في مثل هذا اليوم 15 اغسطس1096م..
انطلاق حملة الفقراء التي سبقت الحملة الصليبية الأولى.
حَمْلَةُ الْفُقَرَاءِ الصَّلِيبِيَّةِ أو الْحَمْلَةُ الصَّلِيبِيَّةُ الشَّعْبِيَّةُ أو حَمْلَةُ الْفَلَّاَحَيْن الصَّلِيبِيَّةَ أو مَجْمُوعَةُ الْعَامَّةِ الصَّلِيبِيَّةِ أو حَمْلَةُ الْعَامَّةُ الصَّلِيبِيَّةِ، هي أولى الحملات الصليبيَّة، وأكبر وأشهر حملة شعبيَّة نُظِّمت وأحسنُها توثيقًا. انطلقت قبل الحملة الصليبيَّة الأولى، ويعتبرها البعض جُزءًا مُتمِّمًا لها، بينما يراها آخرون حملةً مُنفصلةً عنها. سُمِّيت بِحملة الفُقراء أو الحملة الشعبيَّة نظرًا لِأنَّ جميع من شارك فيها كان من عوام الناس، وأكثرهم من الفُقراء والمساكين والفلَّاحين الذين رغبوا بِهجر ديارهم والذهاب إلى الديار المُقدَّسة طمعًا في حياةٍ أفضل، أو لِغسل ذُنُوبهم وآثامهم، أو حُبًّا في تحرير القبر المُقدَّس من المُسلمين. وتُسمَّى بِالشعبيَّة أيضًا تمييزًا لها عن حملات النُبلاء والأُمراء الأكثر تنظيمًا والأفضل تسليحًا وتمويلًا.
انتظمت هذه الحملة وتشكَّلت بِقيادة كاهنٍ إفرنجيّ يُدعى «بُطرس الأمياني» (بالفرنسية: Pierre d’Amiens) واشتهر باسم «بُطرس الناسك» (بالفرنسية: Pierre l’Ermite)، وهو من دُعاة البابا أوربان الثاني الداعي إلى المسير نحو الديار المُقدَّسة واستخلاصها من أيدي المُسلمين، فهجر بُطرس الدير وراح يتجوَّل في أنحاء شمال شرقيّ فرنسا ولوثارينجيا داعيًا إلى حملة البابا، واستقطب مظهره الرث، وحماره الأعرج وفصاحته، الفُقراء في كُلِّ مكان. ولم يلتزم هؤلاء بِالموعد الذي حدَّده البابا لِخُرُوج الحملة، أي يوم 15 آب (أغسطس) 1096م المُوافق فيه 22 شعبان 489هـ، فخرجوا قبل ذلك على شكل مجموعاتٍ مُصطحبين معهم نساءهم وأولادهم واليسير من المُؤن والسلاح، كالعصيّ والسكاكين والسُيُوف الخشبيَّة، وتوقعوا حُدُوث المُعجزات والنصر على المُسلمين بِعون الملائكة. وكان أوَّل الخارجين مُساعد بُطرس الناسك، وهو فارسٌ إفرنجيٌّ فقير اشتهر باسم «والتر المُفلس» (بالفرنسية: Gautier Sans-Avoir)، فسار على رأس من اجتمع عليه على طول نهر الطونة (الدانوب) وانحدروا جنوبًا باتجاه القُسطنطينيَّة، وتبعهم بُطرس الناسك وجماعته بعد فترةٍ قصيرة.
بِالإضافة إلى الإفرنج، وصلت أصداء دعوة بُطرس الناسك ومن خلفه البابا إلى الإمارات الألمانيَّة، فنهض أحد النُبلاء وهو القُمَّسُ «أميتش الليننجي» (بالألمانية: Emicho der Leiningen) وانضمَّ إليه راهبان أحدهُما يُدعى الراهب ڤولكمار (بالألمانية: Volkmar) والآخر الراهب گوتشالك (بالألمانية: Gottschalk)، وساروا بِنيَّة الالتحاق بِالصليبيين الفرنجة والزحف إلى بيت المقدس، وأوقعوا بِيهود بلاد الراين مذابح مُروِّعة، على أساس أنَّهم مُرابين استغلاليين وقتلة المسيح وأعدائه، ولم يسلم منهم إلَّا من تنصَّر. ولم تنجح الجحافل الألمانيَّة بِالوُصُول إلى القُسطنطينيَّة بسبب ما افتعله الصليبيُّون من استفزازاتٍ وتخريباتٍ وقتلٍ لِلمدنيين العُزَّل في بلاد المجر، فقام في وجههم الملك المجري كولومان بن گزاي، وفتك بِمُعظمهم، وعاد الباقين إلى بلادهم. أمَّا بُطرس الناسك ووالتر المُفلس فقد وصلا إلى القُسطنطينيَّة، فاستقبلهما الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس الأوَّل كومنين، وسارع إلى نقل جيشيهما عبر مضيق البوسفور إلى آسيا خاصَّةً بعدما أخذ الصليبيُّون يعتدون على القُرى والبلدات الروميَّة.
تقابل الصليبيُّون بُعيد عُبُورهم مع المُسلمين بِقيادة الملك السُلجُوقي قلج أرسلان بن سُليمان، فحلَّت بِالإفرنج سيئي الاستعداد وعديمي الخبرة العسكريَّة كارثةٌ كُبرى، فقضى عليهم المُسلمون وأفنوا ثلاثة أرباع الجيش، ووقع بِالأسر قسمٌ من الذين نجوا، في حين تمكَّنت فئة قليلة من الهرب، فكانت تلك نهاية حملة الفُقراء الصليبيَّة، بعد أن دامت بضع شُهُورٍ فقط.
يرجع الفضل في ابتكار وتنفيذ فكرة إرسال حملةٍ صليبيَّةٍ إلى المشرق لِلبابا أوربان الثاني. ففي ضوء ما سمعهُ هذا البابا عن وُقُوع الأذى والضرر لِلحُجَّاج المسيحيين المُتوجهين إلى الديار المُقدَّسة، بدأ يُفكِّرُ في مشروعٍ لِطرد المُسلمين من آسيا الصُغرى، بِنفس الجُهُد والعزيمة التي كان يجري بها طردهم من الأندلُس. كما أنَّ البابويَّة كانت قد بلغت حينذاك درجةً كبيرةً من سعة النُفُوذ والسُلطان ممَّا جعلها تُفكِّر في انتهاز فُرصة ضعف الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وعدم قُدرتها على صد الخطر الإسلامي، لِتبسط سيطرتها على الكنيسة الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة. والواقع أنَّ البابا أوربان كان أصلح شخصيَّة مُعاصرة لِتنفيذ المشروع الصليبي؛ إذ كانت لديه الجُرأة على الدعوة لِهذه الحرب المُكتسية بِغطاءٍ دينيٍّ ورعايتها، فضلًا عمَّا عُرف به من بُعد النظر ومقدرة في اختيار الرجال وتوجيههم والتأثير عليهم. ثُمَّ إنَّ البابا أوربان الثاني لم يقل مُرونةً عن الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس الأوَّل كومنين، فلم يكد ذلك البابا يتولَّى منصبه حتَّى فتح باب المُفاوضات مع الإمبراطور البيزنطي لِتسوية المُشكلات المُعلَّقة بين الطرفين، كما رفع الحرمان الكنسي الذي كان مُوَقَّعًا على ذلك الإمبراطور، الأمر الذي أدَّى إلى نوعٍ من التقارب بين الكنيستين الشرقيَّة والغربيَّة وإلى منح الكنائس الكاثوليكيَّة في البلاد الأرثوذكسيَّة قسطًا من الحُريَّة في تصريف شُؤونها. وفي سنة 1090م أرسل الإمبراطور الرومي سفارةً إلى البابا أوربان الثاني تحملُ لهُ إخلاص الإمبراطور ومحبَّته. على أنَّ تبادُل السفارات والمُجاملات لم يكفِ لِتخليص آسيا الصُغرى من خطر السلاجقة، لِذلك أراد الإمبراطور البيزنطي استغلال تلك العلاقات الطيِّبة مع البابويَّة لِلحُصُول على مُساعدةٍ عمليَّةٍ من الغرب ضدَّ المُسلمين، فانتهز فُرصة عقد مجمعٍ كنسيٍّ بِرآسة البابا في مدينة بلاصانس – بِشمال إيطاليا – في شهر آذار (مارس) سنة 1095م، وأرسل بعثةً من القُسطنطينيَّة لِحُضُور المجمع وطلب مُساعدة البابا. ولمَّا حضر الوفد البيزنطي، لفت أعضاؤه الأنظار بِسبب ملابسهم الشرقيَّة الفاخرة غير المألوفة عند الغربيين، ثُمَّ رفعوا أصواتهم وأوصلوا رسالة إمبراطورهم المُلتمسة المعونة من مُلُوك أوروپَّا بِأن يُوجِّهوا قُوَّة أسلحتهم لِمُعاضدة القُسطنطينيَّة ولِإنقاذ بيت المقدس. وشرع البابا بِتحريض الجميع بِاتحاد قُواهم واتفاق عزائمهم نحو هذه القضيَّة المُقدَّسة، فقبلوا جميعًا الأوامر واعدين بِأنَّهم بعد أيَّامٍ قليلةٍ يجتمعون تحت بيارق الصليب لِذهابهم إلى بلاد فلسطين لِقتال المُسلمين. ثُمَّ لم تمضِ أيَّامٌ قليلة على هذا المجمع حتَّى سكنت ثائرة من حضره من الحُكَّام، بعد أن اعتراهم الخوف من ترك بلادهم وأوطانهم والذهاب إلى بلادٍ وأقاليم مجهولة عندهم وترك أملاكهم تقع لُقمة سائغة في يد أعدائهم. وهكذا لم تحصل ثمرة من المجمع ولم تتقرَّر فيه كيفيَّة مُحاربة المُسلمين.!!!!!!!!!