القصيدة بين ادب الحلم وادب الخمر

قراء نقدية مزدوجة:”القصيدة بين أدب الحلم وأدب الخمر”
فقرة جمع بصيغة المفرد(مبدع/مشاكس/ ناقدة)
– الابداع:خطبة الوداع:المبدع :حمد حاجي(تونس)
– المشاكسة:”واعرف انك صعب المزاج”:عمر دغرير(تونس)
– الناقدة: جليلة المازني(تونس)
المقدمة:
ان ابداع الشاعر حمد حاجي ومشاكسة الشاعر عمر دغرير على طرفي نقيض فلئن اندرجت قصيدة المبدع ضمن أدب الحلم فان قصيدة المشاكس تندرج ضمن أدب الخمر.
القراءة النقدية:”القصيدة بين أدب الحلم وأدب الخمر”
لقد اتخذ المبدع حمد حاجي عنوان القصيدة “خطبة الوداع”وهو يتناصّ مع عنوان لخطبة من خطب الرسول (عليه الصلاة والسلام)وهي خطبة الوداع وفي خطبة الوداع قام الرسول خطيبا في الناس ونادى بحق النساءوأوصى بهن خيرا حين قال”اسْتوصُوا بالنساء خيرا فانهن عندكم عوان”
وصيغة “استوصوا” تفيد الاستمرارية في وصية الرسول بالنساء.
هل الشاعر يقصد هذا المعنى من العنوان للقصيدة؟
ان الشاعر من خلال هذا العنوان قد استخدم أسلوبا بلاغيا يقوم على التوْرية.
والتوْرية هي نوع من أنواع البلاغة والمحسنات البديعية وتعني اطلاق لفظ له معنيان:
– معنى (قريب) يصل الى الذهن لأول وهلة ولا يقصده الشاعر .
– معنى (بعيد) لا يصل الى الذهن الا بعد تمعن ورويّة ويقصده الشاعر.
عند قراءتنا للعنوان”خطبة الوداع” فان المعنى (القريب) الذي يتبادر الى الذهن هو خطبة الوداع للرسول لكن الشاعر باعتباره قد ملك ناصية البلاغة وهو المختصّ في اللغة العربية يقصد معنى (بعيدا) نحن سنكتشفه بالتحليل لمعاني النص.
ان التورية وجه من وجوه التعبير الفنّي التي يستعين بها الاديب في التعبير عما يقصد دون ان يكشف أمره أو يفتضح شأنه حينما لا يريد الافصاح عن مقصوده ومغزاه كما تمكّنه من اخفاء المعاني التي يخشى التصريح بها فيورّي بمعان من لفظ التورية وبهذا يدفع المحذور مع الصدق فضلا عما يتصل بها من ايجاز مع ما تثيره في نفس المتلقّي من تأملات وتدفع اليه من مقارنات لما لها من القدرة على الربط بين المعْنييْن والتوفيق بينهما..انها ايحائية في التعبير لا يحس بها المتلقي الا بعد جهد.
في هذا الاطار عن أي خطبة وداع يتحدّث الشاعر؟؟؟
لقد هيّأ الشاعر كل ظروف الحُلم لهذا الرجل الحالم بما في ذلك نافذة الزجاج التي يرى من خلالها حلمه شفافا والمبدع يشرّع بذلك الى أدب الحلم.
فقصيدة المبدع حمد حاجي تندرج ضمن أدب الحلم (نافذة الحلم/وأشرع للحلم ألواحه / خرزة في المنام/أفقت على الحلم) يقول المبدع:
“وساقا على الساق رحت أراقب نافذة الحلم خلف الزجاج”.
واذا الطيور تجيء والطيوركناية عن الفتيات الى أن تأتي حُلم حياته.يقول:
“فتأتي كأن بها وَهَنًا تتهادى,رويدا تسير وتضلع مشية لاجي”.
كل هذه الصفات تبرز تلكّؤها في القدوم اليه وعدم رضاها.
انها مكرورة على وجهها ولعل تضمين الشاعر لتلك اللوحة التي تظهر فيها الفتاة غير سعيدة بالزواج من رجل مُسنّ لها دلالتها في عدم الرضا.
ورغم ذلك فهي تظاهرت بحبّه وأنها لم تأت لقضاء حاجة منه باعتباره غنيا وماله سيغطّي عن كونه مُسنّا كما تدعم اللوحة ذلك .اذ الشاعر استخدم جملة مبنية على الحذف حين قال:
تقول” أحبك لست مهملة او أنا قاضية منك..”أصل العبارة “أنا قاضية منك وطرا”وقضى منه وطرا” تعني نال بغيته منه.انها نفتْ عن نفسها أي مصلحة تنتظرها منه بهذه الجملة التي حذفت منها كلمة “وطر”.
ان بوْحها بحبّه والبوح (الاقرار)سيّد الأدلة وقد جهل هذا الحالم ان حتى الاقرار وان كان سيد الأدلة فهو مطعون فيه قانونا فما بالك في المعيش اليومي؟.
لقد صدّقها وألبسها خاتم الخطوبة وهو يقسم أنه يحبها وسيطلبها للزواج.
ويختم الشاعر القصيدة بأن جعل هذا الحالم بخطبة فتاة صغيرة يفيق من حلمه ليجد نفسه يغطّ ببهو “القراج” وكأني بالشاعر بهكذا قفلة جعل هذا الحالم يستفيق ويفهم ان الحلم لايمكن ان يكون حقيقة وكأني به يقول :وداعا لهذه الخطبة.
وبالتالي فعنوان القصيدة”خطبة الوداع”ومعناها القريب الذي يعود الى خطبة الوداع للرسول لا يقصده الشاعر بل يقصد معنى بعيدا وهو الوداع لخطبة قائمة على زواج غير متكافئ من حيث السنّ والعمر.
فالخطبة خطبتان والوداع وداعان:
– خطبة لها علاقة بالخطابة وهي معنى قريب لايقصده الشاعر.
– الوداع الذي هوآخر خطبة قام بها الرسول وهو معنى قريب لا يقصده الشاعر.
– خطبة لها علاقة بالزواج وهو معنى بعيد والشاعر يقصده.
– الوداع وهوموقف الشاعر من خطبة من أجل زواج غير متكافئ وهو المعنى البعيد الذي يقصده الشاعر.
كأني بالشاعريقول :وداعا لخطبة قائمة على زواج غير متكافئ.
ان الشاعر أورد هذه الخطبة لزواج غير متكافئ من خلال حُلم وليس حقيقة والحلم يبقى حلما قد يتحقق وقد لا يتحقق
وبالتالي هل يرفض الشاعر هكذا خطبة على أرض الواقع؟
ان الشاعر ليدْعم موقفه برفض هكذا خطبة فانه زاوج بين الشعري والتشكيلي لمزيد دعم اسلوبه البلاغي في التوْرية التي خدمت مغزى القصيدة بامتياز .
انه قدم تلك اللوحة التي تظهر فيها الفتاة غير سعيدة وتجعل الزوج شارد الذهن يفكر في مصير زواج غير متكافئ من ناحية السن والعمر ولعل القارئ هنا يمارس حقه في التأويل متسائلا:
– مع الايام سيزداد تقدّم الزوج في السن فهل ستبقى راضية به؟
– ان حزن الفتاة الزوجة ينطق بهاجسها وقلقها ان كانت ستبقى راضية به مع تقدّم عمره؟.
– هل الشاعر يريد أن نأخذ في الاعتبار مشكلة تفاوت السن في الزواج؟
– هل الشاعر يريد ان نفكر في المشاكل التي قد تحصل بعد الزواج نتيجة تفاوت السن؟
– هل الشاعر يُريدنا ان نستفيق ونسلّم بان الزوج والزوجة يتغيّران مع مرور الوقت وقد لايظلّ الزوجان متوافقيْن كما كانا في السابق؟
كل هذه التساؤلات هل سنجد لها حلّا عند المشاكس؟
ب- المشاكس عمر دغرير
لقد ابتدأ المشاكس عمر دغريرمشاكسته حيث أنهى المبدع قصيدته (صباحا أفقت على الحلم..كنت أغطّ ببهو القراج…)
هذه الفجوة النصية(الثلاث نقاط) جعلت المشاكس يمارس حقه في التأويل فتساءل عن سبب نوم المبدع ببهو القراج والمشاكس عليم بالسبب المتمثل في انسحاب سعدى من دنياه وتخليها عن هواه لذلك تعكر مزاجه يقول:
وأسال كما يسأل غيري لماذا تنام ببهو القراج؟…
وأعرف أنك مُذْ تخلتْ سعاد عن هواها
وانسحبت من دناك
صرت صعب المزاج…
وجعل المشاكس المبدع ينعرج في مسار آخر فجعله يعُوج على حانة البحر.يقول المشاكس:
صباحا تغادر بيتك دون أن تغلق بابك بالرتاج
تجوب البلاد طولا وعرضا
وقبل المساء تعوج على حانة البحر
كمريض يبحث عن علاج…
ان قول المشاكس”تعوج على حانة البحر”يتناصّ مع عجز بيت لابي نواس”وعُجْت أسال عن خمارة البلد”
هنا شرّع المشاكس لمشاكسته ان تندرج ضمن أدب الخمر(حانة البحر/ كأسان/ الندامى/ندي/تقرع الكاسين لتشعربارتجاج/تشرب كاسك/ثم تشرب كاسها/وتفرغ الحانة من الندماء/ترى المنازل في اعوجاج..)
واذا الحبيب في سكرته يبحث عن غير سعدى وبذلك يسكر سكرتين :سكرة الكأس وسكرة النادلة التي تزيده سكرة على سكرة فيقول:
“فتشرب كأسك ثم تشرب كأسها بابتهاج”
ان المبدع أصبح ثملا غير قادر على الخروج من الحانة وحده وقد تعبت النادلة في اخراجه
وبذلك يجد الحبيب نفسه لا يفوز بالنادلة وقد يخسر سعدى والمشاكس يذكّره بما أقرّته سعدى انه لا يصلح للزواج ولعل المشاكس بجواب سعدى قد يجيب عن تساؤلات القارئ أعلاه . يقول المشاكس:
وقبل ان تشرق الشمس ويرتطم شعاعها بالامواج..
طارت السكرة.
وتذكرت ما قالت لك سعاد
وما اقتنعت بعد,بانك لا تصلح للزواج…
لعل المشاكس هنا يلمّح لوضع مُزربين الزوجين:امّا ينعدم فيه الحوار واما تسود فيه الخيانة التي جعلت سعدى تتخلّى عن هواه فلا يجد الزوج ملاذا الا الارتماء بالحانة لمعاقرة الخمر وما يتبعها من معاقرة النساء والخمروالنساء ادْمَانان مضران بالصحة وبالاخلاق.
وهنا قد يتدخل القارئ بفضوله المُعقلن متسائلا:
هل الارتماء بين كؤوس الخمر وكؤوس النساءهوحلّ أم هو هروب من الواقع؟
لعل أدب الحلم للمبدع وأدب الخمر للمشاكس يلتقيان في الخيال والابتعاد عن الواقع والهروب منه وبذلك يمكن الحديث عن مزاوجة بين الابداع والمشاكسة.
الخاتمة:
ان المبدع حمد حاجي عبْرأدب الحلم يسلّط الضوء على ممارسة اجتماعية تتعلق بالزواج غيرالمتكافئ القائم على تفاوت السن بين الزوج والزوجة تحذيرا منه من المشاكل المنجرّة على ذلك وايمانا منه بنجاح الزواج المتكافئ .
اما المشاكس وعبر أدب الخمرقد استطاع ان يثير عدة قضايا أهمّها الادمان على الخمر وعلى معاقرة النساء بما فيها من خيانة وهدم لمؤسسة الاسرة.
سلم القلمان المتفرّدان ابداعا ومشاكسة.
بتاريخ03/06/2024
=== خطبة الوداع ===( المبدع حمد حاجي)
وأجلستُ قلبي على مقعد جانبي قشَعتُ عوالم روحي… فتحتُ سماواتِ بابي وكل رتاج.
وترشّفت من قهوتي جغمتين
ومن تبغ سيجارتي نفسيْن
وساقا على الساق رحتُ أراقبُ نافذةَ الحلم خلف الزجاج..
*********
تجيء الطيور .. تحطّ على شرفة النور والليلُ داج
أسافرُ في غيهب الضوء
في كوة الذكريات
وأشرعُ للحلمِ ألواحه في البحار
فتأتي كأن بها وهناً تتهادى، رُوَيْداً تَسير وتَضْلَعُ مشْيَةَ لاجِي..
*********
وقفتُ أصافحها.. فارتمى بين حضنين قلبي كأنّا بوقت عجاج
وغامت سماء وأدلج أفقٌ
ووسعت مجلسنا لحديث المجاز
فتهمسُ : كيفك أنت؟!
ويشرعُ قلبي يفاتحها وينير فتائلها والمعاني بجوف السراج
*********
تقول: أحبك لست مهملةً أو أنا قاضيةً منك حاجي
تسمّرتُ.. كان المدى من أمامي.. كما خرزة في المنام
وتسرعُ كفي لجيبي..
وأخرجُ منها الخواتم وضاءة في الظلام..
أقول: أحبك جدا وأهمس: والله أطلبك للزواج..!
*********
فَتَحتُ لها علبةً ثمّ خَتَّمْتُ اصبعَها ذهبا..
كأني لها مركزٌ والكواكبُ من حولنا في ارتجاج
كأنّي بهذاك ألبستُها من قشيب الدنى ألف تاج..
ا…………. ……….. ………….
صباحا، أفقت على الحلم.. كنتُ أغُطُّ ببهو الڨراج…
ا====. لوحة زواج غير متكافئ ===
لوحة زيتية بريشة الفنان الروسي فاسيلي بوكيرف..
ا=======
ظهرت هذه اللوحة عام (1862)، لوحة واقعيّة للرسّام الروسي (فاسيلي بوكيريف)، اذ يرسم في هذه اللوحة مراسم زفاف رجل مسن وفتاة صغيرة تبدو غير سعيدة بهذا الزواج. يظهر( بوكيريف) في اللوحَة خلفَ العروس مُباشرة أقصى اليمين مكتوف اليدين وشارد الذّهن…
=== قصيدة المشاكس===(عمر دغرير)

وأعرف أنك صعب المزاج”
وأسال كما يسأل غيري لماذا تنام ببهو الڨراج ؟…
وأعرف أنك مذ تخلت سعاد عن هواها
وانسحبت من دناك
صرت صعب المزاج …
+++++++++++++++++++++++++++++
صباحا تغادر بيتك دون أن تغلق بابك بالرتاج
تجوب البلاد طولا وعرضا
وقبل المساء تعوج على حانة البحر
كمريض يبحث عن علاج …
+++++++++++++++++++++++++++++
وفي البار نادلة تراففقك إلى ركنك الداجي
وتسألك كما دائما :
ماقون وكأسان ,وعجة في صحنين ,
وورقة سوف تكتب عليها : لا أريد ازعاجي …
+++++++++++++++++++++++++++
وتبتسم دون كلام متابعا طيفها في الزجاج …
وتلقي بنظرة في وجوه الندامى
وقد غرقوا في الضجيج
وما انتبهوا لحضورنديم عرف باسم حاجي …
وتغيب النادلة في الزحام وأنت نفسك تناجي …
وتنتظر متى طلباتك ترتبها
في الظلام
ومتى ستقرع الكأسين لتشعر بارتجاج …
وتشرب كأسك ثم تشرب كأسها بابتهاج …
وتعتقد أنها في الطريق إليك
ويطول انتظارك
وقد تمني النفس بالإنفراج …
وتفرغ الحانة من الندماء و الفجر على انبلاج …
وكم تتعب النادلة في إخراجك
لتقضي بقية الليل ترى الشوارع
والمنازل في اعوجاج
وقبل أن تشرق الشمس ويرتطم شعاعها بالأمواج …
طارت السكرة
وتذكرت ما قالت لك سعاد
وما اقتنعت بعد ,بأنك لا تصلح للزواج…