القراءة الاتطباعية في القصة القصيرة الرائعة للأديب المصري الاستاذ.. متولي بصل، يتمفصل متنها حول تيمة من أدب الرُّعب والماورائيات Metaphysical World وتأطيره في بوتقة الباراسيكولوجيا أو ما نطلق عليه Paranormal Activity الأفعال الخارقة للطبيعة ، فالخالق سبحانه عز وجلّ خلق الآنس والجن وهذه هي المحجة البيضاء التي يغفل عنها الجميع، والأماكن لها أرواح تسكنها من السلف والخلف، فعبق الجدود وجدائل االماضي التليد تُعبئ الأرجاء في عوالم المساكن وأقبية البنايات، الراوي protagonist الذي يروي مونولوجاً عن قصته التي لم تنتهِ بعدما استفاق في المستشفى ..كان غافلاً عن حتميات الأقدار وعزف عن الزواج ليتم دينه ولا يعيش في عزلته ووحدته ليدثر أكوانه بالحزن الأسود، بعين الناقد أرى أن القاص نجح في تأويل سيمائية الراوي من حيث ملامح شخصيته التي لا تحترم خصوصية الجيران ليتّسم بالتصنت في كل زمان وأوان؛ يتفقد كل شاردة وواردة Eavesdropping حتى أنه حاول التدخل في شأن لا يخصه، لم يدرك ذاك (المُعاق) أو بالأحرى الكسيح ،الذي على ما يبدو كان يعاني من الذهان أو الهلاوس النفسية التي يرتئيها ، بأنه عاجز أو عالة في قرارة نفسه ليتكئ على شخص آخر في هذه الحياة ليحضر له حاجياته من معاش ومأكل ومشرب – ما باله إن كانت لديه أسرة يعولها وزوجة تعينه على خضم وديدن الحياة، لكنه آثر التنصل من المسئولية وركز اهتمامه في محاولة رأب الصدع أو فض نزاعات لا تخصه، هذه التيمة التي أرادها القاص هي البعد السسيولوجي للشخصية الانطوائية التي تعيش في تشيؤ واستلاب من منظور نفسي.
حكى لنا الراوي عن (نبيه) عامل البريد والذي يعمل عملاً اضافيا مساءً ليزيد من دخله ؛ هاقَد غرق في الديون وتراكمت عليه الأقساط البنكية التي تناهز الأربعة سنوات لسدادها ومشروعه الذي لاقى إخفاقاً مُروعاً لبيع الأجهزة الكهربائية، فيضطر لإجبار زوجته على بيع الشقة التي نؤويه هو وولده الصغير، لترفض طلبه مراراً وتكراراً، كما أشار القاصّ إلى الزوجة المكافحة (مروة) التي تعمل وتدرس لابنها طريقة الحساب على الأصابع بالعدّ من واحد للرقم (ستة) لتعداد العيون الكائنة المرتجلة داخل أروقة وأركان الحجرة حينذا، لكن ذاك المدعو (سامح) الماكر الذي أشار لأخيه نبيه بأن يختلق تصويراً لإثارة الهلع والرعب في نفس الزوجة المخدوعة بحرق قطع من الأثاث وتشغيل اسطوانات مرعبة من أصوات مخيفة موحشة في هجيع الظلام أثناء الخلد إلى السبات، يالها من أكذوبة انطلت على المرأة لتقبل بعرض زوجها وتوافق على البيع والانتقال للعيش بمكان آخر خاصة بعد تلك الصرخة التي أطلقتها بعدما عدّ الطفل (العين السابعة الكبيرة) كمدلول لوجود كائن غريب يقطن هناك بجوار أمه، كان المناص الوحيد أمام الجميع هناك في البقعة المجاورة للراوي وإلاّ – شبح الطلاق يخيم في الأجواء ويحوم ليدمر استقرار الأسرة، كانت الأحداث تتواتر برشاقة وإثارة كما أبدعها القاصّ Apprehension، وأيضا – (التابوهات) التي عاناها ذاك الراوي أو الجار الكسيح من اختراق خصوصية الأرواح الغير بشرية ومحاولة الكشف عنها والتأكيد على وجوديتها – هذا الأمر الذي اتضح لديه عندما غاب عنه ذاك الذي يقضي حاجته ولم يجرؤ أحد على ولوج الشقة المُباعة في الجوار وكذلك لما تأكد لهُ وجود خطب ما في شقته ليحاول أن يبخس ثمنها لبيعها أيضاً بلا جدوى، فجأة – حاول الخروج بنفسه ليعتمد على ذاته ويتعايش مع الواقع ومرارته ..ليجد ذاك الباب غير موجود وكذا النوافذ كأنه في غرف الجحيم بلا مناص – الحوائط صماء والسقف فقط!
ليأخذنا القاص هنا إلى – ( أينَ أنا؟) تلك العبارة المدهشة التي تستجدي تساؤلات القارئ حول ماهية ما أصاب الراوي المُعاق في تلك الأثناء ليصبح طريح الفراش في المستشفى بين ثلاث ممرضات وطبيب، أيا تُرى ما الذي سبب تلك الغيبوبة التي تصيب هؤلاء القابعين تحت تأثير Necromancy استحضار الأرواح أو الوساوس Obsession؟
القصدُ ليس الهروب المكاني الذي آثره بطل القصة بل أيضاً ذاك الهروب النفسي من ذاك المناخ ليجد الخلاص بعدما ارتاد المستشفى الذي يضرب بها المثل الشعبي: ( الخارج منها مولود!!) ؛ هكذا – يكون نسيج الأحداث قد اكتمل …وتستمرُّ الحياة!…
الأديب المصري .. أحمد فاروق بيضون – مصر
النصّ:
العين السابعة
شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ولكن بمرور الوقت أخذت جذوة هذه السعادة تذوي شيئا فشيئا، حتى انطفأت ! وبدأ الحزن يتسلل إلى قلبي؛ حزن أسود، وكآبة شديدة، ورعب قاتل؛ لدرجة جعلتني أتمنى الموت .
وحيد أنا لا زوجة لي ولا ولد، ولم يكن هذا قط هو سبب تعاستي، فقد اعتدت الوحدة منذ زمن بعيد، ولم تعد تراودني أبدا فكرة الزواج أو الإنجاب، سأعيش وحدي، وأموت وحدي، هذا هو قراري واختياري .
لكنني منذ سكنت هذه الشقة أسمع أصواتا دائما تأتيني من الشقة المجاورة، جدال لا يلبث أن يتحوَّل لشجار ! ومن خلال ما سمعته عرفت الكثير عن جاري وعن امرأته!
اسمه “نبيه” يعمل موظفا في مكتب البريد، ويعمل أيضا في محل بقالة في فترة المساء، وامرأته “مروة” معلمة في الروضة، وابنهما الصغير “رامي” تقريبا في الخامسة من عمره؛ تصحبه أمه معها كلما ذهبت إلى عملها، أما محور الخلاف بينهما وسبب الشجار اليومي فهو الشقة ! “نبيه” يُصر على بيعها، و “مروة” ترفض فكرة البيع باستماتة، ويساندها في ذلك أن عقد الشقة باسمها .
يوم الجمعة تزداد حدة الشجار؛ لدرجة أن “نبيه” أحضر المأذون ذات مرة، وكاد يطلقها ! أما يوم السبت فكان أجازة بالنسبة إلى “مروة”؛ فكنت أسمعها وهى تداعب طفلها، وتعلمه بعض الكلمات والحساب، وتنطق الكلمات والأرقام وتكررها؛ ليرددها وراءها، وكانت تردد عليه هذه الحسبة التي حفظتها عن ظهر قلب :
– ماما لها عينان؛ وبابا له عينان؛ وحبيبي رامي له عينان، فكم يكون المجموع يا رامي ؟ انظر إلى عدد أصابعي المفرودة !
ثم أسمعها تكمل قائلة :
– ست عيون .. .. ستة .. .. ستة، اثنان .. .. أربعة .. .. ستة .
وأسمع الصغير يردد وراءها نفس الكلام كالببغاء :
– اثنان .. .. أربعة .. .. ستة .
لم أكن أغادر الشقة إلى أي مكان بسبب إعاقتي، فقد انقلبت بي السيارة منذ زمن، وأصبحت خردة، وأصبحت أنا أيضا خردة .. .. أقصد معاقا، لكنني بمبلغ التأمين استطعت شراء هذه الشقة، ومبلغ المعاش رغم أنه قليل لكنه كان يكفيني، رغم أن نصفه كان يذهب كراتب للشخص الذي يحضر لي احتياجاتي وطلباتي .
إنني أتحرّك داخل الشقة بصعوبة شديدة، ولا أدري لو أن ذلك الشخص الذي يحضر لي احتياجاتي نسي، أو حدث له شيء يمنعه من أداء هذه المهمة، كيف سأحصل على الطعام أو الدواء أو غيرهما ! صحيح أنا أعطيه راتبا شهريا، لكن من الممكن أن تحدث له ظروف خارجة عن إرادته .. .. كلما فكرت في هذا الأمر انتابني الخوف، الأفضل لي ألا أفكر، وأترك الأمر لله سبحانه وتعالى، فليس لي سواه .
لا أحب التجسس، لكنني مجبر! ويذكرني ذلك بأوقات كنت فيها أشم الكثير من دخان السجائر التي يشعلها من حولي، وتمتلئ رئتي به، رغم أنني لا أحب التدخين، ورغم أنني لم أشعل سيجارة واحدة في حياتي !
شبح الطلاق لا يريد أن يرحل عن الشقة المجاورة، الكلمة باتت تتردد كثيرا على لسان كل من “نبيه” و “مروة” ، وبدأت أشعر بالقلق والحزن عليهما وعلى ابنهما الصغير .
اليوم الاثنين، ذهبت “مروة” إلى عملها مصطحبة طفلها كعادتها، وتلكأ “نبيه” ! إنني أسمعه وكأنما يتحدث إلى نفسه، لقد قرر أن يغيب اليوم عن عمله، كما يبدو أن شخصا آخر معه في الشقة ! سمعت “نبيه” يقول للشخص الآخر :
– تعبت يا سامح .. .. تعبت يا أخي ! أكبر غلطة عملتها في حياتي أنني كتبت الشقة باسمها، آه يا ندمي .. .. إذا لم أتمكن من البيع سأدخل السجن، أخوك سيدخل السجن يا سامح !
– ألا توجد طريقة أخرى تسسد بها المبلغ المطلوب.. .. خذ قرضا من البنك !
– البنك لن يوافق لأنني أنا ومروة لا نزال نسدد أقساط آخر قرضأخذناه، لم نسدد منها إلا عشرة أقساط تقريبا، وباقي أكثر من أربع سنوات لنسدده !
– معقول يا “نبيه” لم تسدد قرض البنك بعد، ومع ذلك تورط نفسك في ديون جديدة لتشتري أجهزة كهربائية، نصحتك يا أخي أكثر من مرة، لكنك لم تسمع نصيحتي !
– فات أوان هذا الكلام يا أخي ! أرجوك أنا غرقان، وطوق النجاة الوحيد أمامي الشقة، كيف أقنعها أنها توافق على البيع ؟!
حل الصمت قليلا، ثم سمعت هذا المدعو “سامح” يقول :
– الحل الوحيد إنك تكرهها فيها؛ يعني ممكن تقنعها إن الشقة مسكونة، فيها عفاريت !
– مسكونة ! الله يخرب عقلك .. .. أما فكرة، والله العظيم فكرة عبقرية
أحسست ببرودة شديدة، وقشعريرة، وبشيء من الخوف، وازداد قلقي مما سمعته .
لم يُضيِّع “نبيه” وقتا، وبدأ في تنفيذ الفكرة المجنونة، طفق يفتعل قصصا وهمية، ويختلق كل ما يسبب الرعب لامرأته، لدرجة أنني كنت أحيانا أسمع صراخه هو وزوجته، وأشم رائحة حريق، وبعد قليل أفهم أنه أحرق شيئا من أثاث الشقة، ليزعم أن أرواحا شريرة هى التي أشعلت الحريق، ومرة أخرى أسمع أصواتا مرعبة ومخيفة ليلا، ولا أدري هل هى مسجلة على ( كاسيت ) أم كان هو من يصدرها بنفسه !
ولولا الحوار الي سمعته منه هو وأخيه، لمت من الرعب، وبدأت أشفق على المسكينة “مروة” فالتمثيليات التي يحبكها كانت تسبب لي الرعب، فكيف يكون حالها وهى في قلب الأحداث ؟!
حتى جاء يوم سبت، وسمعت “مروة” كعادتها تنطق بعض الكلمات والأعداد، وتكررها، ليرددها “رامي” ، وعندما بدأت معه الحسبة المعتادة، وتقول :
– ماما لها عينان؛ وبابا له عينان؛ وحبيبي رامي له عينان، فكم يكون المجموع يا رامي ؟ انظر إلى عدد أصابعي المفرودة !
ومثل كل مرة أكملت كلامها قائلة له :
– ست عيون .. .. ستة .. .. ستة، اثنان .. .. أربعة .. .. ستة .
وأخذ الصغير يردد وراءها نفس الكلام كالببغاء؛ ويقول :
– اثنان .. .. أربعة .. .. ستة .. .. سبعة .
فصرخت فيه قائلة :
– ستة يا حبيب ماما .. .. عينان لماما، وعينان لبابا، وعينان لحبيبي رامي؛ فيكون المجموع ستة
وإذا بالصغير يقول، وكأنه يعد على أصابعه كما علمته أمه :
– عينان لبابا، عينان لماما، عينان لحبيبي رامي، وعين كبيرة، فيكون المجموع سبعة .
فوجئت بالكلمة تثقب أذني، وبينما كنت أقف قريبا من الحائط الفاصل بين الشقتين، مستندا على عكازين، فقدت السيطرة على أعصابي، وأفلت العكازان من بين يديَّ، وسقطا كلاهما على الأرض، وسقطت فوقهما، فارتطمت رأسي بقوة، وقبل أن أفقد الوعي، سمعت صوت المسكينة تصرخ صراخا مفزعا .
نجح ” نبيه” فيما خطط له؛ ووافقت المسكينة على البيع، ولم أعد أسمع أي جدال أو شجار! والعجيب أن الشقة منذ بيعها لم تُسكن، ربما الشخص الذي اشتراها وصل إلى علمه أنها مسكونة بالعفاريت؛ فخاف ولم يجرؤ على دخولها !
الأعجب من ذلك أنني بعد فترة بدأت أسمع أصواتا غريبة لا يمكن أن تكون بشرية! ولم أعد أستطيع النوم خصوصا في الليل، فقد كانت الأصوات تزداد ليلا! وقررت أن أبيع شقتي أنا أيضا قبل أن أموت من الرعب، لكنني فوجئت أن لا أحد يتقدَّم لشرائها، ووصل بي الأمر أن أعرضها على السماسرة بأقل بكثير من ثمنها الذي اشتريتها به، ومع ذلك لم يطرق بابي أي شخص! وزاد من همي وغمي غياب الشخص الموكل بإحضار طعامي وكل احتياجاتي، مر يومان ولم يحضر، حتى نفد الطعام، وخلت الثلاجة إلا من الماء، ولم يعد أمامي مفر من الخروج، والنزول إلى الشارع قبل أن أموت جوعا، فلبست ملابس الخروج والتي لم ألبسها منذ شهور طويلة، وتوكأت على العكازين، وتوجهت ناحية الباب، لكنني لم .. .. لم أجده، فعلا لم أجد باب الشقة ! أخذت أدور داخل الشقة أبحث عن أي مخرج، وكأنني أدور في متاهة لا نهاية لها، ولا مخرج منها!، فتشت في كل شبر فيها، لكنني لم أجد أي أثر للباب، وحتى النوافذ اختفت كلها؛ الشقة أصبحت حوائط صماء، وسقف فقط !
الرعب يملأ قلبي، والقشعريرة لا تترك جسدي، أخذت أصيح وأصرخ وأبكي مثل الأطفال، لأفاجأ بالكثير من الأيدي التي تمسك بي، وتحاول تثبيتي وشل حركتي، وشعرت بشيء ينغرس في ذراعي، وأنا أصرخ من شدة الألم، ورأيت فتاة في ثياب ناصعة البياض، تضغط بقطعة قطن بيضاء على المكان الذي غرست فيه سن الإبرة، واثنتان تضغطان بكلتا اليدين على ذراعيَّ وجسدي لمنعي من الحركة! أصابني الذهول عندما اكتشف أنني راقد في سرير، وسمعت صوت رجل قادم، يقول :
– أخيرا .. .. أفاق من الغيبوبة !
حاولت بكل قوتي أن أرفع رأسي لأعرف أين أنا، وكم كانت صدمتي كبيرة، عندما اكتشفت أنني راقد في سرير، وحولي ثلاث ممرضات، والرجل الذي تحدث عن غيبوبة ما كان سوى طبيب في المستشفى، أسئلة كثيرة تتداعى على عقلي الذي كان في غيبوبة منذ قليل، ولا أعرف إجابة أي منها ! سألت على أمل أن يجيبني أحدهم :
– أين أنا ؟!
أجابني الرجل، وهو يبتسم لي ابتسامة مطمئنة، وقال :
– أنت في المستشفى، فلا تقلق، لن نتركك حتى تشفى كل جراحك !
– جراحي !! أية جرااااااح ؟!
بدأ النعاس يتسلل إلى عينيَّ، وقبل أن أغرق في النوم، سمعت الممرضة التي حقنتني؛ تقول للطبيب :
– يبدو أن مفعول المهدئ قد بدأ يا دكتور .
– يجب أن يأخذ هذا المهدئ في مواعيده، فلن يستطيع تحمّل آلام كل هذه الحروق التي في جسده ! يا إلهي .. .. ما الذي يدفع شاب صغير مثله إلى أن يسكب على جسده الجاز، ويحرق نفسه بهذه الطريقة البشعة ؟!
– يقولون يا دكتور أن الشقة التي يعيش فيها مسكونة بالعفاريت ! وأن الساكن الذي كان فيها قبله انتحر بالسم، ولم تنجح محاولات إنقاذه، لكن هذا الشاب محظوظ أنه تم إنقاذه .
– محظوظ .. .. لا أظن ذلك !