قراءة نقدية :”القصة وأدب الاعتراف بين الماضي والحاضر”
القصة :” قصة “علامة فارقة” نموذجا”
الكاتب:حميد الهاشم(العراق)
الناقدة:جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: “القصة وأدب الاعتراف بين الماضي والحاضر”
لقد أسند الكاتب حميد الهاشم لقصته عنوان”علامة فارقة”الذي له دلالته الرمزية ويطرح قضية الثنائيات التي تخالج نفس الكاتب ..انها متناقضات يتأرجح بينها الانسان وتجسد معاناته على عدة مستويات.
يستهل الكاتب حميد الهاشم سرده بتحديد الزمان (في لحظة واحدة) والمكان(القاعة) وكأني بالكاتب قد التقط لنا بكاميراه لقطة من حياة الانسان في مكان معيّن ليجسّد لنا ما يُعانيه الانسان من ظروف متضادة.انها لحظة اعتراف .
ان القصة محكومة بطابع الثنائيات المتوزعة بين الذاتية والموضوعية وبين الماضي والحاضر:
1- الذاتية وادب الاعتراف بين الماضي والحاضر:
استخدم الكاتب ضمير المتكلم المفرد(كنت أرى الكل..)وهو بذلك شاهد عيان على كل الظروف التي ستجسد العلامة الفارقة.
ثم تحدّث بضمير المكتلم الجمع(كنا ننتظر/ لنا..):
* كنت فأصبحت:ان الذات الساردة مقسومة بين أنا الحاضر وأنا الماضي .
وبالتالي كأني به جرّد من نفسه هذا “الصديق” الذي بدا لا يعرفه(لم يأت أحد لي سوى هذا الرجل الذي وقف قبالتي يَدّعي أنه يعرفني)
بيد أن السارد(الذات الساردة) لم يعرفه(بيد اني في نسيان منه…)
ان هذه الفجوة النصية (الثلاث نقاط) التي تركها الكاتب ستثير فضول القارئ ليمارس حقه في التاويل:
– قد يعتبر القارئ ان هذا الرجل الذي نزل من سلم جانبي ووقف قبالته وادعى معرفته قد يكون نصف السارد الثاني قد يكون ماضيه الذي يُنكره ويعتبره معرّة حاضره خاصة انه جعله يتحدث بصيغة المتكلم المفرد(خاطبني:”لقد فعلت …/هربت/التجأت../تزوجت../ تزوجني..)
– قد يعتبر القارئ ان السارد في عدم معرفته لهذا الرجل هوتنصّل من الماضي في تمرّده وهروبه الى الغرب الذي اندمج فيه بخيره وشرّه (تزوّجت الغرب فتزوّجني).
– قد يعتبر القارئ السارد يريد أن يتذكر ماضيه كيف كان لسيستمتع بحاضره كيف أصبح(مازلت لا أتذكره لكني اشتقت لمعرفة تفاصيل ادعائه صداقتي او مرافقتي).
– قد يعتبر القارئ أن التاريخ لا يرحم فالرجل يعرف السارد وبالتالي فالحاضرينكر الماضي اما الماضي فهو ثابت لا يتحرّك (هو يعرف مع من يتحدّث ,انا لا اعرف من يتحدث معي الآن).
– قد يعتبر القارئ أن التحوّل الذي طرأ على السارد يستغرب منه الرجل(نصفه الثاني)(..رغم انه يبدو ليس متيقنا تماما من أنني أنا أنا.
لعل ما ذهب اليه القارئ في تأويله يدعمه الكاتب حميد الكاتب باستخدام المراوحة بين ضمير المتكلم المفرد(أنا) وضمير الغائب(هو).
فضمير (أنا) يمثل الحاضر في شخصية السارد وضمير(هو) يمثل الماضي في شخصية النصف الثاني .
انها المفارقة بين أنا/ هو بين المتكلم والغائب بين الحاضر والماضي.
هذه الثنايات تجسد التحوّل الذي طرأ على شخصية السارد او الذات الساردة .
انها ثنائية” كنت فأصبحت”..ان هذا التحوّل هو العلامة الفارقة في حياة السارد وبالتالي في حياة الفرد في المطلق على المستوى النفسي والاجتماعي والوجودي
وهل أكثر من أن كل هذه المفارقات التي عاشتها الشخصية الرئيسية(الذات الساردة)جعلت النصف الثاني للشخصية التي تمثل ماضيه هذا النصف الثاني يسرّ الندامة. ويعترف بخطئه (كانني لمحت بلل دمعة بدا ينزّ من عينه نعم… نعم)
ان هذه الفجوة النصية(…) قد تجعل القارئ يستحسن بكاء النصف الثاني للذات الساردة ندما على ماضيه المؤلم والكاتب يتدخل ليدعم تأويل القارئ (انها دمعة ,رفع يده لمسحها بكم جاكيته الفاخر..دعها يا رجل,يبدو انها أجمل ما في لحظاتك الآن).
كأني بالكاتب يشجّعه على البكاء اعترافا بالندم ايمانا من الكاتب ان الندم طريق للتكفير عن الذنب انه في علم النفس “الشعور بالذنب”وهووليد مصطلح آخر هو الرقابة الذاتية الداخلية التي تراقب تصرّفات الفرد لتجعله يغيّر ما بنفسه.
ان الذات الساردة تيقنت من أن الذي أمامها هو نصفها الثاني وبالتالي فهي تخاطبه وكانها تخاطب نفسها:(خاطبته دون أن أخاطبه)
ان النصف الثاني من الذات الساردة(الذي يمثل الماضي)تأكد من أنه النصف الثاني (أطلق آهة مع كلمات بينما هو يمسح دمعته:”..أنه هو”..أنه هو”-الآن تيقن من أنني أنا هو المراد).
لقد جعل الكاتب حميد الهاشم الذات الساردة تعترف برحيلها عن الزمن الماضي وعن الوطن بفساده والرجل النصف الثاني رَمْزٌ لهذا الفساد حتى أن ندمه جعله
يقول لنصفه الاول(الذات الساردة) “ما كان الأجدر أن ترحل وتتركني…ما كان الاجدران تدخل الجنة وحدك وتتركني “.
ان هذا التمني الذي لم يتحقق فالجملة الاخيرة السابقة تخفي أمنية هذا الرجل وقد نستبدلها بقولنا:” ليتك لم ترحل وتتركني…ليتك لم تدخل الجنة وحدك وتتركني”
ان هذا النصف الثاني يُسرّ وَجَعًا فجعله الكاتب يعترف والاعتراف سيد الأدلة
انه يعترف بالرذيلة التي ارتكبها وهذا الاعتراف هو نسبي ويُعبّر عن المطلق
ومن ثمّ يُمكن الحديث عن الجانب الموضوعي في حديث الذات الساردة مع نصفها الثاني.
=== يتبع===
=== يتبع ===
2- الموضوعية وأدب الاعتراف بين الماضي والحاضر:
ان النصف الثاني للذات الساردة يعترف وهو رَمْز لكل الذين اختاروا حياة الغرب
ان حياة الرذيلة هي السائدة من فساد أخلاقي(زنا علني/ خمر..)
ومقابل الرذيلة تعيش الفضيلة أيضا في شخص الذات الساردة ..ان الكاتب لا يخفي عنا تفاؤله
وموضوعيته في تحليل الواقع (لقد عاشرت امرأة شقراء تقطن احدى ضواحي
باريس, عامان من الزنا العلني, قبل الحب كانت مرحلة الخمر, أعذرني ..ليس لي أن أنسى من أنك أحد أبطال الفضيلة) وقوله” أحد أبطال الفضيلة يدل على ان الفضيلة ليست حكرا على الذات الساردة فقط .
ان الذات الساردة تسلط الضوء على الجميع الذي له دلالة الاطلاق .
بيد أن هاجس التقسيم والمفارقة الذي يسكن الكاتب يعكسه على الذات الساردة التي ترى الجميع مقسوما الى نصفين:نصف هذا الجميع أموات, نصفهم الآخر على قيد التأمّل”
لعل رمزية المشهد قد تجعل القارئ يعتبر أن الأموات هم أموات بالحياة برذائلهم .
وقد يرمز النصف الآخر الذي هو على قيد التأمل للمجموعة التي لا يمكن ان نعطيها سمة الحياة بل هي مجموعة في طور التأمل ..انهم بين الموت والحياة (موت المبادئ وحياة المبادئ) انه صراع الانسان بين الحيوانية والالوهية على حدّ تعبير الأديب االتونسي المتفلسف محمود المسعدي في كتابه “السد”.
لعلّها النزعة الوجودية التي تتضمّنها قصة “علامة فارقة”.
ولعل الكاتب حين أطلق على القاعة اسم قاعة الشهداء لها رمزيتها الدلالية ..انهم شهداء السايسة /شهداء الوطن/ شهداء الصراع: بين الفضيلة والرذيلة/ شهداء بين
الخير والشر/ شهداء بن العقل والشهوات/ بين نحن وأنتم…)
انها قضية وجود مسكون بها الكاتب.
وهل أكثر من أن الذات الساردة ترى صورتها” دون ألوان ,أسود وأبيض” ان الصورة بالابيض والاسود صورة بالالوان الطبعية التي لا يشوبها تزويق الالوان التي بها تتجمّل كذبا انها صورة صادقة لا نفاق فيها ولا تزييف.
ان صورة الذات الساردة بالابيض والاسود ترمز الى حقيقة الليل والنهار.
انها حقيقة الوجود على الارض .الليل والنهار حقيقتان أقسم بهما الله تعالى في الكتاب المقدّس(والليل اذا يغشى والنهار اذا تجلى..)
ويواصل النصف الثاني للذات الساردة اعترافه بانه توخى طريق الجحيم ومن خلال اعترافه يبوح الكاتب بان طريق الجحيم قد مضى فيه الكثير ممن أغواهم الشيطان (كان الأجدر بي ان أترك الجحيم..الحياة..وألتحق بك..معك).
ان النصف الثاني للذات الساردة يذكر مرة الجنة التي حُرم منها والآن يذكر الجحيم الذي كان عليه ان يتركه.
انه صراع الانسان بين الجنة والجحيم .
ان هذا الصراع لا يُخفي عنّا مرجعية الكاتب الدينية والتي دعمها على لسان النصف الثاني للذات الساردة بقوله” انتم الأبيض…نحن الأسود”وهذا يتناصّ مع الآية الكريمة 106 من سورة آل عمران”يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه فاما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد ايمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون”
ان النصف الثاني يواصل اعترافه بانه قَبلَ القسمة على نفسه ليعيش ما عاشه من صراع وتمزق ونفاق بينما الذات الساردة هي واحدة(انني لم أعد أنا..أنا قبلت القسمة على نفسي..وأصبحت أكثر من واحد..أما أنت فلم تكن كذلك.فمضيت
وحدك بوحدك”..أنا ذاك الذي كنت أشبهك..حين تمّ اعتقالك في الاعدادية… لا أدري لماذا لم أعتقل معك وقتها..لم أكن أعرف الحكمة من ذلك..يبدو اني أعرف
هذه الحكمة الآن”.
لعل القارئ هنا في التفريق بين الذات الساردة ونصفها الثاني قد يستحضر قصة قابيل وهابيل وثنائية الخير والشرالتي وجدت على الارض.
=== يتبع ===
=== يتبع ===
انها مرجعية الكاتب الدينية في تثمين الفضيلة(بلادنا التي اعتقلتك وانت في ربيع العمر قبل سنوات وسنوات, وذنبك الوحيد هو أنك تحب الحرية والفضيلة)
ويختم النصف الثاني للذات الساردة باعتراف مُدوّ قائلا “أنا المَسْخ..أنا الذي لا أشبهك في شيء”..
والمسخُ في لسان العرب لابن منظور هو “تحويل صورة الى صورة أقبح منها: وفي التهذيب: تحويل خلق الى صورة اخرى, مسخه الله قردا يمسخه, وهومسخ ومسيخ”(1)
وكلمة المسخ تتناصّ مع عنوان الرواية القصيرة “المسخ” للروائي الالماني الكبير فرايز كافكا نشرت لاول مرّة عام1915 (2)
والمسخ في القرآن مذكور”ومن أكثر قصص القرآن رُعبا قصة أصحاب السبت:
اليهود الذين مسخهم الله قردة وخنازير لانهم خالفواأمره بان اصطادوا يوم السبت,اليوم الذي حُرّم عليهم الصيد فيه.”واسألهم عن القريةالتي كانت حاضرة البحر اذ يعدون في السبت”(سورة الاعراف (163))(3).
ان الكاتب حميد الهاشم وقد زاوج بين أدب القصة وأدب الاعتراف جعل النصف الثاني للذات الساردة يعترف بأخطائه ويقبل العقاب المتمثل في ” المسخ” وكأني به يطلب الغفران والكاتب ذو المرجعية الدينية التي غطّت كامل القصة ينتصر للفضيلة التي تمثلها الذات الساردة(السارد)التي تتنصّل من أدران الماضي وتعترف بالحاضر الذي يُبْنى عليه المستقبل..انه الوجه المتفائل للكاتب
انها العلامة الفارقة بين ماض ملوّث وحاضر نقي طاهر.
سلم جليل حرف الكاتب حميد الهاشم المتميّز والمتفرّد.
بتاريخ:28/ 06/ 2024
المراجع:
https://www..islamweb.net>fatwa(1)
المسخ ماهيته,وهل يوفق الممسوخ للتوبة بعده-اسلام ويب
https://ar.wikipedia.org>wiki>..(2)
المسخ(رواية)
https://www.aljazeera.net>blogs>..(3)
هذه صفات “الذين اعتدوا في السبت”…