طلة بهية، وحس نقدي مائز وحضور معطاء راقي، ومنهجية فى العرض والتحليل؛ إنها أختى الجميلة Jalila Mezni وقراءة قيمة لنص عيدية للكاتب نبراس سالم.
القراءة:
فقرة :ورشة الواحة للقصة القصيرة.
قراءة نقدية :”القصة القصيرة والمونولوج”
(القصة القصيرة:عيدية نموذجا)
الكاتب:نبراس سالم (العراق)
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
اختار الكاتب نبراس سالم عنوانا للقصة “عيدية” والعيدية هي ما يقدم للاطفال ليلة عيد الفطر .ولعلّ العيدية هي عامل من العوامل التي جعلت الاب يسترجع الماضي(كيف أتاخر عن موعد اعطائهم العيدية بعد الآذان؟ كيف سينامون وعيديتهم ليست تحت وسادة كل واحد منهم؟).
ان الكاتب استخدم صيغة المتكلم المفرد(تأخّرتُ كثيرا) وبذلك يتماهى الراوي مع الشخصية الرئيسية(الأب) في القصة وفي ذلك اضفاء الواقعية على القصة.
استخدم الكاتب تقنية المونولوج على امتداد أرجاء القصة مما أغناه عن تضمين قصته الحوار الخارجي الذي هو ركن من الأركان الهامّة للقصة والكاتب لم يحْتجْ اليه الّا في آخر القصة حين أدرج خطابين بين الشخصية الرئيسية (الاب) وصاحب سيارة الاجرة: – الى أين؟
-الى المقابر.
“ويعتبرالحوار الداخلي او المونولوج حديثا أجراه الشخص مع نفسه ليعبّر عن آرائه او تعليقه ومشاعره”(1).
لقد اكتسى المونولوج في هذ القصة بُعْدَيْن(اجتماعي ونفسي):
1- البعد الاجتماعي:
لقد عرفنا من خلال المونولوج ان هذه الشخصية الرئيسية(الأب) تتفانى في عملهاوتحْظى بثقة الحرفاء(الجميع يتصل لتعجيل الحصول على احتياجاتهم) وبثقة الزملاء(كلهم غادروا عند السحور,جهزوا لي مواد العمل وطلبوا الاذن بالانصراف,يسكنون بعيدا).
كما تحظى هذه الشخصية بثقة مديرها (المدير يعتمد عليّ ولاأقدر على خذلانه
خصوصا الليلة)
لقد عرّفنا الكاتب من خلال المونولوج انتماء الشخصية الى طبقة اجتماعية وعن عمله وهو عامل في معمل الحلويات.
كما أحاطنا بملابسات العصر حين تحدث عن الحرب ومخلفاتها.
كذلك أحاطنا بحياة الاسرة وحياته الزوجية.
ان شخصية الأب شخصية مسؤولة في عملها ومسؤولة مع أفراد العائلة حيث يستعجل العودة الى البيت ليسعد كل فرد من افراد عائلته (أور/أتاليا/نينوا) بما تشتهيه نفسه.
والكاتب الى حدّالآن يُوهمُ القارئ بأنّ الشخصية مكتملة الملامح الى أن يختم بقفلة مدهشة لم يكن القارئ ليتوقعها حين كسرت أفق انتظاره وجعلته يقف على مَلمَح جديد للشخصية الرئيسية(الأب) في القصة وهو ملمح المعاناة من الفقد حين سأله صاحب سيارة الاجرة :
-الى اين؟
فردّ عليه:
– الى المقابر
2-البعد النفسي للمونولوج في القصة:
هنا تكتمل ملامح شخصية الأب بملمح المعاناة من الفقد…انه فقدان أفراد عائلته عند الحرب والكاتب قد لمّح للقارئ مرّتين بهذه النهاية المدهشة:
-عند قوله: “حتى بعد اندلاع الحرب واستمرار القصف المدفعي على بيوتنا…”
– عند قوله: ” صديقتها وجارتها سميراميس واطفالها كادوا يفقدون حياتهم بسبب قذيفة مدفع سقطت على منزلهم المجاور لمنزلنا”..
ان الكاتب استخدم تقنية الفلاش باك التي تستخدم في السينما والادب والرواية:
و”الفلاش باك هي تقنية روائية يستخدمهاالادب والسينما والتلفزيون لربط الاحداث والاشخاص في الحاضر باحداث وتفاصيل ومعلومات تعود الى الماضي”(2)
ومن ثمّ سيتحرّك القارئ بفضوله ليمارس حقه في التأويل من خلال بعض المقاطع النصية او ما اصْطلح عليه لدى صاحبيْ نظرية التأويل “ياوس وآيزر”
بالذخيرة النصية.
ان القارئ قد يذهب الى ان هذه الشخصية تعيش صراعا نفسيا داخليا محكوما بعدة ثنائيات:
من خلال كل ما كان يتذكره وهو في العمل/في طريق العودة:
الثنائيات:
أ- ثنائية الماضي السعيد (الشخصية تنعم مع افراد العائلة) والحاضر الأليم (الوحدة والمعاناة).
ب- ثنائية الحياة الجميلة والموت قاصم الظهرولعل الكاتب عبّر عنها بامتياز حين جعل القصة تتحدّث عن الحياة باطناب (داخل المعمل مع الحرفاء مع المدير في حواره الباطني مع ابنائه/في انتظار وسيلة نقل..)وتحدث عن الموت في خطاب واحد(الى المقابر).
قد يرى القارئ ان الحياة مهما طالت ملذّاتها فالموت يخطف هذه الملذّات في لحظة ويهْدمها في لمحة عين كأن شيئا لم يكن.
ج- ثنائية الحلاوة والمرارة:ان الكاتب لم يخترالاطار الزماني والمكاني اعتباطا:
– الزمان ليلة العيد التي تكثر فيها الحلويات( لايكون العيد عيدا الا بحلويات النهرخوز وسلال تمر البرحي الرطب والمعسل ومدكوكة التمر الزاهدي من صنع معملنا) .
*المكان: معمل الحلويات.
=== يتبع===
===يتبع===
ان هذه الحلاوة التي يتعامل معها بالمعمل تقابلها مرارة بداخله..انها مرارة الفقد والموت ومرارة الوحدة التي هَدَمَتْ ملذاته.
ان القارئ قد لايعتبر ان الكاتب قد أخلّ بالتوازن بين حديث الشخصية عن الماضي السعيد والحاضر الأليم فقد يعتبره من وجهة نظرالتحليل النفسي ان الكاتب قد أتاح مساحة أكبر للحديث وتذكر الماضي السعيد ليتنفس هذا الأب ويفرّج عن معاناته الداخلية في الحاضر.
ولعل القارئ وهو يتعاطف مع هذه الشخيصة(الأب) التي تعاني وليبرّر ما ذهب اليه الكاتب قد يستعين بالتحليل النفسي:
باعتبار ان الشخصية الرئيسية هو أب فقد ابنه وبنته وهو زوج فقد زوجته وبقي يعيش حاضره وحيدا فانه يسعى الى الانسحاب من حاضره الأليم واسترجاع ماضيه السعيد لذلك ترك له الكاتب مساحة تعبيرية أكبر للحديث عن ماضيه السعيد مع افراد عائلته وذلك عن طريق الذكريات والتذكر.
انه الحنين الى الماضي ولعل القارئ هنا يستحضر وجهة النظر السيكولوجية للحنين الى الماضي والتي تتمثل في ان :
“الحنين الى الماضي له أساس سيكولوجي يطلق عليه مصطلح “النوستالجيا”(الحنين الى ماضي ميثالي) والذي ابتكره طالب الطب “يوهانس هوفر” ويشيرعلماء النفس ان النوستالجيا هي آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين
الحالة النفسية ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه الشعور بالوحدة كما ان الحنين للماضي مهمّ للصحة العقلية والنفسية وله فوائد جسدية وعاطفية فهو أسلوب ناجح في محاربة الاكتئاب وقتيا ويعزّز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعي
وقد أثبت العلم الحديث الشعور النوستالجي باستخدام صورة الرنين المغناطيسي
للدماغ”(3).
ولا أدلّ على ذلك من أن هذا الاب استطاع ان يواصل حياته المهنية
بصفة طبيعية بل وناجحة.
وكأني بالكاتب قد اختار الحديث الايجابي مع النفس لدى الشخصية (الاب) وجنّبها الحديث السلبي مع النفس فشخصية الأب لم تتحدث سلبيا مع نفسها كتذكر ما حدث لافراد عائلته وكيفية موتهم ففي حواره الباطني كان حديث الأب مع النفس ايجابيا(الحديث مع نفسه حول العلاقات الطيبة مع حرفائه/زملائه/مديره/ وتذكّر الاوقات السعيدة مع أفراد عائلته).
كأني بالكاتب يريد من ذلك التخفيف عنه والحدذ من معاناته النفسية.
لقد “ساعد المونولوج الداخلي في القصة على معرفة النفس من خلال استنطاقها
عن مكنوناتها..أسهم المونولوج في اظهار الصراع الداخلي .
لقد بعث حديث النفس في القصة الحيوية والحركة النفسية الخصوصية في تشكيل الشخصيات وهذا يعكس براعة الكاتب من أدوات فنه الدراسات النفسية والاجتماعية “(4).
وخلاصة القول فان الكاتب نبراس سالم قد استطاع أن يُلبس القصة القصيرة ثوبا جديدا أخرجها عن روتين القصة القصيرة المعتادة فاختزل الشخصيات في شخصية واحدة فاعلة(الأب) وبقية الشخصيات حاضرة بالغياب لانه استبدل الحوار الخارجي المباشر بالحوار الباطني او المونولوج كما استخدم تقنية الفلاش باك فجعل نوستالجيا الاب الى الماضي الميثالي يثير فضول المتلقي ليمارس حقه في التاويل فوقف على عدة ثنائيات كانت سببا في الصراع الذي تعيشه الشخصية.
ان الكاتب لم يُخْف عنّا تعاطفه مع شخصية الاب هذا الاب الذي عشق الماضي حتى صار يعيش فيه لذلك سخّر له مساحة كبيرة للحديث مع النفس حديثا ايجابيا وجنّبه حديث النفس السلبي.وأكثر من ذلك جعل الكاتب المتلقي يتعاطف هو الآخرمع شخصية الأب ويمارس حقه في التأويل فاستجابت بذلك قصة”عيدية” الى نظرية التلقي بامتياز.
شكرا للكاتب نبراس سالم على تميزه وثورة قلمه على ماهو سائد في كتابة القصة القصيرة.
بتاريخ:27 /05/2024
=== يتبع ===
=== يتبع ===
=== القصة القصيرة ===
عيدية:
تأخرتُ كثيرا، طلبات العملاء اليومية تضاعفت ثلاث مرات هذا اليوم، غداً العيد، الجميع يتصلون لتعجيل الحصول على احتياجاتهم قبله، لا يكون العيد عيدا إلا بحلويات (النهرخوز) وسِلال تمر البرحي الرطب والمعسل ومدگوگة التمر الزاهدي، من صنع معملنا، هدايا بين (المُعيدين) أو لتوزيعها في المجالس والأفراح، لا يكتفون بكليجة التمر والجوز، منتجاتنا تَخطتْ حدود البصرة حتى بغداد.
ضغط العمل شديد، العمال كلهم غادروا عند السحور، جهزوا لي مواد العمل، وطلبوا الإذن بالانصراف، يسكنون بعيدا، في النواحي النائية من البصرة، أو في المحافظات المجاورة، ليس استغلالاً ولا بطيبة قلب زائدة، المدير يعتمد عليّ، ولا أقدر على خذلانه، خصوصاً الليلة.
كيلوغرام واحد من النهرخوز وآخر من كليجة التمر من صاحب العمل، عوضا عن التأخير، لا تشفعان لدى العائلة، دقائق ويحين موعد الإفطار، كيف سأصل للبيت، الشوارع في هذا الوقت لا حس ولا نفس (تصوصي)، ليس هناك أحد يقلني للبيت، والمسافة بعيدة.
أور يعشق حلاوة النهرخوز يأكلها مع الخبز الأسمر كوجبة كاملة، لا يمّلُ منها، لكنها غالية قليلا يصعبُ عليَّ شراؤها باستمرار، حبيبي يُقّدرُ وضعي المادي، ولا يحرجني بطلبها.
أتاليا تفضل كليجة التمر مع أن كليجة نينوا لا تقارن بأي كليجة أخرى، تأخذ الصحن الخاص بها، وتتسامر مع صديقاتها بنات الجيران ليلة العيد مع شاي أبي الهيل، لا تقبل أمها أن تتأخر عند الجيران، تخاف عليها من الشارع وما به من مخاطر، نسيتْ أن كل أهل البصرة عائلة واحدة.
الشوارع تخلو من المارة، رائحة القلي تزكي الأنوف، أعشق الطماطم وهي تقبع في قعر المقلاة مطهية بزيادة، مع عروق (الطاوة) كفطور، أو ثريد الباقلاء مع البصل ودهن الحر بوجه الصحن، لا أبدله حتى بكباب السوق وباچته باهظة الثمن.
لا أعلم كيف كانت حياتي قبلهم، أو بعدهم، أور يفتح الباب لي بيد، وقدح لبن أربيل المُدخّنْ البارد بيده الثانية، أتاليا تقف في باب الاستقبال تحمل لي خُفّي نعليّ ودشداشة (الزبدة)، أسمع صرخات نينوا من المطبخ طلبا للمساعدة، تتذمر من عدم مساعدة الصغار لها.
حتى بعد اندلاع الحرب، واستمرار القصف المدفعي على بيوتنا، لم يكّفوا عن طقوس الفطور في شهر الصيام، خوفها يتزايد، خصوصا بعد إصابة صديقتها وجارتها سميراميس وأطفالها، كادوا يفقدون حياتهم بسبب قذيفة مدفع سقطت على منزلهم المجاور لمنزلنا، لكنهم لا ينفكون ينتظرونني عند الباب رغم تحذيرها المستمر لهم.
الوقت يمضي وسيفوتني، فطار الليلة الأخيرة من الصيام، ليلة العيد، سيغضبون عليّ لأني تأخرت عن الغناء معهم، نردد مع فرقة الإنشاد (يا إله الكون أنا لك صمنا …..)، ونحن نأكل تمرة ورشفة من عصير النومي بصرة قبل الصلاة، كيف أتأخر عن موعد إعطائهم العيدية بعد الأذان؟ كيف سينامون وعيديتهم ليست تحت وسادة كل واحد منهم؟.
الحمد لله، سيارة أجرة توقفت، سألحق بهم، عسى أن يستطيع إيصالي إليهم في الوقت المناسب.
– شكرا لوقوفك، لقد فقدت الأمل في (توصليه)، أرجوك بسرعة.
-إلى أين؟
-إلى المقابر.
د. نبراس سالم
المراجع:
https://mawdoo3.com>…>(1)
الفرق بين الحوار الداخلي والخارجي
https://www.zyadda.com>what-is..(2)
ما هو القلاش باك
https://www.aljazeera.net>10/2018(3)
“النوستالجيا”…لماذا يلجأ الانسان للعيش في الماضي؟
https://www.researchgate.net>…PDF(4)
بين المونولوج الداخلي وخصوصية التشكيل..مقاربة في رواية-