقف متجاوزًا بذلك سلطة الراوي العليم الذي اتكأ عليه كسارد للمتن في معظم فقراته، ظهر ذلك جليًا وسافرًا في تدخل الكاتب للتعقيب على حدث، ولإضافة معلومة ما.
الخطاب السردي
____________
ونعني به ماذا أراد أن يقول لنا الكاتب كقراء، وبصيغة أخرى هل استطاع أن يبلغنا رسالته؟
وللإجابة على هذا السؤال سأتطرق لعدة رسائل ارى أن الكاتب أراد توصيلها لقارئيه، أولها سخطه الشديد على الواقع المزري الذي نعيشه الآن كأمة عربية من المحيط ( المغرب) إلى الخليج ( الدوحة ) مرورًا بمصر ( مكان الحدث الأساس).
والرسالة الثانية تلخصت في بث أيدلوجيته الفكرية – اتققنا معها أو اختلفنا- من خلال شخوصه وسارده العليم وتدخله المباشر، والرسالة الثالثة تلخصت في تقديمه لنفسه كشخصية موسوعية ثقافية شاملة.
المعالجة
_______
المعالجة هنا تنقسم إلى جزئين، الجزء الأول معالجة الفكرة، وهو ما نجح فيه الكاتب بقدرته التخيلية على خلق عالم مواز ( متخيل) يستند على أرض واقعية يتشابهان ولا يتماثلان.
أما معالجة الحدث( إحكام العقدة ومن ثم حلها) فقد فشل الكاتب فيها، إذ غابت عنها المنطقية، بمعنى عدم اقتناع القارئ بالعقدة وطريقة حلها ( الخطأ في تركيب الشريحة)، ثم ما أتبعه بعد ذلك بنهاية لا تختلف في شيء عن نهايات حقبة أفلام الأبيض والأسود ( انتصار الخير على الشر)!
أحيانًا كثيرة نقول كنقاد أو يقال لنا كأدباء( دع الإبداع ينساب تلقائيًا مع موازنة عقلية أو رقابة واعية، فلا تكن شديد التفكير الوعي فيما تنزفه من إبداع، ولا تكن أيضًا العكس) أو على وجه الدقة اتباع مدلول الآية ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورا )، وأحسب هنا أن كاتبنا استولى عليه- وبقوة- تركيزه على تضمين إيدلوجيته، فسقطت منه الحبكة بما شابها من عوار، وتبسطت المعالجة إلى الحد الأدنى، بل وتباينت اللغة ووقع فيما لا يقع فيه من هو في مكانته – التي أعرفها وأثق فيها- اللغوية والأدبية، فقد شاب المتن الكثير من الأخطاء الإملائية والنحوية والبلاغية أيضا، ولأعطي أمثلة عابرة وليست حاصرة ك ( ولكن شيءٌ ما بداخلها) ص.٧
(يدخل بلا طابور) ص ٩
(رغم تغيير معظم المنازل إلى المواسير) ص ٩
(الذي يفصل بينهما ) !..بين من ومن ؟ ص ١٠
( إلا في حالة تأخيرها) ص ١٠، والأصوب ” تأخرها.
تكرار كلمتي ( الخصم والتأخير في أسطر متتابعة).
( سوى أنه لا بد أن يطفئ.. ) ص ٩٠
والأصوب ( سوى أن يطفئ ..).
زكريا يسأل زكريا !! ص ١٠٩.
الخلاصة
________
أقوى ما في الرواية أرى أنه براعة الكاتب المشهودة بجلاء في توظيفه المحكم السديد لتقتية تيار الوعي السردي بجميع تفرعاتها ( الفلاشباك/ التداخل الزمني/ التداعي الحر)
والشيء الآخر اعتماده الثنائية المقطعية (شخصان/ فقرة)، وإن كان الأقوى – في رأيي- دمج بعض الفقرات المرقمة، فيسهل على المتلقي المتابعة بجهد بسيط ودون إرهاق ذهني، والشيء الثالث وهو مهم أيضًا اعتماد الكاتب الإبهام المتعمد الكامل ثم التنقيط بالجزئيات المتتابعة إلى أن يكتمل البناء ويتضح المعنى ويزول المبهم.
**************
محمد البنا / القاهرة في ١٨مابو ٢٠٢٤