في مثل هذا اليوم29 مايو1945م..
قصف البرلمان السوري من قبل الجيش الفرنسي ومقتل أكثر حاميته، وعلى عدة أحياء في دمشق يؤدي لمقتل 600 وجرح ألف على الأقل.
العدوان الفرنسي على دمشق ومذبحة حامية البرلمان في 29 أيار 1945، هو عدوان عسكري قامت به قوات الاحتلال الفرنسي المتواجدة في دمشق بهدف قمع الاحتجاجات الشعبية السورية وتطلعات السوريين الرامية لإنجاز الاستقلال التام عن فرنسا.
تم اعتبار يوم 29 أيار من كل عام يوماً خاصاً لتخليد ذكرى رجال الأمن الداخلي الذين استشهدوا في ذلك اليوم الأغر، وعيدا رسميا في سوريا للاحتفال بقوى الأمن الداخلي بشكل عام.
لعب نشوب الحرب العالمية الثانية دوراً كبيراً في تغيير الأوضاع على المستوى الدولي، فقد انخرطت الدول الاستعمارية الرئيسة في صراع حاد مع دول المحور مما أدى إلى تغير في موازين القوى، إذ وجدت دول كبرى سابقة – كبريطانيا وفرنسا – نفسها عرضة للاحتلال أو التدمير، وتمكنت الجحافل النازية من احتلال معظم أوروبا وأجزاء من روسيا ووضعت بريطانيا فيما يشبه الحصار.
ولم يكن الوضع في سورية بعيداً عن هذا الصخب العالمي الكبير، ففرنسا – البلد المستعمر – انقسمت بين جماعتين: واحدة موالية لألمانيا النازية وعرفت بحكومة فيشي، فيما أعلن الجنرال ديغول الذي كان قائد القوات الفرنسية في الجزائر الانشقاق عن حكومة فيشي وترأّس ما كان يسمى حكومة فرنسا الحرة ومقرها مدينة الجزائر. وهكذا شهدت سوريا صراعاً بين القوات التابعة لحكومة فيشي وقوات حكومة الجنرال ديغول بالتحالف مع الإنكليز، حيث تمكنت القوات المتحالفة من إخراج قوات فيشي من سوريا في صيف عام 1941، وبعد أن استتبَّ الأمر للقوات المتحالفة قام الجنرال ديغول بجولة في سوريا ولبنان اجتمع خلالها بزعماء البلاد، وأصدر قراراً بتسمية الجنرال كاترو مفوضاً سامياً لحكومة فرنسا الحرة في سورية ولبنان عام 1942، وعلى إثر ذلك أذاع الجنرال كاترو (باسم الجنرال ديغول) وثيقة كاترو التي وعد فيها سوريا ولبنان بالاستقلال وحق تقرير المصير.
مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، أخذت تتبدى شيئاً فشيئاً مخططات المستعمر الفرنسي في الحفاظ على وضعه الاستعماري السابق، وعدم إفساح الفرصة أمام الشعوب – وخصوصاً الشعوب العربية – في الحصول على استقلالها الناجز التام، خصوصاً بعد رجحان كفة الحلفاء في الحرب، وقرب هزيمة ألمانيا النازية، حيث حاولت فرنسا أن تعيد سيطرتها الاستعمارية على بلاد الشام (وخصوصاً سوريا) وأخذت تماطل في تسليم كافة السلطات للحكومة السورية الشرعية وسلخ لبنان عن سورية.
الأيام التي سبقت العدوان
بدأت التحرشات الفرنسية بالحكومة السورية مع إطلالة شهر أيار وانتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الحكومة السورية أعلنت الثامن من أيار يوم احتفال بالنصر على النازية، إلا أن حدة التوتر في البلاد كانت في ارتفاع مستمر، وانطلقت المظاهرات الغاضبة في مختلف المدن السورية.
وبتاريخ 18-5-1945 عقدت مباحثات بين وفد فرنسي بقيادة الجنرال بينيه المندوب العام مع وزيري خارجية سوريا ولبنان، ورفضت سوريا أن يكون الجنرال أوليفييه روجيه (قائد حامية دمشق الفرنسية) من ضمن الوفد الفرنسي مما جعله يحقد على سوريا والمسؤولين فيها.
وقد جاءت المطالب الفرنسية أثناء المفاوضات متنافية مع السيادة والحرية واتخذت طابع الإنذار والفرض، وتزامن ذلك مع إنزال تعزيزات عسكرية فرنسية كبيرة في ميناء بيروت، ونتيجة لذلك قررت الحكومتان السورية واللبنانية قطع المفاوضات وتهيئة البلاد لجولة من العنف الذي ستمارسه القوات الفرنسية.
بتاريخ 21-5-1945 استدعى جميل مردم بك رئيس الوزراء بالوكالة الزعيم عبد الله عطفة لوضع خطة لاستدعاء ضباط وجنود الوحدات الخاصة لتشكيل جيش وطني، وشرعت المدن السورية تتأهب لرد أي عدوان مسلح وقدم المئات من الشبان أنفسهم كمتطوعين لحمل السلاح كما بدأ الضباط والجنود بالالتحاق بقوى الدرك والشرطة وكذلك فعل العديد من النواب اللذين ارتدوا اللباس العسكري وصاروا يتدربون على القتال في ثكنة الشرطة الموجودة في قلعة دمشق.
في 23-5-1945 طلب الجنرال باجيت القائد العام للجيش البريطاني التاسع من مقر قيادته في مصر من الجنرال الفرنسي أوليفييه روجيه تجنب الأعمال الاستفزازية التي تقوم بها المدرعات الفرنسية المرابطة في شوارع دمشق والمدن السورية وعدم تحليق الطائرات فوق المساجد في أوقات الصلاة، وأبرق إلى حكومته في لندن، يعلمها باستعداد الفرنسيين لانتهاج طريق العنف.
وقد طلب السفير البريطاني في باريس نزع الفتيل عن الوضع المتفجر في سوريا وكان جواب ديغول الرفض وقد كتب في مذكراته بعد ذلك يقول: ”بسبب قناعتي بتآمر البريطانيين مع السوريين فإننا لن نرحل إلا إذا كنا مجبرين وسنذهب إلى حد مقاتلة الثوار السوريين والإنكليز معاً» مما يدل على تصميم فرنسا على إبقاء الاحتلال والعدوان.”
بلاغ القيادة العسكرية الفرنسية
أصدر الجنرال الفرنسي أوليفييه روجيه بياناً إلى القوات الفرنسية صادر عن دائرة الأركان الحربية ب – د رقم 24، جاء فيه:
“أيها الضباط والجنود العاملون تحت العلم الفرنسي، عليكم التقيد بالتعليمات التالية:
1-وجوب إبادة جميع عناصر الشغب التي تريد إخراج فرنسا من سورية
2-وجوب احتلال جميع دوائر الحكومة ومؤسساتها ومنشآتها الثقافية والاقتصادية
3-منع اتصال الحكومة السورية مع جميع دول العالم وبالدرجة الأولى مع جيرانها العرب وأصدقائها الدول الاشتراكية
4-وجوب تجريد جميع أفراد الشعب من أسلحتهم وآلاتهم الجارحة خلال 24 ساعة من الآن
5-وجوب وضع البلاد تحت الحكم العسكري وإعلان الأحكام العرفية.”
ثم وزعت الإدارة العسكرية الفرنسية في البلاغ قواتها على الأماكن الحساسة التي يجب أن ترابط فيها، وأعطت الأوامر لاحتلال مدينة دمشق عند إعطاء أول إشارة إنذار، وأشارت إلى أن السلاح الجوي الفرنسي يستطيع أن يثير الذعر في نفوس السكان، وإذا اضطرت فإنها ستلقي القنابل المحرقة على أماكن التجمعات البشرية والسكانية، وحذر البلاغ الطيارين من الانخفاض كثيراً أثناء الطيران بطائراتهم لأن المعلومات لدى الإدارة الفرنسية تفيد بأن المواطنين يملكون أسلحة متوسطة تستطيع إسقاط الطائرات، وختمت الإدارة الفرنسية بلاغها محذرة جنودها في حال تفوقت القوات السورية عليهم في بعض الأماكن، بأن يتلفوا أسلحتهم إذا لم يتمكنوا من استعمالها، خشية أن يستولي عليها المقاومون ويسددوها إلى صدور الفرنسيين.
وفي 26 أيار عام 1945 أصدر الجنرال أوليفييه روجيه بلاغاً جديداً للفرنسيين استعرض فيه أحداث المقاومة العربية في بعض الأماكن من المناطق السورية، وأشار إلى أن بعض الجنود الفرنسيين أصيبوا بطعنات الخناجر في دمشق وحماة ودير الزور، وأن بعض الضباط حوصروا، وتم القضاء على بعضهم وكاد أن يتم القضاء على البعض الآخر، وحذر البلاغ الفرنسيين من الابتعاد عن الأماكن المخصصة لتمركزهم حتى لا يعرّضوا أنفسهم لأخطار محدقة دون أن يكون في وسعهم الدفاع عن أنفسهم، وأوصى البلاغ الضباط والجنود الفرنسيين أن يتحلَّوا بالصبر وقوة الأعصاب ريثما تنتهي الأزمة التي لا يمكن التغلب عليها إلا بارتكاب مجزرة كبيرة.
وكانت المعارك في هذا الوقت قد اشتدت في حلب وحمص وحماة ودير الزور بين الفرنسيين والأهالي وسقط فيها العديد من القتلى والجرحى.
الخطة الفرنسية للعدوان على دمشق
كانت نية الفرنسيين في العدوان على دمشق قد غدت جلية للعيان، حيث نقل العسكريون الفرنسيون عائلاتهم إلى ثكنات المطار والمعسكرات، واستقدموا قوات جديدة نزلت على الشواطئ اللبنانية، وبدأوا بنشر المصفحات والدبابات في الأماكن الرئيسية الحساسة في دمشق.
الخطة الفرنسية التي وضعها الجنرال أوليفييه روجيه تهدف إلى ضرب المجلس النيابي السوري وقتل كافة الوزراء والنواب من أجل إحداث فراغ دستوري يسمح للفرنسيين أن يأتوا بأعوانهم إلى سدة السلطة، وضرب مركز الشرطة والدرك في القلعة واحتلال جميع دوائر الدولة وتجريد الشعب من السلاح وفرض الحكم العسكري الفرنسي المباشر.
وحدد يوم 29 أيار لبدء العدوان حيث كان مقرراً عقد جلسة للمجلس النيابي يحضرها الوزراء في الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، ومن أجل إيجاد ذريعة لبدء العدوان طلب الفرنسيون من حامية المجلس النيابي أن تصطف لتحية العلم الفرنسي عند إنزاله مساءاً من فوق سارية دار الأركان الفرنسية (دار المندوبية) التي كانت تقع مقابل البرلمان مباشرة في الموضع الذي شيد عليه بناء السكري فيما بعد.
العسكريون السوريون يعلنون التمرد
في ذلك الوقت كان العسكريون السوريون العاملون تحت إمرة القوات الفرنسية في حالة تململ وتوتر بسبب خطورة الوضع الذي اتضحت أبعاده، وأخذت أعداد كبيرة من الضباط وصف الضباط والجنود يفرون من ثكناتهم ويلتحقون بالقوات الوطنية، فيما رفض أولئك الذين لم يتمكنوا من الفرار تنفيذ الأوامر، مما حدا بالقيادة الفرنسية إلى استشعار الخطر وارتأت القيام بتحرك سريع وحاسم قبل أن يفلت من أيّديها زمام الأمور.
وقائع العدوان
في تمام الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم 29 أيار 1945، وجّه الجنرال روجيه إنذاراً إلى رئيس المجلس النيابي يهدده فيه بانتقام فرنسا من المواطنين السوريين الذين يعتدون على الجنود الفرنسيين، ويطلب إليه أن تقوم قوات الشرطة والدرك السورية المرابطة حول المجلس بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في المساء عن دار أركان الحرب الفرنسية المواجهة للمجلس.
وكان عدد قليل من النواب قد جاؤوا لحضور جلسة البرلمان ولما لم يكتمل النصاب طلب رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري من النواب الانصراف، وقد ألغيت جلسة مجلس النواب في تمام الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم نفسه، وكذلك انصرف الوزراء الذين حضروا إلى المجلس.
وعقدت الحكومة الوطنية اجتماعاً سرياً طارئاً في منزل أحد الوزراء لبحث الوضع، بعد أن طوقت المصفحات الفرنسية دار الحكومة والمجلس النيابي، وكانت حشود من جماهير دمشق قد خرجت إلى الشوارع للإعراب عن غضبها على التصرفات الفرنسية في محاولة لفك الحصار عن المجلس النيابي، فوجدت نفسها في مواجهة القوات الفرنسية.
وقد رفضت حامية مبنى المجلس النيابي (البرلمان) أداء التحية للعلم الفرنسي أثناء إنزاله من على ساريته في دار الأركان الفرنسية الذي يقع في مقابل مبنى المجلس، بعد أن تلقى قائدهم مفوض الشرطة سعيد القهوجي أمراً بالرفض من رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري، فاتخذ الفرنسيون ذلك ذريعة لمهاجمة حامية البرلمان، مستخدمين قوات السنغال، المزودة بالأسلحة الفتاكة من مدافع هاون ورشاشات كبيرة وصغيرة ودبابات ومصفحات.
في تمام الساعة السادسة وخمسين دقيقة فتح جنود الحامية الفرنسية المرابطون في شارع النصر النار على المواطنين الذين خرجوا في مظاهرات احتجاجية، وفي نفس اللحظة دوى صوت القنابل وطلقات الرصاص وهي تنطلق من دار الأركان الفرنسية تجاه البرلمان، ولم يطل الوقت حتى كانت جميع المراكز الفرنسية في دمشق تشارك في إطلاق الرصاص والقنابل، فيما تقدمت المدرعات الفرنسية لتوجه نيرانها باتجاه مبنى البرلمان بكامل قوتها، بينما استحكم رجال الدرك السوري ورجال الشرطة المولجون بالدفاع عن البرلمان وراء متاريسهم، وشرعوا في مقاومة ضارية لوقف تقدم القوات الفرنسية، معتمدين على أسلحتهم المتواضعة، رافضين الاستسلام لقوات المستعمر، ومدفوعين بحب الوطن والدفاع عن عزته وكرامته، ولم يمر وقتاً طويلاً حتى أخذت ذخيرة المقاومين تنفذ، والخسائر بين صفوفهم تزداد، وهم يقاتلون في مواجهة آلة عسكرية تفوقهم قدرة على نحو كبير، واستمروا بالقتال حتى نفذت ذخيرتهم، عندها اقتحمت القوات الفرنسية مبنى البرلمان لتنفذ أبشع جرائمها الوحشية، بتمزيق أجساد الناجين من المقاومين بالسواطير والحراب، والتمثيل بجثث من استشهدوا، ومن بين المدافعين الذين كان عددهم ثلاثين مقاوماً، استشهد ثمانية وعشرون، وبقي اثنان من عناصر أمن المجلس النيابي، هما شهير الشراباتي (ورد في بعض المراجع باسم شهير الترياقي) وإحسان بهاء الدين اللذان استطاعا الفرار والنجاة من الموت المحقق بأعجوبة، بالإضافة إلى الشرطيين إبراهيم الشلاح ومحمد مدور، اللذين تظاهرا بالموت بعد أن رميا نفسيهما بين القتلى، ليصبحا الشهيدين الحيّين، وليرويا فيما بعد وقائع هذه المجزرة الرهيبة، كما يذكر أبناء عائلة برنية أن شقيق الشهيد عبد النبي برنية – محمد برنية – كان موجوداً وتعرض لنفس المعاملة، ولكن كتب له النجاة وأصبح مختاراً لحي برنية فيما بعد. وقد تم التمثيل بأجساد الشهداء أشنع تمثيل وقد شوهدت بعض الجثث بلا آذان وبعضها مقطعة الأيدي وبعضها مفقودة العينين كما شوهدت آثار السواطير على أجسامهم بشكل تقشعر له الأبدان.!!