أنطولوجيا الوجود البشري بين العلم والدين
بقلم المفكر العراقي : فرقد الأغا
على مدار سنين طويلة من عمر إنساننا العربي المسلم المُثقل بأعباء الحياة وصراع العقائد والمُتخم بخرافات الكهنة، كان ولازال يُعاني من أزمة الضياع وسط زحام التسابق العلمي، والذي يُشعره بالقزمية إتجاه الأنجازات التي حققتها سائر شعوب الأرض، التي تفانت في أستقصاء الحقائق الكونية وسعت حثيثاً للنمو والازدهار العمراني والعلمي والتكنولوجي فأرتقت.
ولأني مؤمن بضرورة قراءة التاريخ وإعادة صياغته رأيت أن الواجب الانساني يُحتم أن أقدم رؤية عقلانية في قضية كثُر الجدال فيها ، وما أنفك ثُنائيا التهويل و التهوين يتناطحان حتى يومنا هذا، دون تقديم دراسة موضوعية علمية دقيقة، وما نشاهده لا يتعدى سوى مهاترات وحرب كلامية لا طائل منها غير مزيداً من الأحتقان والأخفاق والتراجع.
وما أرجوه مما أقدمه بأن يُسهم ولو بنزر يسير ليكون دافعاً لأبناء أمتنا في بذل الجهد العلمي لأكتشاف ماهية الكون وما يحيط بهم، والمساهمة الفعلية في تطوير مسيرة البشرية دون الالتفات لسخافات ذوي العقول المتحجرة.
ففي بحثي المقتضب سعيت لإزالة حُجب الوهم والجهل والإطاحة بالقداسة الزائفة لعقائد واهنة لطالما كانت السبب الرئيس للسيطرة على العقول؛ من خلال هدم الجدار العازل الذي يحول عن التطور واللحاق بالأمم التي سبقتنا، فأوجزت كلماتي في البيان العلمي، و أفصحت عن التأملات التي كانت تجول في ذهني، و التي دونتها على هيأة خطوط عريضة في مُسَودات منذ بضعة سنين، بما يتعلق بحقيقة وجود سلالات بشرية قبل آدم، من خلال تقديم تحقيق موضوعي وقراءة معاصرة في ترجمة النص الديني وبيان مقاصده، والذي أثبتنا من خلاله وجود أقوام بشرية قد سبقت آدمنا و عاصرته.
وما يهمنا في دراستنا هو ما يتعلق بزمن نشأة الأرض ومراحل حقبها الجيولوجية وتطور حياة الإنسان عليها وزمن ظهوره، وإن كان هذا يستدعي أن يُؤلف بحثاً علمياً كبيراً لأشباع مفاصله، إلا أنني رأيت ما لا يُدرك كله لا يترك جُله، وتركت التفصيل لأهل الاختصاص في ” الجيومورفولوجيا و الأنثروبولوجِيا ” .
وجيومورفولوجياً قد تمكن الباحثين من معرفة زمن تشكل الارض وتطور الحياة فيها على أمتداد الأحقاب الجيولوجية المتعاقبة، ويعود زمن تشكل كوكبنا الارض الى ما يقارب 4.5 مليار سنة.
ولبيان ما يتعلق بالعصر الأخير من تاريخ الارض وبدأ حياة الإنسان نكتفي بالاشارة الى البليستوسن الرباعي وهو الزمن الجيولوجي الذي يُعنينا لمعرفة عصور ما قبل التاريخ، بأعتباره عصر ظهور الانسان بحسب المعطيات العلمية التي توصل إليها الباحثون؛ ويؤرخ البليستوسن من 3 ملايين حتى 10,000 سنة ق – م.
ويقسم الى..
البليستوسن الأدنى / ويؤرخ من 3 ملايين سنة حتى 700,000 سنة خلت.
البليستوسن الأوسط/ وهو ما بين 700000 سنة حتى 150 الف سنة خلت.
البليستوسن الاعلى / ويمتد من 150,000 سنة الى 15000 سنه ق – م.
والقسم الثاني من الرباعي هو الهولوسن وقد بدأ منذ 15,000 سنة ومازال مستمراً .
وتقسم عصور ما قبل التاريخ الى:-
العصر الحجري القديم الباليوليت / بدأ في افريقيا منذ حوالي 2,500,000 سنة خلت وأنتهى في حدود 15000 سنه ق- م.
العصر الحجري الوسيط الميزوليت / بدأ منذ 15,000 سنة ق- م، وأنتهى في 10,000 سنة ق- م .
العصر الحجري الحديث النيوليت / بدأ منذ حوالي 10000 سنه وأستمر حتى حوالي 5000 سنة .
العصر الحجري النحاسي الكالوكوليت / ويؤرخ بين 500 – 300 سنة ق – م.
والعصور الكتابية التأريخية تمثل أل 5000 ألف سنة الأخيرة من تاريخ العصر الحجري الكالكوليت .
️
أما أنثروبولوجِياً أكدت الابحاث العلمية أن أول ظهور للنوع البشري منذ ما يقارب 4,4 مليون سنة ويسمى ” الاسترالوبيتك راميدوس ” وهي أقدم سلالة بشرية اكتشفها الباحثون، وقد عاشت مدة طويلة تقارب 2 مليون سنة؛ ويليه ” الاوسترالوبيتك أنامنسيس ” والذي ظهر منذ 4,2 مليون سنة وكان معاصراً للنوع الأول ؛ أما الاوسترالوبيتك العفاري فقد ظهر منذ حوالي 3,5 مليون سنة ويعاصره ” أوسترالوبيتك بحر الغزال ” .
يرى الباحثون أن للأوسترالوبيتك نوعان أحدهما الأفريقي ضئيل الجسم وثانيهما عظيم البُنية، والأول هو الذي صنع الأدوات الحجرية، قد عاش هذان النوعان في تنزانيا وأثيوبيا وجنوب أفريقيا.
وكان النوع ” الهوموهابيل ” الذي يؤرخ لظهوره حوالي 2,2.5 مليون سنة، هو أولى حلقات التطور البشري، و يعد أول كائن حي إستطاع أن يُحقق شرطي الأنسنة وهما الشرط الفيزيولوجي المتمثل بأنتصاب القامة و الشرط الحضاري المتمثل في تصنيع الأدوات الحجرية لذلك سُمي ” الأنسان الصانع ” وقد عاش ما يقارب أكثر من 1,000,000 مليون سنة قبل أن يظهر نوع بشري آخر أكثر ديناميكية.
وقد ظهر بعد ذلك نوع إخر يسمى ” الهومواركتوس ” بحوالي مليون ونصف المليون سنة، ويعتبر هو الحلقة الثانية من حلقات التطور البشري بعد ” الإنسان المنتصب القامة” وقد صنع الحضارة الآشولية التي تتميز بالفؤوس اليدوية، وعاش ما يقارب آل ( 200 – 600 ) ألف سنة ق- م.
وبسبب الفروع الكثيرة لهذه الفصيلة نكتفي بالحديث عن بعض الأنواع التي تفرعت منه والتي ينتمي إليها “الإنسان العاقل” الذي يحتل الكرة الأرضية حالياً بعد أنقراض جميع الأنواع الأخرى .
وتتضمن سلالات الإنسان المنتصب ما يلي:
1. هومو إرغاستر Homo ergaster
عاش هذا النوع المنقرض من البشرية القدامى في أفريقيا في أوائل العصر الجليدي، حيث تم العثور على حفريات تدل على وجود هذا النوع في جميع أنحاء شرق وجنوب إفريقيا، وبشكل خاص على طول شواطئ بحيرة توركانا في كينيا، ويقدر عمر معظم هذه الحفريات ما بين 1.7 إلى 1.4 مليون سنة، ويقدر أنقراض هذا النوع منذ 600 ألف عام، عندما بدأت سلالات بشرية جديدة بالظهور.
2. الإنسان المنتصب الإفريقي African Homo erectus.
عاش الإنسان المنتصب الإفريقي في العصر الجليدي، ويقدر أنه ظهر قبل مليوني عام، وهو أول سلف بشري انتشر في جميع أنحاء أوراسيا (القارة التي كانت تضم أوروبا وآسيا) ويرجح العلماء أن تكون التجمعات الإفريقية للإنسان المنتصب أسلافاً للعديد من الأنواع البشرية التي ظهرت لاحقاً، ويختلف العلماء على الزمن الذي انقرض فيه هذا النوع وعلى الأغلب يقدرون إنقراضه قبل حوالي 117 ألف سنة .
3. الإنسان المنتصب الآسيوي Asian Homo erectus
يتطابق الإنسان المنتصب الآسيوي في صفاته مع الإنسان المنتصب الإفريقي.
4. إنسان النياندرتال H. neanderthalensis
أن إنسان النياندرتال عاش في أوراسيا، وظهر قبل 150,000 سنة تقريباً؛ وقد عُثر على أول دلائل للنياندرتال في جبل طارق، وهو أذكى نوع بشري قديم، وقد سكن الشام وفلسطين وأوروبا ويعتبر أكثر تطوراً من ناحية إنجازاته، وعاش في نظام مدني وقبائلي، ونظام صيد و أكل، وطوع النار وأستخدمها وأصبح يُطهي الطعام، وقد دلت المكتشفات أنه كان يمتلك الجزء المسمى ( Broca ) وهو أكثر وضوحاً لديه من سلفيه “الهوموهابيل ” و ” الهومواركتوس ” وقد كان يتمتع بالعظم اللامي ( tongue bone ) وهو عظم منفصل موجود في الحنجرة تلتصق عليها العضلات التي تتحكم بالأوتار الصوتية، وهذا يدل على أن آلية إصدار الأصوات لدى النياندرتال تشبه ما لدى الإنسان الحديث وهذا ما يؤكد أنه كان قادراً على إصدار الأصوات الفردية للكلام.
وقد ظهر في أوربا منذ حوالي 200,000 سنة خلت، وقد هاجر النياندرتال الى المشرق العربي نتيجة الظروف المناخية القاسية في أوروبا كما يعزو البعض، و تعاصر مع الإنسان العاقل القادم من أفريقيا، الذي وصل الى المشرق العربي بحدود 100,000 سنة، ولم يندثر النياندرتال في العهد الموستيري وإنما أستمر بعض منهم وبهذا يكونوا قد تواجدوا مع أوائل الإنسان العاقل.
وقد أنقرض هذا النوع منذ حوالي ( 25,000 – 40,000 ) سنة في ظروف غامضة وتباينت الآراء حول سبب انقراضه؛ فمنهم من يوعز الأمر الى تغيير مناخي مدمر أطاح بهم؛ أو كوارث طبيعية أو أوبئة شاملة؛ ومنهم من يرى أن سبب أنقراضه نتيجة مذابح جماعية تسببت بأنتفاء وجودهم من على وجه الارض.
5. الإنسان العاقل Homo sapiens
دخلت البشرية في عصر جديد أطلق عليه العصر الحجري القديم الأعلى ( الباليوليت الأعلى ) مع أختفاء إنسان النياندرتال، وظهر نوع جديد من البشر، وهو آخر السلالات البشرية ويسمى ” الهوموسابينس ” ومع ظهوره حدث أنعطافاً كبيراً في مسيرة التطور الحضاري
وقد أسموه العلماء بإنسان ” كرومانيون ” وهو الجد المباشر لأنساننا الحالي وهو الذي أمتلك الصفات الفيزيولوجية والاجتماعية الاقرب لنا من كل الأنواع البشرية التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ.
وقدر الباحثون ظهور الانسان العاقل ” الهوموسابينس” على ما يقرب آل ( 40,000 ) سنة والذي أحتل اجزاء من العالم بدلاً من النياندرتال، وإن ظهوره قد دفع الحضارة الى الأمام بشكل لم يسبق له مثيل إذ نهض بالمستوى الأجتماعي والأقتصادي لدرجة عالية من التقدم والتنوع.
وقد أستوطن الإنسان العاقل في أوروبا بحوالي ( 30,000 ) سنة مضت وقد وصل الى المشرق العربي القديم قبل أن ينتقل لأوروبا؛ وقد أكدت الاكتشافات العلمية أن وجود ” الهوموسابينس ” الأنسان العاقل ابتدأ منذ حوالي ( 100,000 ) سنة في أفريقيا .
وعلى هذا الاساس تعتبر جميع الأنواع البشرية ما قبل ” الانسان العاقل ” هي أقوام لا واعية متأخرة عقلياً بنسب متفاوتة وقد كانت حالتهم ما بين الانسان والبهيمة، وأن الكثير من تلك الأنواع البشرية لا تمتلك لغات تواصلية بإستثناء النياندرتال .
وتأكيداً وأثباتاً لمنهجنا البحثي في تقصّي الحقيقة نُشير الى ما نص عليه القرآن الكريم بخصوص النظر في كيفية نشأة الكون.
قال تعالى ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ) العنكبوت – 20
إذاً هي دعوة لتقصي كيفية بدأ خلق الكون دون أخذ الأجابات والأفكار المُعلبة الجاهزة وترديدها ك ببغاوات دون أن يُفقه شيئاً منها، فليست دعوى السير في الأرض هو المعنى السطحي الذي قد يفهمه البعض وهو التجوال والنظر البصري بل بمعنى الغور في أعماق الأحداث التاريخية العظيمة والتحري عن نواميس الكون ونظامه السببي ومن أجل معرفة جذورنا الضاربة في عمق التاريخ، ولإبقاء جذوة التفكر التي حملها الإنسان الأول، إلا أن مُعظم المسلمين لا يقبلون النظريات العلمية التي تتحدث عن تفسير بداية نشأة الكون علمياً ومنها نشأة كوكب الارض؛ بالرغم من أن القرآن كما قرأنا لا يمنع من التحري عن حقائق الكون والكشف عن قوانينه وتطويعها لخدمة الإنسانية، بل حث تكراراً على ضرورة النظر العلمي والتدبر والتأمل الفكري، فلا يحُق لأحدٍ أن يُصادر القيمة العلمية للنتائج التي قُدمت من قبل تلك العقول لخدمة البشرية والارتقاء بها.
وبداية نُعرج على مورد الاشتباه الذي وقع فيه المفسرين وعموم رجال الدين بخصوص الاعتقاد السائد بأن الكون خلق منذ 6000 سنة، وحجتهم في ذلك؛ قوله تعالى ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ ) السجدة- 4
وقال تعالى ( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) الحج – 47
وقال تعالى ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) السجدة -5
وهذا محض جهل قد وقع به الكاهن عندما عجز عن فهم حقيقة الكون وزمن نشأته، فلجأ الى أقرب النصوص وأسهلها لتقديم رؤية لجمهوره الذي يتطلع لسبر أغوار هذا الفضاء المليء بالحقائق والتي عجز عن أدراكها، فمنذ قرون ولا زال يُقدم فكرة مغلوطة ومغايرة للحقيقة حيث وقع في فخ تأويل النصوص القرانية وتعامل معها بسطحية وبلادة والانكى أنه يقطع بها و يجزم بصحتها، وعوضاً من أن يُجهد عقله في تقصي ماهية الكون وزمن نشأته وأكتفى بما يختصر له القضية ليحافظ على كسله الفكري وليسخر طاقته ويستثمر قواه في صياغة منهجاً للسيطرة على عقول العامة، و أعتقد علينا أن لا نجزم في قضية ما، كما يفعل رجال الدين، لكي لا تقف أفكارنا حائلاً دون مناقشتها وحرمان الناس حق الاستفهام والتحري والتحقيق، لأن الجزم بصحة الرأي هو بمثابة الحجر على العقول من خلال بناء جدار لا يمكن أن يخترقه النور، فتبقى في غياهب ظلمات الجهل .
فما أعتقد به أن الكون لم يُخلق منذ 6000 عام كما يعتقد المفسرون وكما يتداوله رجال الدين وعامة الناس، فالآيات تحدثت عن الزمن الذي استغرق عند الخالق لأتمام خلق الكون وليس عن الزمن الذي مضى على خلقه، وفي غضون 4,5 مليار عام نشأ كوكب الارض وهو ما يخصنا في مقام البحث .
وأما فيما يتعلق بوجود بشرية قبل آدم، فلا يوجد ما يُثبت هذه الحقيقة ضمن معطيات تاريخية، إذ أن مراحل التدوين بدأت في الحقب الاخيرة من العصر الحجري الكالكوليت وهي ( حقبة الانسان العاقل ) السلالة البشرية الاخيرة، فلا يوجد دليل تأريخي لأثبات هذه القضية، ولكن ما ورد في بعض النصوص القرآنية و التي يُنتزع منها بحسب المُلازمات العقلية من خلال السياقات، وبعض ما توصل إليه علماء ” الانثروبولوجيا ” يُشير الى وجود بشرية قبل آدم النبي، وهو ليس أول البشر كما ليس أول إنسان .
ومع وجود نوع بشري قبل آدم، أصبحنا غير مُلزمين بنصوص تأريخية زائفة ذات صبغة مقدسة تُفسر لنا كيفية تكاثر سلالة آدم، والتي زُعِم أن البشرية أنحدرت نتيجة تزواج أبناءه الذكور من شقيقاتهم، والآخر إن الله أنزل حوريتين على إبني آدم فتناسلوا؛ فلا حاجة لنا بهذه الترهات بعد اليوم ونكتفي بهذا القدر المعلوم قُرآنياً وعلمياً وننأى بأنفسنا عن هرطقة المفسرين وتدليس المؤرخين .
والحفريات التي أثبتت وجود أقوام بشرية قبل آدم هي حقيقة علمية شاخصة، فليس من العقلانية أنكارها بذريعة أنها تُخالف الدين! والوهم العقائدي الذي وقع به العديد من المفسرين والمحدثين و تبعهم رجالات الدين والسواد الاعظم من الناس ( بأن آدم هو أول البشر ) وأن المخلوقات التي وصفها القرآن بأنها تفسد في الارض وتسفك الدماء هم ( الجن أو الحن والبن أو النسناس ) هي مزاعم مسخت الحقيقة أما عن قصد أو عن جهل مركب، و النقض على هذه الأساطير يكون على مراحل.
♦️ المرحلة الأولى: قال تعالى ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة – 21
أن آدم ليس أول البشر كما أنه ليس أول أنسان ! فما الذي يُثبت أن آدم أول إنسان وأن كان خلقاً مستقلاً ولم ينحدر من السلالات البشرية السابقة؟
أن إثبات العلم الحديث لوجود أقوام بشرية لا واعية، كانت لغة الغاب هي المسيطرة على طبيعة حياتهم و النفس الكامنة في تلك السلالات المنقرضة هي المُحرك الرئيس ومنشأ الاقتتال، كما هو حال الحيوانات الضارية من سباع الارض تتصارع من أجل البقاء !
فكانت تلك السلالات البشرية غير مؤهلة لتحمل التكاليف الالهية وهي أقوام أشباه الانسان العاقل فيزيولوجيا وليست ذات كمال عقلي تام، فلا يمكن أن يبعث الله رُسله لأمثالهم فهي سالبة بأنتفاء الموضوع، إذا مع عدم وجود العقل وأنتفاء مؤهلات التطور الفكري فلا يمكن صدور هكذا تكليف لأنه سيكون بمثابة العبث وعدم الحكمة .
وقد كانت البشرية الأولى من آيات الله التي نسخها وآتى بأية أفضل وأعظم منها وهو ( الانسان العاقل ) حيث حصلت القفزات في أرتقاء النوع البشري في عصر النياندرتال إلا أنه أنقرض لأسباب غامضة بينما شق الهوموسابينس النوع البشري الاخير طريقه نحو الإنسانية وبناء الحضارة وقد حصل أنعطافاً كبيراً في مسيرة البشرية في عصره، وكان مُهيأ عقلياً لتنزيل التكاليف الشرعية.
الكلام في مقدمات:-
المقدمة الأولى- القرآن لم يصرح بأن آدم أول إنسان أو أول بشر!!! فمن أين أستوحى تُجار الدين هذه الأكذوبة؟!
المقدمة الثانية- أن أشارة القرآن بوجود فترة من الرُسل قبل آدم دليل على وجود إنسان عاقل مُفسد حيث كانوا أمة واحدة فبعث فيهم آدم .
قال تعالى ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة – 213
المقدمة الثالثة- تلك الأقوام المفسدة من آخر سلالة بشرية كانت تتسم بنسبة من التعقل، فليس من المنطق أن يُرسل الخالق رسوله وخليفته لمخلوق غير عاقل لا واعي! ويأمره بتكاليف شرعية! فهذا من العبث وعدم الحكمة وهذا لا يليق بالذات الإلهية.
المقدمة الرابعة – فما دام آدم بُعث لبشر عقلاء والتكليف لا يصح في غير البشر العاقل، اذاً آدم ليس أول انسان! إنما بُعث والانسان موجود منذ ما يقارب 50 الف سنة بينما مضى على وجود آدم قرابة 5000 سنة، ولكن كرم الله ذريته على باقي بني الانسان.
المقدمة الخامسة- وجهاً آخر للحقيقة نكتشفه من خلال أستفهام عاقل نشير إليه في المقام ؛ وهو ما معنى جعلية الخلافة مع عدم وجود بشر عاقل؟! فهل يعقل أن آدم خليفة على نفسه وزوجته فقط؟! فالمراد من سياق آية أستخلاف آدم هو خلافة الله في عباده وهذا كاشفاً عن وجود سلالة بشرية عاقلة .
المقدمة السادسة – قال عز وجل ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) آل عمران:33
أن عنوان الاصطفاء دلالة كاشفة عن وجود بشر عاقل في زمن آدم الرسول، إذ لا معنى لأصطفائه وهو الإنسان الوحيد على وجه الأرض!!! فالاصطفاء هو أختيار الله لشخص ما من بين مجموعة من بني البشر، فلا منطقية في أسطورة أن آدم هو أول إنساناً أو بشراً كان على وجه الأرض وفي نفس الوقت قد أصطفاه الله، فلا معنى لمفهوم الاصطفاء في هذا الموضع وهو من العبث!! ويتضح مما سبق أن هناك بشراً عاقلاً قبل آدم وقد آصطفاه الله من بين أبناء جنسه، فليس كل بشر إنسان لكن كل إنسان بشر.
المقدمة السابعة- قال تعالى ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) الإسراء- 70
ما هو وجه التكريم لبني آدم؟ ومع من يقاس التفاضل؟
أن التكريم هو بمنح الروح لآدم وذريته، والتي من أجلها أمر الله الملائكة وأبليس بالسجود، فالسجود ليس لشخص آدم كما يفهمه البعض إنما للروح التي نفخها الله في آدم والتي لا يعلم ماهيتها غيره تعالى، والبشر الذين سبقوا آدم النبي كانت لهم نفوس ولم ينفخ الخالق روحه فيهم، فهي خاصة بآدم وذريته، والروح تُميز آدم عن باقي أنواع البشر، وبها كرمه الله تعالى على باقي الأجناس الأخرى وفضله على بني جنسه.
أما التفضيل الذي ورد في سياق الآية لا يعني أن وجه المفاضلة مع مطلق مما خلق تعالى، إنما خصوص من يصح مورد المقارنة والمفاضلة معه وهم بنو البشر، ولو أمعنا النظر في آيات التفضيل لوجدنا أنها تتحدث عن التفاضل بين الأنبياء والبشر فيما بينهم، وهذا ما يؤكد دقة ما نراه في وجه المقارنة وصحة المفاضلة .
قال تعالى( انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) ﴿٢١ الإسراء﴾
قال تعالى( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ﴿١٢٢ البقرة﴾
قال تعالى ( تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍۢ ) البقرة – 253
قال تعالى ( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ﴿٣٢ النساء﴾
قال تعالى ( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) ٨٦
قال تعالى ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ٨٣
قال تعالى ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) النساء:54
قال تعالى ( وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ ٱلْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۗ ) الأنعام – 165
عندما فضل الله إبراهيم وذريته إذ جعل فيهم النبوة و الكتاب والحكمة ورفعهم درجات، كان وجه المفاضلة مع بني جنسهم، إذا لا معنى للمفاضلة لبني آدم مع غير بني جنسهم، فالبشر مُختلف في جنسه الأعلى عن باقي الاجناس، فلو أردنا أن نُجري مفاضلة بين الحيوانات حتما لا تُقاس بالانسان أو الملائكة، فليس من المنطقية أن يقال ( الحيوان الاسد ) أفضل من ( الانسان ) ولكن من المنطق أن يُقال ( الأسد ) أفضل من ( الثعلب و القرد ) إذاً ليس من العقلانية والمنطق أن نُقارن ونفاضل بين الأجناس المتغايرة في سنخيتها! بالنتيجة نجد أن سياق آية الإسراء التي تحدثت عن التفضيل لبني آدم على خلق كثير كاشفاً عن وجود بشراً من سُلالات مُتعددة قد سبقت آدم ومن مظاهر التفضيل هو العقل وكمال الخِلقة .
♦️ المرحلة الثانية :
أن قياس الملائكة بحق الانسان آدم ” المخلوق الجديد ” أمر غير منطقي، ومن الظلم أن يُقاس آدم بما فعله ” الجن ” من سفك الدماء والأفساد في الأرض كما جاء في التراث الأسلامي .
قرينة أولى :- لو كان الجن هم من سكنوا الأرض و سفكوا الدماء، لكان قياس الملائكة باطل حيث قارنوا بين الجن والإنسان المتغايرين في الجنس، وقد لا يختلف كثيراً عن قياس أبليس في المفاضلة بالرغم من أختلاف لحاظ القياس، ولكن أمضاء الخالق لحقيقة تشخيص الملائكة ( صفة الافساد وسفك الدماء ) كاشفاً أن المولى أعطاهم العذر في قولهم؛ لأنهم يرون أن البشر الذين سبقوه قد سفكوا الدماء وأفسدوا في الأرض ولكنهم لا يميزون حقيقة الفرق بين آدم ونظرائه من البشر، وعلى هذا الأساس لا يُعتبر قولهم تجني أو قياس باطل كما فعل الشيطان بل أن حرصهم على جريان الخير في مملكة الخالق وعشقهم لله هو الدافع وراء ذلك الاستفهام التعجبي أو الاستنكاري، إذا لا يُعقل أن يُشككوا أو يتجنوا على مخلوق جديد لا يُدركون كُنهه ويقدمون انفسهم ك بديل أفضل والآله الحكيم يُمضي هذا القول!!! فيكون كمن يكيل بمكيالين وحاشاه فهو العادل، حيث يطرد أبليس لأنه فضل نفسه على آدم حين أستكبر وأبى أن يسجد له، بينما يمضي اعتراض وتشكيك وقياس الملائكة وتفضيلهم أنفسهم!!! وهنا تصبح مفارقة كبيرة لا يمكن قبولها، ومع بيان الفرق بين الموقفين للملائكة وأبليس تتجلى حقيقة وجود سلالات بشرية قبل آدم .
قرينة ثانية :- ومما يؤكد أن من سكن الارض قبل آدم و من نُسبت إليهم صفة الافساد وسفك الدماء هم سلالات بشرية، هو عدم ثبوت وجود دماء للجن وهم مخلوقات غير مادية ” مجردة ” والدم شيئاً مادياً فكيف تكون المادة جزء من اللامادي ؟! فالمتعين هو وجود سلالات بشرية، لأن مادة خلق البشر والجن متغايرة في سنخيتها .
قال تعالى ( خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) الرحمن:14- 15
وقال تعالى ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ) الحجر – 26 – 27
اذاً المتحصل لم يثبت بيولوجياً أن للجن دماء كجزء من خصائصهم التكوينية ومادة خلقهم حتى تسيل و تسفك .
♦️ المرحلة الثالثة :
أن نسبة صفة الافساد وسفك الدماء لا تصح على الحيوانات إذ هي غير عاقلة وليس من شأنها التعقل وهذه قرينة تؤكد أن تعجب الملائكة جاء بخصوص حقيقة وجود سلالات بشرية تمتلك من العقل ما يميزها عن الحيوانات ولكن آبت إلا الأفساد وسفك الدماء في الارض وهم الذين يصح أن نُطلق عليهم مفسدين .
لا ننكر وجود الرئيسيات كالقردة منذ نشأت الحياة على الأرض ولكن لا يعقل أن الخالق يتحدث عن عملية أفساد وسفك دماء و يعني بها القردة.
فهل القرد من النوع العاقل الذي يُلام على سفك الدماء والافساد؟! وهل من شأن الحيوان اللاعاقل التعقل أو يرجى منه الاصلاح حتى يوصف بالمفسد ؟! .
فلا يصح أن ننسب للحيوانات صفة الافساد لأنها غير عاقلة وليس من شأنها التعقل، وتكوينها ونزعتها الوحشية تقتضي سفك الدم والصراع من أجل البقاء.
فالمتعين أن البشر هم من يصدق عليهم نسبة صفة الأفساد وسفك الدماء.
♦️المرحلة الرابعة :
قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة – 30
أن استغراب الملائكة كاشفاً عن خلق بشر قبل آدم، و أعتراض الملائكة كان منشأه الخوف من الافساد، ولعدم علم الملائكة بالغيب في حقيقة آدم البيولوجية والسلوك العملي في المستقبل يؤكد أنهم كانوا يعلمون بحقيقة نظراء آدم من البشر لذلك توجسوا منه، إذ أن البشرية ممن سبق آدم قد أفسدت في الارض، فكان نتيجة قياسهم وفقاً للمعلوم لديهم ولعلمهم أن آدم من سنخ السلالات البشرية.
إذاً جاء أستفهام الملائكة التعجبي دليلاً جلياً على علمهم المسبق بطبيعة هذا النوع البشري وما نتج عنه من الفساد وسفك الدماء، وسياق الآية يؤكد هذه الدلالة .
ولا يوجد في سياق الآية أو سائر الآيات ما يُثبت أن الله قد أخبر الملائكة بما سيحصل مستقبلاً عند أستخلاف آدم وذريته في الارض، فليس من المقبول صدور هذا التعجب من عملية أستخلاف مخلوق لم يمارس دوره على مسرح الحياة بعد حتى يُفسد! والثابت أن الملائكة كسائر الخلق لا يعلمون الغيب بدليل قوله تعالى ( قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ ) البقرة – 32
كما أن آدم مُغايراً في جنسه وتركيبته الفسيولوجية لمخلوقات قد سبقته في وجودها على الأرض .
وكمثال تقريبي يُقال ؛ لو حكم الآن شخصاً ما دولة معينة وأفسد وقد أعقبه ولده وأفسد كأبيه وهكذا حتى التسلسل التاسع من سلالة المفسد الاول، فعندما تأتي سلطة عليا وتنصب الأبن العاشر من سلالة المفسد الأول ستستنكر الناس هذا الفعل في الأقدام على تنصيب فرداً من ذات العائلة التي أفسدت على مدى عقود !!!
ومن العقلانية أن تستفهم تعجباً أو أستنكاراً لما يقف وراء الحكمة من تنصيب فرداً من نفس سلالة تلك العائلة التي علم جميع الناس فسادهم!!!
ولكن ليس من العقلانية أن تستغرب الناس من تنصيب فرد من عائلة جديدة غير معروفة ومجربة سلفاً مع أختلاف خاصيته عن تلك العائلة التي أفسدت!! فالعقل السليم والمنطق الفلسفي يقتضي هذه الدلالة .
فوفق هذا المنطق يكون إستنكار وتعجب الملائكة مقبولاً مع حقيقة وجود سلالات بشرية سبقت آدم، لهذا استغربت من حكمة أستخلافه وقد تم تجربة هذه السلالة البشرية مُسبقاً، أما إذا لم يكن مما سبق آدم هي سلالات بشرية كما قيل ( الجن أو الحن والبن ) وغيرها من الأساطير .
فحجم التشابه بين آدم الانسان أشرف وأرقى السلالات البشرية وبين الأقوام التي سفكت الدماء، جعل الملائكة لا تميز بين طبيعة وجوهر هذا الكائن الارقى من بين مخلوقات الله .
المُلفت للنظر أن الآية تتحدث عن آدم وأستخلافه و سياقها يؤكد أن حديث الملائكة يقصد الآدمية وما نتج عنها من عملية إفساد، فلا أعلم كيف أدخل المؤرخون و المحدثون روايات الجن والحيوانات؟! وما هي الغاية من تغييب مقاصد القرآن؟! .
بقي أستفهاماً عاقلاً لابد من الأشارة إليه، إذ لم أجد أحداً قد تطرق إليه من قبل ولم أسمع به ولم أقرأه ولا أظن قد تم تداوله من قبل.
وهو إذا لم يكن ابليس شيطاناً رجيماً قبل خلق آدم يكيد لخلق الله فيغويهم ويضلهم، إذا ما هو الشيء الذي كان يتسبب بالصراع وسفك الدماء والافساد في الارض؟!
فهل كان هنالك شيطاناً آخر غير أبليس كان سبباً للصراع الدامي بين بني البشر ممن سبق آدم ؟!
فالمتعين أنهم بشراً وحالتهم ما بين الإنسانية والبهيمية وهو المتوافق مع آية الاستخلاف لآدم ونسبة صفة الإفساد له .
♦️المرحلة الخامسة :
ليس كل السبعة مليار بشر في عصرنا الحالي هم ذراري آدم، فبعد طوفان نوح والذي تزامن مع آخر حقب العصر الجليدي قيل بقي 80 أنسان على وجه الأرض بحسب المزاعم، فهل يعقل في غضون سنين قليلة وصل العدد الى ملايين البشر؟! بينما أثبتت الحفريات وجود الأنسان العاقل في أوروبا وسائر القارات قبل حدوث طوفان نوح وبعده .
ولنا أن نتحرى ونستفهم قائلين هل عم الطوفان جميع الارض وأغرق كل البشرية؟ أم أغرق قوم نوح في غرب الجزيرة العربية فقط؟
والحقيقة العلمية تؤكد نفي عالمية الطوفان، حيث وصل الانسان أستراليا منذ حوالي 40 الف سنة وقد وصل الى سيبيريا بحوالي 35 ألف سنة الى 13 الف سنة ، وهاجر من كندا الى المكسيك بحلول 9500 الى 9000 ق – م ، وقد وصل الانسان الى امريكا الجنوبية بحلول 8,500 ق- م ، فيتكشف لنا إن من هلك غرقاُ هم فقط قوم نوح لا عموم البشرية
وبما أن الكتب السماوية تصرح بأن الطوفان جاء نتيجة غضب الله على قوم نوح، إذا هو لا يشمل الانسان الاوروبي والافريقي والاسترالي وغيرهم، لأن دعوة رسوله لم تصل إليهم! ولم يُبلغهم رسالاته !
فمن يؤمن بعالمية الطوفان يقع في إشكاليات عدة، منها لم يُلق نوح الحجة على عموم بني الانسان في سائر بقاع الارض، فكيف يُعذب الله بشراً لم تُلق عليهم الحجة؟! ولم يُبعث لهم رسولاً هادياً ؟! فهل من العدل الإلهي أن يُظلم إنسان بجريرة إنسان عاصي غيره؟!
الشيء الآخر لا توجد عملية أستقصاء دقيق من قبل المؤرخين أو غيرهم أن الطوفان أغرق كل الأرض؟! فلا نعلم كيف تمكنوا من أجراء مسحاً جيولوجياً في أيام الطوفان لكل الأرض حتى وثقوا حقيقة عالميته؟!
فالانسان الاول المسمى ” بالهوموسابينس ” كما أسلفنا كان قد أنتقل منهم جماعات الى أوروبا قبل أكثر من 40,000 سنة، بمعنى قبل طوفان نوح قد أنتشر في افريقيا واوروبا واستراليا وغينيا والأمريكيتين، بينما العذاب يتحدث عن أولئك الذبن عصوا في غرب الجزيرة العربية ممن عاصر نوح من قومه وقد ألقيت الحجة عليه؛ وهذا يكشف لنا أن الله لم يُغرق ويُهلك كل النوع البشري بسبب عُصاة الجزيرة من قوم نوح، وهذا عين الحكمة والعدل واللطف الإلهي!!! ووفق هذه الرؤية تكون فكرة عالمية الطوفان محض هرطقة .
ومما يُضاف ويعزز ما سبق هو أن سكان العالم في سنة 10,000 ق- م كان يقدر ب 6,000,000 ملايين فرد، و طوفان نوح قبل الميلاد قرابة 3500 سنة، يعني قبل 6500 سنة قبل الطوفان هنالك ملايين البشر في العالم، وفي زمن نوح كانت الأعداد مضاعفة وصلت قرابة 50 مليون بشراً وقد أنتشروا في الأقاليم بالعصر الجليدي .
وحصيلة التحقيق العلمي والقرآني في حقيقة وجود بشرية قد سبقت آدم يتلخص في التالي.
أولا .. ثبت علمياً وقرآنياً وجود العديد من الأقوام البشرية التي سبقت آدم البشر الانسان .
ثانيا .. الظاهر قرآنياً أن آدم الانسان خُلق بشكل مستقل ولم ينحدر من سلالة بشرية معينة، ولكن لا يمكن أثباته أو نفيه من الناحية العلمية.
ثالثا .. ثبت قرآنياً أن آدم خُلق من ذات المادة التي خُلق منها البشر الاول، بينما ثبت علمياً أنه يحمل ذات الصفات الفسيولوجية للإنسان الهوموسابينس .
رابعا .. ثبت علمياً وقرآنياً أن خلق الكون حصل بشكل تدريجي ومنها كوكب الأرض.
خامسا .. ثبت قرآنياً أن الله يدعو للنظر العلمي في كيفية بدأ خلق الكون وكيفية تشكل الأرض ونشوء الحياة عليها وهذا لا يتعارض مع الجهد العلمي الذي قدمه العلماء لنا .
وتبقى الاستفهامات قائمة في كثير مما يتعلق بهذا الموضوع حتى يتقدم العقل البشري ليُجيبنا عنها ونأمل من أبنائنا أن يهتدوا لأجابات علمية ناجعة في المستقبل، ولا نسمح بقطع الطريق على العقل في تقصي الحقيقة من خلال تصدير أفكار ونظريات جازمة أو أستعراض أجابات قمعية بأسم الدين والتراث، أفسحوا المجال لعقول أبنائنا كي تنضج لترتقي بالبشرية الى مصاف الكمال العلمي والتكنولوجي ولا تحرمونا فيض العقول وإبداعها.