أم حكيمة
بقلم :ماهر اللطيف
بعد سيل جارف من المحاولات والخطط والحيل التي باءت جميعها بالفشل طيلة هذه السنوات، والتي لم تزد غير تفشي الضغينة والبغضاء بين الأخوة واستمرار قطع حبل صلة الرحم بينهم وانتشار القطيعة والجفاء حتى بين أبنائهم وزوجاتهم وأزواجهم منذ وفاة الأب قبل سنوات عديدة ، وبعد استعمار الحقد والكراهية لنفوسهم وعقولهم ومشاعرهم وأحاسيسهم واعتبار أخواتهم وذويهم و أطفالهم أعداء لدودين لهم لا يجب التعامل معهم إلى الممات جراء الطمع والجشع وحب الذات والعمل جاهدا من أجل التحايل عليهم وحرمانهم من الميراث – وهو ميراث ضخم جدا تركه المرحوم لهم نقدا وعينا، مالا وعقارا وشركات وأراضي وغيرها… – الذي لم تشأ الأم “مباركة” أن تقسمه عليهم إلا بعد مماتها – وقد تمت القسمة بينهم وفق الشرع والقانون لدى محامي العائلة وهو خالهم عبد الكريم الذي أخفى الوثائق والمستندات والوصية التي أسرتها عنده أخته إلى أن يحل أجلها -، قررت الأم وضع حد لهذه المهزلة وهذا الجرم الذي تشهده يوميا نصب عينيها ولم تقدر على تصويب هذا الخطأ الفادح وتعديله وارجاعه إلى الصواب بمعية عبد الكريم.
فقد استدعت مراد (الإبن الأكبر الذي تجاوز العقد الرابع من عمره وزوجته حنان وابنته سرور ذات العشرين سنة وحاتم الذي يصغرها بسنتين، يقطن بأفخم حي بالمدينة ويدير مجموعة شركات العائلة تحت رعاية فيلق من المحاسبين والمراقبين وغيرهم)، و حسن (الإبن الثاني الذي تجاوز أيضا العقد الرابع من عمره وزوجته عزة وابنه البكر محمد الذي تجاوز سنه العشرين سنة وأخته سناء ذات خمسة العشر ربيعا ودعاء التي لم تبلغ بعد عشرة سنوات، يقطن بحي فخم ويدير ويرعى أراضي العائلة ومصانعها الفلاحية تحت رقابة ومتابعة جملة من المختصين أيضا)، و رضا (الإبن الثالث الذي يستعد لغلق عقده الرابع وزوجته علياء وابنيه التوأمين عبد الرحمن وعبد الرحيم الذين يبلغان 17 سنة من العمر ورحمة ذات تسع سنوات وروضة التي أتمت مؤخرا سنتها السادسة وخديجة ذات السنتين من العمر، يدير العقارات والمنازل وبناءات العائلة تحت إشراف مراقبين ومحاسبين أيضا)، و سهى (36سنة وبعلها سامي وابنتها سعاد 16 وعلي 14 ونهال 12 و سوسن 7 سنوات، تعمل مديرة عامة لمجمع العائلة للشركات والمصانع والعقارات) و لبنى (البنت الصغرى ذات الثلاثين ربيعا، أرملة ولها ابن اسمه عيسى 10 وبنت اسمها ليليان 7 سنوات، تعمل في القطاع السياحي بأحد نزل المدينة الذي لا ترجع ملكيته إلى هذه العائلة بل لزوجها المسيحي الذي توفي منذ مايزيد عن السنة)، استدعتهم رسميا (عبر خالهم باعتباره محامي العائلة لأمر مصيري وحازم لا يتحمل التأخير أو التأجيل) هذا اليوم صباحا وأصرت على حضورهم رغم التململ والرفض والتردد وعدم الرغبة في رؤية البقية وغيرها ….
فقدم كل ابن مصحوبا بعائلته كما طلب منه، وبقي في ركن من أركان هذا القصر الكبير بعيدا عن إخوته و منع أبنائه من الاحتكاك ببقية الأبناء الموجودين هنا في انتظار حضور الأم وكشفها لأسرار وملابسات هذا التجمع العائلي الذي لم يلتئم منذ وفاة الأب ،وكان كل أخ يسترق النظر إلى بقية الحضور ويضمر لهم الكراهية والحقد الدفين والرغبة في النيل والانتقام منهم….
لكن مباركة كانت في بيت نومها المتواجد بالطابق الثالث تتناول فطورها و تراقب ما يحدث في الأسفل عبر كاميرات المراقبة صورة وصوتا، تلاحظ وتتأمل باكية ونادمة على ما آلت إليه هذه العائلة من تفتت وتشتت وتفرقة جراء “وسخ الدنيا” كما كانت تقول دائما، تتذكر كيف كان الجميع يعيش هنا تحت سقف واحد برعايتها وزوجها حيث كان الحب والود والوحدة والتضامن شعارهم ومصدر قوتهم وتقدمهم وتطور أرباحهم وممتلكاتهم…
وتذكرت حينها حوار زوجها مع أبنائه وهو يحتضر – وكان أغلب حضور اليوم شهودا على ذلك يومها – متى قال بصوت خافت يكاد لا يسمع بعد جهد جهيد :
– أرجو أن لا تلهيكم الدنيا عن آخرتكم وأن لا يتمكن منكم الشيطان ويستعمر قلوبكم وعقولكم. احرصوا على تمتين علاقتكم وتطويرها أبنائي. غذوا قلوبكم بالحب والإخلاص والإيمان والخوف من الله
– (مراد دامعا ومقاطعا) هدئ من روعك أبتاه، فنحن واحد ما حيينا بإذن الله تعالى، فقد زرعت فينا و مباركة زرعا طيبا لايمكنه أن ينتج غير محصول طيب ان شاء الله
– (سهى وهي تقبل جبين والدها) تماسك أيها العجوز وقم، واصل قيادتنا كما عهدناك واعبر بنا إلى شاطئ السلام…
فجأة ،تستفيق من غفوتها على طرق باب غرفتها من طرف معينتها المنزلية لتخبرها بقدوم المحامي (أخيها) وتواجده في الأسفل مع أبنائها في انتظارها (وقد مر على حضورهم هنا أكثر من أربع ساعات ونال منهم التعب والأرق والعطش والجوع ولم يجدوا ما يسدوا به رمقهم بعد أن أفرغت الأم المطبخ وبيت المؤونة من كل شيء عمدا)، فتبتسم في وجهها وتقول لها بصوت ساخر وخافت “جاء وقت الحساب، فإما الفلاح والنجاح وإما الطلاح والفشل” وهي ترتب على كتفها وتأمرها بأن تحمل حقائبها إلى مكان التجمع (وقد حزمتها وجهزتها باللباس وجل المستلزمات الحياتية استعدادا للسفر وهجر المكان) في انتظار التحاقها بها.
فاندهش الحضور من هذا المشهد (ما عدا المحامي) واستغربوا بعد أن علموا – من المعينة والمحامي – أن مباركة قررت هجرهم نهائيا والعيش بقية حياتها في ملجئ للمسنين والعجز وفاقدي السند العائلي، وأنها ستتبرأ منهم علانية وتتنازل لهم عن كل شيء كان سببا في تعاستها وحزنها وألمها ومرضها وفقدانها للرغبة في الحياة والتواصل معهم على هذه الشاكلة….
فهاجوا وماجوا وحجزوا الحقائب وأخفوها بعد أن أفرغوها من محتوياتها وطلبوا من الأبناء حراستها ومنع جدتهم من الاقتراب منها إن هي حاولت ذلك، وقد تغير لون وجوههم إلى أن شحبت واصفرت، بكوا وأكثروا منه وسارعوا للصعود إليها حين منعهم خالهم من ذلك وأمرهم بالانتظار….
ودون مقدمات، رأيت الأبناء المتخاصمين يحضنون بعضهم البعض ويتبادلون القبل والكلمات، يتحاورون ويتناقشون، يبحثون عن الحلول والطرق والسبل الكفيلة بمنع أمهم وجبرها عن التراجع عن هذا القرار المذل لهم ولعلاقتهم بها خاصة ومكانتهم بين الناس عامة….
وما هي إلا دقائق حتى حضرت مباركة وتوسطت هذا الجمع الذي ارتمي في أحضانها مقبلا وجهها ويديها وقدميها وكل أجزاء جسدها (كل فرد يقبل المكان الذي يصل إليه وسط هذا الزحام) وطالبا الصفح والسماح، راجيا منها المغفرة والتجاوز، معبرا عن الندم ومعترفا بذنبه وبتقصيره تجاهها…..
لكنها حاولت صدهم وابعادهم عنها وعن طريقها وهي تتجه صوب كرسيها المميز خاطبة فيهم بأعلى صوتها بعد أن غمزت سرور ومحمد وضحكت في وجوههما خلسة في طريقها: ” لا تحاولوا صدي ومنعي عن الخروج يا هؤلاء (تبتلع ريقها وهي تنظر لأخيها وكأنها تتفق معه على إتمام بقية الخطة)، نعم يا هؤلاء ،فأنتم بتّم نكرة بالنسبة لي، أولادا لا أعرفهم ولا أتشرف بذلك البتة….
هل نسيتم وعودكم لأبيكم؟ هل تجاهلتم نصائحه وتوجيهاته؟هل أعمتكم الدنيا وألهتكم عن واجباتكم؟ هل أمسيتم عبدة للشيطان وأنفسكم الأمارة بالسوء والمال والعتاد وغيرها من وسخ هذه البسيطة اللعينة؟ (تصمت قليلا والكل يتابع بانتباه شديد ويرمق كل كبيرة وصغيرة)
كيف تصلون، تركعون، تتلون القرآن وتدعون الله أن يغفر لكم ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم ويرحمكم وينير طريقكم وغيرها من الأدعية العظيمة، وأنتم تقطعون صلة الرحم وتتخاصمون، تفشون الفاحشة بينكم وتنشرون الكراهية والحقد والفتنة وغيرها من السيئات بينكم وبين أبنائكم، تتحاربون من أجل الدنيا ولا تعملون صالحا لآخرتكم؟
تشتتون هذه العائلة وتفرقونها وتمزقون أوصالها ، تبثون الإشاعات والأكاذيب بينكم وتتعمدون نشر الخصام والمقاطعة، تمنعون أبناءكم من التواصل والتزاور والتعارف، تتحايلون وتخططون للنيل من بعضكم البعض وحرمان إخوانكم من حقهم الشرعي….. ”
وواصلت عرضها بكل ثبات وثقة في النفس والكل يتبادل النظرات والابتسامات والتحايا، وخالهم يخفي بهجته وفرحته بهذه النتيجة وكذلك المعينة المنزلية (التي ساهمت في تربيتهم منذ عقود)، إلى أن قالت” وبناء عليه، فإني قررت قرارا لا رجعة فيه مادام الحال على ما هو عليه الآن ، وهو إكمال بقية حياتي في مأوى للعجز بعيدا عنكم ومنعكم من زيارتي لأي سبب من الأسباب، ومنعكم أيضا من حضور جنازتي ودفني عند وفاتي (والكل يبكي ويحاول التقرب منها وهي تصده بقوة وشدة)، لن أرضى عنكم ولن أسامحكم فقد كنتم سبب تعاستي وحزني….. ”
عندها، تحدوها وارتموا عليها مقبلين ومعتذرين، باكين ونادمين،طالبين الصفح والسماح… ، معربين عن تغيرهم وإصلاح ما تكسر وتهشم بينهم، حاملينها بين أيديهم وعلى أكتافهم وداعين خالهم ليشهد على وعودهم وتعهداتهم (وسرور ومحمد يشعران بالغبطة والبهجة بعد أن نجح مخططهما وجدتهما وبقية الأطراف – سيتزوجان لاحقا ويبنيان عائلة سعيدة وموحدة – )، متبادلين القبل والكلمات الطيبة ومعتذرين من بعضهم البعض…..