فى مثل هذا اليوم21يوليو1718م..
التوقيع على معاهدة باساروفجا.
ظهر على سطح الأحداث السياسية في منطقة الشرق الأوسط وجنوب المتوسط صراع مشتعل بين الجارتين القديمتين، تركيا واليونان، فيما يتعلق بتحديد المناطق والحدود البحرية بين الدولتين. وترى اليونان أنها استحوذت على معظم جزر بحر إيجه مثل “كريت” و”رودس” وحتى جزيرة “قبرص” في شرق البحر المتوسط بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الثانية والاتفاقيات الدولية التي وقعتها تركيا الجمهورية بينها وبين القوى الدولية كما حدث في اتفاقيات باريس ولوزان ثم مونترو فيما بعد، أما تركيا فتعترض على أن تتعامل دولة أرخبيلية مثل اليونان بمنطق السيطرة المطلقة على البحر المتوسط في حين تقبع هي صاحبة الساحل الأطول في شمال شرق البحر المتوسط دون نفوذ بحري يُذكَر بحُكم القانون الدولي للبحار الذي ترفض الاعتراف به حتى اليوم.
أيا ما يكون سبب التنافس على الحقوق والثروات البحرية في شرق البحر المتوسط وبحر إيجه، فإن لهذه القصة بداية تتصل بوجود الأتراك في الأناضول وهزيمتهم للبيزنطيين الروم (اليونانيين) منذ معركة ملاذكرد عام 463هـ/1071م، حين طرد الأتراك الروم البيزنطيين من الأناضول حتى بلغت قواتهم أقصى الغرب عند سواحل بحر مرمرة. وحينها لم يعد يفصل بين الجانبين إلا شريط ضيق من غرب الأناضول ثم مضيق البوسفور الذي حال طيلة 4 قرون تقريبا بين الأتراك السلاجقة ثم الإمارات التركمانية ثم العثمانيين، وبين السيطرة على القسطنطينية وإسقاط الإمبراطورية البيزنطية.
في عام 855هـ/1451م تُوفي السلطان العثماني السادس صاحب الجهود الكبيرة في إعادة توحيد الدولة العثمانية مراد الثاني بن محمد الأول، وقد تمكَّن -مثل العديد من آبائه وأجداده- من إخضاع الأناضول ومناطق واسعة من شمال وجنوب البلقان، لكنه تعرَّض أثناء مدة سلطنته لهزيمة من الحلف الصليبي جعلته يعود أدراجه إلى زاوية صوفية صغيرة في منطقة “مَنيسا” بالأناضول عابدا متبتلا ومتنازلا عن العرش لابنه القاصر محمد الثاني الذي صار الفاتح فيما بعد.
غير أن الأخطار التي واجهت السلطان محمد ذا السنوات والخبرة الضئيلة وقتها، وعلى رأسها ثورات الإنكشارية تارة، وفسخ الأوروبيين -وعلى رأسهم المجريون- اتفاقيات الهدنة المبرمة بين الجانبين تارة أخرى، فضلا عن الثورات التي اشتعلت في جنوب اليونان؛ كل هذا جعل السلطان مراد الثاني يستعيد زمام عرشه مضطرا، ويعمل على سحق وتخطي هذه التحديات بسرعة لافتة. بيد أن القدر لم يمهله حتى وافته المنية عام 1451هـ وهو لا يزال في السابعة والأربعين من عُمره، فارتقى ابنه ذو العشرين عاما محمـد الثاني إلى سُدَّة العرش والأوضاع الداخلية في الدولة العثمانية، سواء في الأناضول أو مناطق الرومللي (البلقان)، مُهيَّأة له لإتمام حلمه الكبير بفتح القسطنطينية عاصمة البيزنطيين.
استطاع هذا السلطان الشاب بعد مغامرة وجسارة وثبات على مدار شهرين أن يحاصر عاصمة الإمبراطورية الرومية البيزنطية التي حاربت الإسلام لأكثر من 800 عام حتى عصره، ونجح في أن يدخلها فاتحا، مُصيبا بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء على فاتحها، فأضحى منذ ذلك الحين لقبه “الفاتح” “صاحب البشارة”. بيد أن السلطان الشاب كان طموحا، ولم ينوِ التوقُّف عند هذا الحد، حيث تطلَّع إلى البلاد التي لم يستطع آباؤه فتحها، وعلى رأسها أهم أقسام اليونان الحالية وهي بلاد “الموره”. فكيف استطاع السلطان محمد الفاتح أن يضم أثينا -عاصمة اليونان الحالية- إلى الدولة العثمانية؟ وكيف تمكَّن من ضم بلاد الموره درة اليونان الجنوبية التي أثارت عليه حفيظة البابوية والبنادقة والقوى الأوروبية آنذاك
كان السلطان العثماني الرابع بايزيد الأول، الذي اعتلى العرش بعد استشهاد والده السلطان مراد الأول في معركة قوصوه “كوسوفو” سنة 1389م، من أوائل السلاطين العثمانيين الذين تنبَّهوا لأهميتين حيويتين للدولة العثمانية؛ الأولى تمثّلت في تطوير الأساطيل العثمانية باعتبارها ضرورة من ضروريات الدولة ومشروعها الإستراتيجي لتشكيل دولة مركزية تكون عاصمتها القسطنطينية “إسطنبول”، والثانية توسيع نفوذ العثمانيين وسيطرتهم على البلقان وبحر إيجه، وقد سار على نهجه حفيده السلطان الشاب محمد الفاتح قُبيل وأثناء وبعد فتح القسطنطينية. وقد حرص السلطان الفاتح على زيادة عدد سفن الأسطول العثماني في سواحل الأناضول الغربية في مناطق “غاليبولي” و”إزميت” فضلا عن إسطنبول بعد فتحها، بالإضافة إلى إنشائه مؤسسات لتدريب جنود البحرية العثمانية وضباطها. ومنذ ذلك الحين اتخذ الفاتح والعثمانيون من بعده مدينة غاليبولي، الواقعة في شبه جزيرة تراقيا والمطلة على بحر إيجه ومضيق الدردنيل، مركزا للأسطول العثماني، حتى باتت منطلق عمليات العثمانيين البحرية في البحر المتوسط(1).
أدرك العثمانيون أن السيطرة على جزر بحر إيجه، الواقعة حينئذ تحت سيطرة البيزنطيين والبنادقة والنابوليين الإيطاليين، هدف إستراتيجي لا محيص عنه لتأمين سواحل الدولة العثمانية، وزيادة خراجها السنوي، وتأمين بحر إيجه من أي هجمات أوروبية قادمة أثناء فتح القسطنطينية وبعدها. واستطاع العثمانيون في أوائل عصر السلطان الفاتح وبواسطة أسطولهم الواعد فتح العديد من جزر إيجه، كما حاول بابا روما وقوات أوروبية متنوعة استرداد العديد من هذه الجزر آنذاك، لكنها محاولات باءت بالفشل(2).
في تلك المرحلة المبكرة الأولى التي استمرت منذ ما قبل فتح القسطنطينية في منتصف القرن الخامس عشر وبعد ذلك، استطاع العثمانيون السيطرة على قسم مهم من جزر بحر إيجه أهَّلهم كما سنرى إلى السيطرة على شبه الجزيرة اليونانية كاملة فيما بعد، لكن السيطرة المطلقة على كل جزر بحر إيجه أو كما كان يُسميها العثمانيون “بحر الجُزر” قد استمرت لمدة قرنين تاليين على الأقل. وقد نجحت الدولة العثمانية بتدشين المرحلة الثانية من السيطرة على جزر بحر إيجه بين عامي 1522 و1566، وهي فترة فُتِحَت فيها جزيرة رُودس مع العديد من الجزر المجاورة لها، وتزعَّم حركة الفتوحات آنذاك السلطان سليم الأول، الذي استطاع ضمَّ بلاد الشام ومصر والحجاز إلى الدولة العثمانية، ثم ابنه السلطان الأشهر سليمان القانوني، الذي وسَّع من الهيمنة العثمانية على بحر إيجه وشرق البحر المتوسط.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة من سيطرة الدولة العثمانية على جزر بحر إيجه فبدأت عام 1669 بفتح جزيرة “كريت” في عهد السلطان العثماني محمد الرابع. وبحلول عام 1718، وعقب معاهدة “باساروفجا” التي وُقِّعَت بين الدولة العثمانية وكل من النمسا وجمهورية البندقية؛ استطاعت الدولة العثمانية أن تُسيطر على كامل الجزر الواقعة في بحر إيجه، بالإضافة إلى سيطرتها على أراضي دولة اليونان الحالية، باستثناء جزيرة “كيثيرا” (تشوها بالتركية) التي ظلت جمهورية البندقية الإيطالية تُسيطر عليها(3).
سقوط أثينا
لقد تطلَّع العثمانيون دوما إلى السيطرة على بلاد اليونان التي انقسمت إلى أثينا في الشمال وبلاد الموره في الجنوب، وكانت هذه المناطق تابعة للإمبراطورية البيزنطية كغيرها من مناطق شرق أوروبا وبحر إيجه والأناضول؛ فعندما مات حاكم أثينا “نريو أكسييولي” سنة 1453م نشب صراع على عرش أثينا، وقد شكا أهل أثينا إلى السلطان الفاتح من هذه الصراعات، وتأثيراتها على حياتهم الأمنية والاقتصادية، ولهذا السبب استغل الفاتح هذا الخلاف الداخلي فأرسل قائده “عمر بن طُراخان” للاستيلاء على المدينة، وقد ساعده في مهمته سخط أهل المدينة على الأطراف المتناحرة على السُّلطة، ولذا أتمَّ القائد العثماني فتح المدينة في حدود عام سنة 1456م/860هـ(4).
على أن الجزء الجنوبي من بلاد اليونان كان قد عُهِدت إدارته إلى الإمبراطور البيزنطي “قسطنطين دراجازيس” مناصفة مع أخويه “توماس” و”ديمتريوس” منذ سنة 1448م. وكان توماس رجلا قاسيا شديدا على الرعية، بينما مال أخوه ديمتريوس إلى اللين، ولهذا السبب اندلعت بين الأخوين صراعات حامية على النفوذ في هذه المنطقة، وقُبيل فتح القسطنطينية والقضاء على الإمبراطورية البيزنطية، أدرك السلطان الفاتح الأهمية الجيوسياسية والإستراتيجية، فضلا عن وفرة الموارد الاقتصادية المهمة في منطقة الموره، وقدرتها على إمداد القسطنطينية “إسطنبول” بأي إمدادات عسكرية وتموينية عند بدء الحصار والهجوم العثماني، ولذا أرسل الفاتح حامية عسكرية لمنع حاكميها من مساعدة أخيهما الإمبراطور البيزنطي، وقد نجح في مهمته(5).
تمكَّن السلطان الشاب محمد الثاني من فتح القسطنطينية في مايو عام 1453م/857هـ، وحينها أدرك الأخوان الحاكمان للموره أنهما أصبحا في مهب الريح بعد انهيار الإمبراطورية التي ظلت تحكم لألف عام. ولم يفكر الأخوان كثيرا حين بادرا إلى طلب الأمان من العثمانيين والاستسلام، وقد قَبِل السلطان محمد الفاتح هذا الإعلان بشروط عديدة ضمنت له سياسيا فرض الهيمنة العثمانية، على رأسها دفع الجزية وإبقاؤهما في السُّلطة. ورغم ذلك لم يستتب الأمن في هذه المنطقة، إذ تدخَّل في شؤونها بعض الغزاة الألبان من الجهة الغربية، فنشب الصراع من جديد أكثر ضراوة هذه المرة. وقد خشي السلطان الفاتح من خطر الألبان وإمكانية استيلائهم على شبه جزيرة الموره، ومن ثمَّ أرسل قائده العسكري الماهر “بن طراخان” كي يقضي على الخطر الألباني، ثم اضطر إلى الذهاب بنفسه على رأس جيش آخر حتى هدأت الأمور وعاد السلطان إلى العاصمة إسطنبول.
فتح القسطنطينية
فتح القسطنطينية
وفي كل مرة عادت فيها القوات العثمانية إلى إسطنبول، كانت الموره تعود إلى سابق عهدها، فأرسل السلطان فيما بعد “زاغنوس” باشا، الصدر الأعظم وأحد أهم القباطنة والقادة العسكريين في عصره، لتوفير الاستقرار في شبه الجزيرة، وإرغام كل من توماس وديمتريوس على تنفيذ الاتفاقيات والشروط المبرمة مع العثمانيين. بيد أن توماس كان استغل في كل مرة عودة العثمانيين إلى أدرنة أو إسطنبول لينقلب على عقبه، ولهذا السبب قرر السلطان الفاتح عام 1460م/865هـ أن يتوجَّه على رأس حملة عسكرية بنفسه لاقتلاع بقايا البيزنطيين وفرض السيطرة الكاملة على الموره، حتى حكمها بعدئذ العثمانيون أنفسهم وولاتهم(.
يصف المؤرخ الفرنسي “روبير مانتران” في موسوعته “تاريخ الدولة العثمانية” اضطرار السلطان العثماني وعزمه على فتح اليونان كاملة بقوله: “في مايو 1460، فإن محمد الثاني [كان] عازما على ضم أرض كان من الواضح أنه لم يعد قادرا على السيطرة عليها بوسائل أخرى [دبلوماسية وسياسية]، حيث قرر التدخل شخصيا، وأعلن ديمتريوس إذعانه دون مقاومة، قابلا الشروط المشرفة التي قُدّمت إليه، وخلال الصيف استحوذ العثمانيون على كل الإمارة الاستبدادية” .
ويبدو أن هذا الصراع كان سببا مهما من جملة أسباب أدت إلى إسقاط أهم قلاع ومُدن اليونان الجنوبية أمام جحافل وقوة السلطان محمد الفاتح، وتحت وقع ضرباته القاصمة سلم ديمتريوس مدينته، ولذا خصَّص له السلطان راتبا سنويا سخيا وجعل له مدينة “أينوس” مقرا له حتى وفاته عام 1471م. أما أخوه فقرَّر الفرار هربا إلى البابوية في روما، طالبا النجدة لإعداد حملة صليبية تستعيد ممتلكات البيزنطيين في الموره، لكن البابا لم ينجده أمام قوة العثمانيين آنذاك، ولهذا السبب عاد توماس خائبا ولاجئا هذه المرة عند جيرانه في ألبانيا التي مكث بها حتى وفاته سنة 1465م(8).
وهكذا كما تمكَّن السلطان محمد الفاتح من هزيمة البيزنطيين وفتح القسطنطينية سنة 1453م، تمكَّن أيضا من فتح بلاد اليونان كاملة عقب ذلك بسبع سنوات فقط، ليصبح واحدا من أكثر السلاطين العثمانيين إرعابا لأوروبا، وتدميرا لأقدم إمبراطورياتها. ورغم ذلك، فإن فتح شبه جزيرة الموره في جنوب اليونان كان سببا لصراع طويل بين الدولة العثمانية من ناحية والبابوية وجمهوريات وممالك إيطاليا من ناحية أخرى للسيطرة على بحر إيجه والبحر الأدرياتيكي وسواحل البحر المتوسط الشمالية على مدار العقود والقرون التالية، وحتى بعد استقلال اليونان عند الدولة العثمانية عام 1830م بقيت مشكلة جزر بحر إيجه تراوح مكانها بين أثينا وإسطنبول حتى يومنا هذا.
معاهدة پاساروفچا (بالتركية: Pasarofça Antlaşması) أو معاهدة پساروفيتش Treaty of Passarowitz (في 22 شعبان 1130هـ= 21 يوليو 1718م) بين الدولة العثمانية وكل من النمسا وجمهورية البندقية.
بدأت مساعي الصلح بين الدولة العثمانية وكل من النمسا والبندقية بعد (12) يومًا من صدارة إبراهيم باشا، وانتهت هذه المساعي بتوقيع معاهدة وصلح بساروفيتش. وقد أنهت هذه المعاهدة، المكونة من (20) مادة خاصة بألمانيا، و(26) مادة خاصة بالبندقية، حالة الحرب مع البندقية التي استمرت ثلاث سنوات وسبعة أشهر، ومع النمسا التي استمرت سنتين وشهرين، وتقضى هذه المعاهدة بإعادة المورة إلى الدولة العثمانية لقاء تنازلها عن مقاطعة تمسوارا وبلغراد وصربيا الشمالية وبلاد الولاخ، وأن تبقى جمهورية البندقية محتلة ثغور شاطئ دالماسيا، وأن يستعيد رجال الدين الكاثوليك مزاياهم القديمة في الدولة العثمانية.
وقد عدّلت هذه المعاهدة في (المحرم 1133 هـ= نوفمبر 1720م) –بناء على طلب من روسيا- بما يتيح لتجارها المرور من أراضي الدولة العثمانية وبيع سلعهم فيها، وأن يتوجه الحجاج الروس إلى بيت المقدس وغيره من الأماكن والأديرة المقدسة بدون دفع خراج أو رسوم أثناء إقامتهم أو على جوازات سفرهم.
وأضيف إلى هذه المعاهدة شرط آخر ذو أهمية سياسية كبيرة تعهدت فيه الدولة العثمانية وروسيا بمنع زيادة نفوذ الملك المنتخب ببولونيا على نفوذ الإشراف، وعدم تمكينه من جعل منصبه وراثيًا في عائلته، ومنع وصول هذين الأمرين بكل الوسائل الممكنة، بما فيها الحرب.
وقصد بطرس الأكبر بهذا الشرط إيجاد النفور والعداوة بين البولونيين والعثمانيين؛ حتى لا يتشكل حلف بين مجاوريه الأقوياء (السويد وبولندا والدولة العثمانية) يحاربه، وهذا يعني إضعاف مجاوريه الواحد بعد الآخر لتزيد قوة روسيا بازدياد ضعف جيرانها الأقوياء، وقد نجح فيما يتعلق بالسويد، ثم شرع في تنفيذ خطته ضد بولندا والدولة العثمانية، ووضع أول حجر في مشروعه لإضعاف بولندا مع الدولة العثمانية.!!!!!!!!!