” البطلة”
بقلم:ماهر اللطيف
قضيت يوما جميلا مع أبنائي في مدينة الألعاب ،أين مرحوا، ولعبوا ، و روحوا عن أنفسهم كما أرادوا ورغبوا دون قيد أو شرط مع العديد من الأطفال ورواد هذا المكان في مثل هذا اليوم المزدحم بالزوار والعائلات التي ولجت المدينة لمكافأة أبنائها وإهدائهم بعض الوقت والاهتمام إثر إتمامهم السنة الدراسية الحالية بنجاح – معظمهم على الأقل – وتفوق ….
ثم اتجهنا صوب المسرح البلدي لحضور عرض كوميدي جديد يحقق منذ مدة نجاحات منقطعة النظير – مثلما بلغني من زميلاتي و وسائل الإعلام وبقية مصادر الأخبار المعروفة في الشرق العربي -، فضحكنا من الأعماق مثل بقية الحضور ، وصفقنا ،وغنينا ، وتمنينا لو لم ينته هذا العرض حتى الصبح على الأقل لنغتنم الفرصة ونسترق مزيدا من البهجة والسرور من هذا العالم الغريب….
وما إن نزعنا ثيابنا واغتسلنا واتجهنا نحو بيت الجلوس لقضاء بعض الوقت قبل الخلود والاستسلام للنوم بعد هذا الجهد المضني، حتى قال لي ابني بحذر وحيرة :
– أماه ، (يحدق النظر في عيني ملياً) أشكرك جزيل الشكر فعلا على ما قمت به نحونا اليوم حتى أننا لم نشعر بغياب والدنا الذي توفي منذ أشهر قليلة
– (والدمع يكاد ينهمر ويفضحني، دمع فرح بما سمعت وطربت لموسيقى هذه العبارات الشجية، وحزن ولوعة لفقدان سندي و روحي زوجي العزيز وثقل المسؤولية على كاهلي وخوفي منها) لا شكر على واجب يا مخلص (أقبله من جبينه، كتفه،يده، خده…) ، واعذروني إن قصرت في حقكم ولم أفكم ما تستحقون
– (مقاطعا بشدة وباكيا) بالعكس أيتها البطلة، فقد أعطيتينا ما لم نحلم به ولم نجرؤ على ذلك ، أعطيتينا الحب وزرعتيه فينا وبيننا إلى أن بتنا جميعا شخصا واحدا ، الدفء والحنان والوحدة والتضامن وغيرها كثير….
وقفزت هاجر البنت البكر ومهى الصغرى وارتمتا في أحضاني تشبعانني قبلا ومسا وهمسا وجسا من كل مكان إلى أن أطلقت العنان للبكاء وسمحت له بهجر جسدي دون رجعة لا إراديا ، ومخلص يكفكفها بلين ورقة وحنان وينسى دموعه التي بلت كتفي…
بعدها، دعوتهم لمشاركتي فراشي هذه الليلة لأشبع نهمي ورغبتي في ضمهم وتقبيلهم دون انقطاع إلى أن ينال منا التعب ويغلبنا النعاس ،لنجدد العهد غدا إن شاء الله ونتقاسم الحب والود وجل المشاعر والأحاسيس الفياضة التي نتوق إليها….
لكنهم سرعان ما غطوا في نوم عميق وتركوني وحيدة : أقبل هذا ، أرتب على كتف تلك ، وأداعب الأخرى ، أهمس في أذن كل واحد منهم “أحبك يا عمري” دون أن أنتظر إجابة أو ردة فعل ، بما أن الكلمة منبثقة من أعماق قلبي ومنبعثة من نبضاته ودوران الدم فيه والهواء الذي كان ينطق باسم كل واحد فيهم باستمرار من ولادتهم إلى مماتي بإذن الله….
تركوني وحيدة لأستنجد بذكرياتي عساها تؤنسني وتقلل من وحشتي ووحدتي ، ذكرياتي التي جمعتني بوالدهم الذي طالما حلم بهم وبمستقبلهم منذ أيام الخطوبة، خطط لهم وتعب من أجل توفير أكبر قدر ممكن من المال والديار والمكاسب الأخرى لتسهيل الحياة لهم وتمكينهم من تحقيق أحلامهم وأهدافهم التي وضع ملامحها عوضا عنهم – ولم ننجح إلى اليوم في تحقيق أي شيء مما ذكر ، بما أننا نعيش في منزل على وجه الكراء ونقتات من أجورنا الشهرية التي لا تغطي رغباتنا وحاجياتنا الأساسية غالبا – ، تحدى وهنه ومرضه واعتدى على ذاته بوحشية وقساوة – فقد أثبتت التحاليل الطبية والكشوفات وغيرها إصابته بسرطان الرئتين الذي يستوجب المتابعة الدقيقة والخضوع إلى مزيد مباشرة الأطباء وتناول الأدوية بما فيها العلاج الكيميائي و الراحة من حين لآخر ليتمكن من الإقامة في المشفى أين يتلقى الأدوية الحساسة والكتابة المستمرة…- ورفض التداوي وإنفاق المال الذي يراه من حق أبنائه دون غيرهم وان كانت التكلفة حياته، تجاهل استجدائي وإصرار كل أفراد عائلته وأصحابه والأطباء وغيرهم لينقذ نفسه من هذا الداء الخبيث، وكان دائما يردد بابتسامة – وربما خيرية – “الأعمار بيد الله ،الموت مرة واحدة وهي رهينة حلول الأجل ، ولن تفرق حينها بين الصحيح والعليل وبين الفقير والغني…” وغيرها من العبارات التي كان يؤمن بها ويرفض التنحي عنها إلى أن استثنته الحياة عنها وأنهت مسيرته في غفلة منا جميعا ….
فهل كان بإمكاني القيام بشيء تجاهه وقصرت فيه؟ هل كنت قادرة على منعه من هذا التعنت والتجبر وحبه المفرط لأبنائه على حساب صحته؟ هل كنت قادرة على تخفيف ألمه وتقليل أوجاعه وكفكفة دموعه أحياناً حين كان ينال منه المرض ويشفى منه ؟ هل ، وهل، وهل ….. عشرات الأسئلة التي جالت بخاطري وأرقتني أي أرق إلى أن قضيتها ليلة بيضاء وكدت أغرق في دموعي….