فى مثل هذا اليوم16يوليو1951م..
أفراد من الحزب السوري القومي الاجتماعي يغتالون رئيس وزراء لبنان رياض الصلح في العاصمة الأردنية عمّان وذلك انتقامًا لإعدام أنطون سعادة.
في تمام الساعة 3:45 من عصر يوم 16 تموز/يوليو 1951 اقتربت سيارة هدسون زيتية اللون من موكب رئيس وزراء لبنان السابق رياض الصلح وهو في طريقه إلى مطار العاصمة الأردنية عمّان وأطلقت عليه النار. أصيب الصلح في قلبه ووصل إلى المستشفى الإيطالي جثة هامدة، وأصيب طبيبه الجالس إلى جانبه نسيب بربير بجروح طفيفة.
كان موكب الصلح مؤلفاً من سيارتين؛ واحدة أصيبت والثانية انطلقت لمطاردة القتلة، وفيها مرافق الرئيس عبد العزيز عرب وضابط من الحرس الملكي الأردني. وعند الاقتراب من الجناة قفز ثلاثتهم من السيارة وقام مهندس العملية ميشيل الديك بقتل نفسه لكيلا يقع أسير في يد الأجهزة الأردنية، وهو لبناني من طرابلس عمل في الجمارك السورية وعند تقاعده فتح مطعماً ومقهى في مدينة درعا الحدودية مع الأردن.
ما شريكه محمد أديب الصلاح فهو وكيل ضابط في الجيش الأردني وكان قد عرض على الديك ارتداء ملابس رقباء في سلاح الطيران الأردني وتصفية الصلح في مطار عمّان. لم يتمكن من الفرار وأطلق النار على نفسه أيضاً ولكنه اعتقل ونُقل إلى المستشفى للتحقيق معه قبل وفاته. وثالثهم أسبيرو وديع كان سائق على طريق دمشق عمّان وقد سخر سيارته الهدسون لتنفيذ الجريمة. فر من يد السلطات الأردنية وانتقل للعيش في البرازيل بواسطة جواز سفر سوري، وفيها توفي بعد سنوات طويلة.
ي صباح 17 تموز/يوليو 1951 عاد جثمان رياض الصلح إلى بيروت، يرافقه الأمير نائف بن عبد الله، وكان لبنان كله موشحاً بالسواد، حداداً على روح أحد الآباء المؤسسين للدولة اللبنانية. في التحقيقات، تبين أن الجناة الثلاثة كانوا أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأن أمر القتل جاء من رئيسهم جورج عبد المسيح، ثأراً لمؤسس الحزب أنطون سعادة الذي كان قد أعدم بأمر من الصلح سنة 1949. وقيل إنهم وعند إطلاق النار على الصلح قالوا: “خذها من يد سعادة!”، هذا هو السبب المعلن للجريمة والمثبت في كتب التاريخ والتحقيقات القضائية، ولكن ثمة أسئلة حول القضية لم تدرس بعد بشكل كاف، أولها: ما هو سبب زيارة رياض الصلح إلى الأردن؟
زيارة عمّان
لم تكن علاقة رياض الصلح بالملك عبد الله جيدة، وكان يتهمه بالتخابر السري مع اليهود أثناء حرب فلسطين سنة 1948. الصلح نفسه كان قد التقي بشخصيات صهيونية في العشرينيات والثلاثينيات، ولكنه اعتبر أن كل هذه الاجتماعات جرت قبل احتلال فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل وليس في خضم الحرب الفلسطينية. وكان الصلح صديقاً وحليفاً مع رئيس سوريا الأسبق شكري القوتلي، وهو العدو اللدود للملك عبد الله الذي وقف في وجه مشروع سورية الكبرى الذي نادى به الملك لتوحيد سوريا والأردن تحت العرش الهاشمي. تموضع الصلح في الحلف السوري – السعودي – المصري المعادي للمطامع الهاشمية في الوطن العربي، وهذا ما قد يفسر محاولات الملك عبد الله لاستمالته والاجتماع به عند زيارته إلى بيروت في أيار/مايو 1951.
وفي حزيران/يونيو اتصل الملك بالصلح بعد أربعة أشهر من تركه رئاسة الحكومة ودعاه إلى عمان للتباحث في أمر “شديد الأهمية”. أثارت دعوته فضول الصلح وقرر تلبية الدعوة والسفر إلى الأردن. وصل إلى مطار المفرق القريب من عمّان في 13 تموز/يوليو 1951 ومعه طبيبه الخاص ومرافقه الخاص والصحفيين محمد شقير وبشارة مارون.
كان في استقبالهم رئيس الحكومة الأردنية سمير باشا الرفاعي ووزير المالية سليمان النابلسي، وانتقلوا معهم مباشرة لمقابلة الملك في قصر بسمان المنشأ حديثاً إلى الجهة الشرقية من قصر رغدان.
جرت عدة لقاءات ثنائية مغلقة بين الرئيس اللبناني والملك الأردني وقد سرّ الصلح عما دار فيها أمام محمد شقير، طالباً منه عدم نشر أي شيء في جريدة النداء. قال إن الملك صارحه بأنه وعلى الرغم من انعدام الصداقة بينهما، إلى أنه يعتبره من أهم الزعماء العرب الذين تخطت شعبيتهم حدود بلادهم، وبذلك يريد منه مساعدته على إتمام أمر هام وهو توحيد الأردن من العراق بعد رحيله.
قال الملك عبد الله أن كبر في السن وهو خائف على مستقبل الأردن من بعده. ابنه البكر وولي عهده الأمير طلال كان يعاني من اضطرابات نفسية وهو غير قادر على تحمل المسؤولية –بحسب قول رياض الصلح – وحفيده الأمير حسين لا يزال صغير وبحاجة إلى كثير من الوقت والتحضير ليصبح ملكاً. ومن هذا المنطلق قرر الملك توحيد بلاده مع العراق للحفاظ على الملك الهاشمي، وهو يريد من الصلح الترويح لهذه الفكرة لدى القادة العرب ضماناً لعدم حدوث أي تدخلات خارجية بعد رحيله. بعد اللقاء مع الملك اتصل الصلح بزوجته في بيروت وقال لها أنه عائد وفي جعبته “أخبار سارة ستسعد قلب كل عربي”.
هنا لا يمكننا نفي حاجة الصلح لفتح صفحة جديدة مع عبد الله، أي أن التقارب مع الأردن كان من مصلحته، نظراً لتهور علاقته مع سوريا وتأزم تحالفه داخل لبنان مع رئيس الجمهورية بشارة الخوري. كان الصلح ومنذ وصوله إلى الحكم سنة 1943 متحالفاً مع الرئيس الشيخ بشارة الخوري، وقد عمل معه على الميثاق الوطني الشهير الذي حدد شكل التخاصص الطائفي في لبنان بين المسيحيين الموارنة والمسلمين السنة.
عملا معاً على محاربة الفرنسيين واعتقلا معاً في تشرين الثاني/نوفمبر 1943 ليكون تاريخ خروجهم من المعتقل عيد الاستقلال اللبناني. كما بذل الصلح جهوداً كبيرة لإعادة انتخاب الشيخ بشارة لولاية رئاسية ثانية، ولكن الأخير قرر التخلي عنه في 13 شباط/فبراير 1951، خوفاً من هيمنة رئاسة الحكومة “المسلمة” على رئاسة الجمهورية “المسيحية” نظراً لشخصية الصلح الكارزماتية الطاغية وشعبيته الكبيرة في الأوساط المسلمة والمسيحية معاً.
الخلاف مع سوريا
إقليمياً كان الصلح على خلاف شديد مع رئيس الحكومة السورية خالد العظم ومع العقيد أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الأول في سوريا في كانون الأول/يناير 1949. لم يكن الشيشكلي قد نفذ انقلابه الثاني بعد الذي أطاح برئيس الجمهورية هاشم الأتاسي نهاية العام 1951، ولكن الجميع كان يعرف أنه الآمر الناهي بدمشق وهو المقرب من الحزب السوري القومي الاجتماعي والمنتسب إليه منذ شبابه.
ثار الشيشكلي ضد تسليم سعادة إلى السطلات اللبنانية في تموز/يوليو 1949 وغضب كثيراً من إعدامه بأمر من الرياض الصلح. شارك في انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم، وقيل إنه أخذ قميص الزعيم الملطخ بالدم، وقدمه إلى أرملة سعادة في دير صيدنايا، قائلاً إنهم غسلوا الدم بالدم. تخوف الصلح من أي عملية انتقامية قد يقودها الشيشكلي وأعوانه ورفاقه القدامى في الحزب السوري القومي، ورأي أنه من الضروري تعزيز موقعه عربياً عبر طيّ صفحة خلافه مع الملك الأردني، المقرب من الغرب وتحديداً من بريطانيا.
العودة إلى زيارة الأردن
حلّ الصلح ضيفاً مكرماً على الملك عبد الله ونزل في فندق فيلاديلفيا الأعرق في عمّان يومها. إضافة للمحادثات السياسية مع الملك دارت بينهما مبارزة شعرية، وأقيمت له حفلات استقبال في السفارتين اللبنانية والسعودية في الأردن. بعد الانتهاء من الاحتفالات والولائم قرر العودة إلى لبنان عبر طريق البرّ، ولكن الملك أصرّ على إرسال طائرة خاصة لنقله إلى بيروت، بحسب ما جاء في كتاب عن حياة الصلح صدر سنة 2010 للصحافي البريطاني باتريك سيل. وهو في طريقه إلى المطار، تمّت تصفيته من قبل عناصر الحزب السوري القومي الاجتماعي، قبل أيام معدودة من مقتل الملك عبد الله في القدس.
الجريمة قد تبدو مباشرة وغير قابلة للتأويل، فهي جريمة ثأر منظمة نفذها القوميون السوريون انتقاماً لمقتل زعيمهم. ولكن يبقى هناك ألف سؤال وسؤال؛ أولها، سبب إصرار الملك عبد الله على سفر الصلح إلى عمّان دون توفير حماية لائقة به، وهو يعرف أن حياة الرجل مهددة. لم يُرسل في وداعه إلا ضابط واحد من الحرس الملكي، دون أي مؤازرة من الشرطة والجيش، وقد يكون ذلك لسبب بسيط أن العاصمة الأردنية كانت أمنة جداً، أي أن لا خوف على ضيفها اللبناني من أي مكروه.
لكن تساءل كثيرون عن احتمالية توطؤ السلطات الأردنية في الجريمة – وليس الملك عبد الله – وذلك لأن أحد الجناة، كما أوردنا سابقاً، كان وكيل ضابط في الجيش الأردني، وهذا ما قد يفسر تباطؤ سائق السيارة التي استقلها الصلح، ولعله كان شريكاً في المؤامرة، ما جعله يخفف من سرعته لكي يتمكن ميشيل الديك من إصابة الصلح إصابة مباشرة.!!!!!!!!